أجهزة البث والإرسال في الأجساد وفي البيوت التي نخلد إليها باتت تعمل بوظيفة كاملة، حتى من دون أن يعي ذلك سكان الأجساد والبيوت، يشعرون ولا يعون، فقدوا القدرة على التمييز بين ما يشاهدون وما يلمحون، وما لا يشاهدون ولا يلمحون، ولكن شبِّه لهم. وأنت تلمح صوراً تلفزيونية وغير تلفزيونية دون قصد، تخترق مجالك البصري من دون استئذان. أنت مهتم بالسياسة، لكنّ نوعاً محدداً من الأخبار لم يعد يثير فضولك. فأنت لم تعد تنتظر ما تؤدي إليه اجتماعات السياسيين وقادة الدول... فالمضمون غير متعلق بالصورة أصلاً، لأنك ترى رجالاً ونساء يبتسمون، ويتصافحون أو يتعانقون أمام الكاميرات. مهم أن يجلسوا، وربما ما يقولون، ربما، لكن من ينتظر فعلاً وبجدية ما سوف يقولون هم عن الجلسة التي جرت؟ هنالك من أدمن «انتظار النتائج»، وبالنسبة إليه هذه هي «الأخبار» بالمعنى الحرفي للكلمة.
وإذا لمحت أولمرت على جهة من الطاولة في بيته في القدس وطاقم من الرئيس ومستشاريه على جهتها الأخرى، أو إذا لمحت السيدة رايس مع قادة ووزراء في صورة تمر كلمح البصر، وأنت لا تعرف عمّا يتحدثون أثناء السماح للكاميرا بالتصوير، إلا إذا مررت بظروف مشابهة: عن الطقس أو الطريق أو آخر ما رأوا أو تاريخ البناية التي يعقد فيها الاجتماع أو عن الصحة. وأنت تعلم أنهم سيدخلون في الموضوع بعد أن يخرج المصورون... ومع ذلك قد يستغرب المرء ما يمكن أن تثيره هذه الصور مما ليس بوسع النفس أن تتحكم به من تداعيات حول العبث والمعنى والجدوى، مثلما تثيرها لدى المرء في حياته الشخصية أحداث من نوع خبر مباغت عن وفاة أحد معارفه، حتى لو لم يكن صديقاً مقرباً لمجرد أنه رآه حياً يرزق ويخطط تفاصيل حياته قبل يومين، أو خبر عن انتقال متطرف من موقف إلى آخر بدون مقدمات.
لا شبه بين الصور الإعلامية وغير الإعلامية التي تخترق مجالنا الحيوي والبيولوجي والنفسي بدون إذن وبين هذا النوع من الأحداث الشخصية، لكن التداعيات متشابهة. وإذا لم يغرق من يفكر بالسياسة بالتفاصيل الصحافية وإذا كان يتمتع ببعض الحساسية، أو إذا كانت لديه رؤية أو موقف رؤيوي يعيد الاعتبار إلى كلمة إيديولوجية باعتبارها ليست مجرد وعي زائف، بل ربطها في مكان ما مع التحليل العقلاني هي مهمة المثقف في السياسة، إذا كان يملك موقفاً منطلقاً من قيم مثل العدل والحرية والمساواة لا تحليلاً لموازين القوى فحسب، فسوف تصادفه من حين لآخر أسئلة وجودية وأخلاقية عن الجدوى والمعنى من هذا كله. السؤال عن الجدوى بين الفينة والأخرى بغض النظر عن سخافة الداعي له هو مهمة شاقة، لكن لا مهرب منها.
يأتي السؤال مباغتة دون سابق إنذار على حين غرة فينقل زاوية النظر إلى طبقة أعلى تشرف على الصورة الشاملة وتتيح رؤية حركة التغيير في المشهد برمته بدل حركة التفاصيل الشيطانية داخل المشهد نفسه، أو ينقلها باتجاه معاكس إلى طبقة أدنى، تحت سطح الأرض مثلاً، فيتوقف عن رؤية وسماع كليهما، التفاصيل والصورة الشاملة. والفاصل بين اتجاهي الحركة في نقطة البداية أقل من شعرة، وكان يمكن أن يتحرك المرء بأحد اتجاهين معاكسين؛ رؤية الصورة الشاملة وحدها، أو فقدان الرغبة برؤية أي شيء، للسبب نفسه. ولا يوجد تفسير إلا في أعماق النفس البشرية أو البنية الشخصية لماذا انتقل المرء إلى التفكير الأشمل وبالموقف الأخلاقي لا إلى العدم، إلى التفلسف لا إلى الصمت، إلى النقد من منطلقات قيمية لا إلى الاستمرار بقوة القصور الذاتي، لكن بعدمية قيمية أعمق؟ النقطة نفسها تشكل منطلقاً للاتجاهين المتعاكسين. أن تدرك فجأة سؤالاً مثل: منذ متى يتفاوض الواقع تحت الاحتلال مع الاحتلال، وعلامَ؟ ما معنى مثل هذا التفاوض؟ ما معنى أن نصل بالأدوات السياسية إلى أن الحصار الدولي ليس مفروضاً على الدولة المحتلة في فلسطين، بل على الشعب الواقع تحت الاحتلال؟ وحتى بعد قرار المحكمة الدولية في لاهاي ضد ممارسات دولة الاحتلال فإن من يتعرض لعقوبات دولية، غير مقررة قانونياً طبعاً، هو الشعب الواقع تحت الاحتلال.
وإسرائيل تستمر بممارسة الاغتيال، وذلك ليس وحده، بل ضمن عدد لا يحصى من الجرائم. وهي تواصل احتلالها ولم تنسحب بعد، بل تقيم عوض ذلك نظام أبرتهايد. ولا تجري مقاطعتها، وليس هنالك طلب لتشكيل محكمة جنائية دولية ضد مجرميها، مع أن جهازها القضائي عاجز عن تقديمهم للمحكمة، ولا يثق به أحد في كل ما يتعلق بالشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال أو كل ما يتعلق بمحاكمة جرائم حرب تمت في سياق الدفاع عن «أمن الدولة»، لكي لا يتردد الجنود في المستقبل. والحالة حالة جرائم حرب دون محاكمة. ولا يكفي أن إسرائيل لا تقدم لأية محكمة دولية بشأن الجرائم التي ارتكبتها ضد القرى والمدنيين أثناء الحرب على لبنان، بل إن لمصطلح محكمة دولية سياقات أخرى تماماً في منطقتنا. ومن الموقف التاريخي لمقاطعة إسرائيل وعدم الاعتراف بها وصلت الدبلوماسية العربية إلى محاولة إقناعها بأن تفاوض هي الطرف الفلسطيني وأن تعترف به. لقد دفعت م. ت. ف. ثمناً سياسياً باهظاً لمجرد اعتراف إسرائيل بها. والآن لا تعترف إسرائيل بالقيادة المنتخبة للشعب الواقع تحت الاحتلال. وتعترف انتقائياً بمن تريد. وتتوجه القوى المنتخبة المعترف بها انتقائياً لتجتمع مع رئيس حكومة دولة الاحتلال مرة تلو الأخرى حول أجندات يقررها هو لأنه هو الطرف الذي يملك الأجندات ويستقبل المطالب. وفي الواقع تحول المشروع الوطني إلى نضال مطلبي، وربما سعي مطلبي لدى الدولة المحتلة.
في عالم الحروب والصراعات إما أن يتفاوض الأعداء أو لا يتفاوضون، يتوقف على درجة نضجهم وتوصلهم إلى قناعات أو كاستمرار للحرب بوسائل أخرى تترجم نتائجها. وبرأينا ليس هنالك ما يتم التفاوض بشأنه بين استعمار وشعب يقع تحت الاحتلال. وإذا جرى تفاوض، فمجرد أن يجري التفاوض قبل إعلان دولة الاحتلال الاستعداد للانسحاب الكامل والاعتراف بحق تقرير المصير يفقد الشعب الواقع تحت الاحتلال هذه الصفة ويصبح طرفاً في مفاوضات غير متكافئة بين طرفين. لذلك يعلن الشعب الواقع تحت الاحتلال أنه لا يفاوض دولة الاحتلال، وأنه يناضل أو يصمد إلى أن تعلن عن استعدادها لتصفية الاحتلال، وعندها يصبح بالإمكان التفاوض في كيفية التنفيذ.
في فلسطين أصبح حلم حركة التحرر هو أن يعترف الاحتلال بها. ليس بذنبها وحدها طبعاً، ولكن هذا ما جرى منذ التسعينيات. وما ان حققت هذا الحلم حتى تحولت إلى طرف بين طرفين، وبعثرتها هذه اللعبة بين كيان سياسي افتراضي ليس ذا سيادة وشظايا وبقايا حركة تحرر.
وعندما أتيحت فرصة الانتخابات انتخبت حكومة فلسطينية ترفض هذا النموذج، لكنها لا تستطيع أن تحكم بسبب أسباب انتخابها، أي لأنها حركة مقاومة تحت احتلال. وهي تعارض التفاوض، لكنها لكي تتمكن من الحكم انتدبت من تعارض خطه السياسي ممن بعثروا الحركة وتزعموا الكيان الافتراضي للتفاوض من دون أن تتفق معه على محاذير التفاوض. انتقلنا من محاولة إقناع العالم العربي بقبول السلام مع إسرائيل ككيان استعماري مغتصب للأرض ومعتدٍ على الشعب، ولا تكتفي أميركا وإسرائيل وبعض الدول العربية بمبادرة سلام عربية، بل تجري محاولة للضغط على القمة العربية لتحويلها من مبادرة سلام تجسر بين الموقف العربي والسلام مع إسرائيل إلى موقف عربي ابتدائي جديد يحتاج إلى مبادرة سلام جديدة تقدم المزيد من التنازلات، وقد تتحول هي أيضاً إلى موقف ترفضه إسرائيل... حالياً تشكر إسرائيل العرب على كل مبادرة وتشجعهم على الإتيان بمبادرات جديدة وصياغات جديدة والإكثار منها. وكان المنطقي أن من لديه مصلحة بالسلام والأمن أن يقدم هو المبادرات للعرب ليقوم هؤلاء برفضها ومباركة جهده وتشجيعه على تقديم المزيد من المبادرات.
قد نحلل إلى أين يقود هذا الجهد؟ ويمكن أن نبين أنه لن يتوقف عند مسألة حق العودة، بل سيطالب بتعديلات في خطوط الرابع من حزيران لتشمل أيضاً القدس. ويمكن أن نبين أيضاً لماذا لا توجد لدى إسرائيل مبادرات سلام لكي ترفض وتشجع على جهدها. لكن السؤال حول المعنى، من أجل ماذا؟ أمن أجل أن يفاوض، ثم يحكم هؤلاء الذين لمحتهم للتو، أو شبه لك، نصف دولة على نصف الضفة الغربية وقطاع غزة؟ أم من أجل أن يستمر أولئك بالحكم في دول غير ديموقراطية داخلياً وفاقدة السيادة خارجياً؟
صحيفة الأخبار اللبنانية