بعد حرب حزيران عام 67 مباشرة شرع العرب بالحديث عن «إزالة آثار العدوان»، أي العودة إلى الوضع الذي سبق العدوان الإسرائيلي. لم يكن ذلك ممكناً برضى إسرائيل، ولم يعن ذلك سوى الخيار العسكري لتصحيح العطب الذي لحق بمسار التاريخ في تلك الساعات التي لامست فيها الحقيقة الخيال، والتي تمنّى كثيرون لو كانت كابوساً يستيقظون منه في اليوم التالي. ثم ما لبث العرب أن تعوّدوا الحديث عن الشرعية الدولية الكامنة في القرار 242. لكن حتى هذا لم يحصل ولو على جبهة واحدة قبل تحقيق إنجاز عسكري جزئي على الأقل، يجبر إسرائيل على إعادة أراضٍ بالتفاوض الذي يمثّل استمراراً للقتال بوسائل أخرى، ويمنح الطرف العربي إمكان التفاوض من موقع من أعاد لنفسه الاعتبار، لا بمنطق الاستسلام...
استعادة الأراضي العربية باتفاق سلام مع إسرائيل دون تحقيق اي إنجاز آخر، يعني أن العدوان حقق أهدافه: التوسع ثم مقايضة العرب الأرض التي احتلت بالاعتراف في معادلة الأرض مقابل السلام. وقد بات الإسرائيليون يسمونها «تنازلات مؤلمة». ومن يتنازل يتنازل عن شيء يملكه، أما إعادة أراض احتلت بالقوة فليست تنازلاً، ولا حتى بمنطق مجلس الأمن، الذي ينطلق من قراره من أن إسرائيل دولة عضو عادية احتلت أراضي بالقوة.
لكن التفاوض يحيّد حتى قرارات مجلس الأمن، وبلغة العرب السياسية التي لا يفهمها أحد غيرهم، يستبدل التفاوض «الشرعية الدولية» بـ«الشرعية التفاوضية»... وما دام الفلسطينيون مثلاً، قد رضوا بالتفاوض طريقاً وحيداً، فعلى العالم انتظار نتائجه والتوقف عن إدانة إسرائيل لعدم تطبيق القرارات الدولية.
ومعادلة الأرض مقابل السلام هي معادلة تبدو حالياً متوازنة، لكنها تاريخياً معادلة إسرائيلية بكل حرف من حروفها. فهي تطبيق للأهداف المعلنة لإبقاء ما سمّته إسرائيل بعد الحرب «المناطق المدارة» تحت السيطرة الإسرائيلية تمهيداً لمقايضتها باعتراف عربي يتلوه سلام. قبول معادلة الأرض مقابل السلام الإسرائيلية يعني أن إسرائيل دافعت عن نفسها فعلاً في ذلك العام، إذ احتجزت أراضي لمن لا يعترف بها لكي تجبره على صنع سلام معها...
لقد قامت منظمة التحرير الفلسطينية في القدس الشرقية تحت السيادة العربية، وكان العرب في حالة حرب مع إسرائيل، والضفة والقطاع تحت سيطرتهم. لكن معادلة الأرض مقابل السلام الحالية تعني استرجاع الأرض العربية التي احتلت عام 67 كأن الحرب والصراع والقضية الفلسطينية بدأت في ذلك العام. والسبب الوحيد أن العرب لم يعترفوا بإسرائيل التي شنّت حرباً دفاعية. أما السلام فيعني الاعتراف بإسرائيل في حدود ما قبل الحرب وإقامة علاقات عادية معها. وهذا تأكيد لرواية إسرائيل عن الحرب وأسبابها ونتائجها.
ويفاجأ البعض عندما يدركون أنهم «رضوا بالهمّ، والهم ما رضي بهم». فإسرائيل لم تعد تكتقي بهذه المعادلة. وهي تريد اعترافاً بها بوصفها دولة يهودية، وتشترط عملياً التسليم العربي بالصهيونية. وهو التسليم المطلوب لتجاهل قضايا اللاجئين وطبيعة إسرائيل العنصرية داخل الخط الأخضر. أما اليمين الإسرائيلي فيشدد على «مبدأ السلام مقابل السلام»، لأن العرب لا يصنعون معروفاً لإسرائيل بقبولهم السلام بل يُسدون لأنفسهم معروفاً لأن السلام في مصلحتهم، السلام يحفظ سلامتهم من يد إسرائيل الطولى. السلام مقابل سلامتهم.
وظهر من العرب من يبرر المعادلتين. وقد بُرّرت الأولى بأن قبولها انتصار على نزعات إسرائيل التوسعية. ولكي يظهر حجم الانتصار لا بد من أن يروي العرب رواية ويصدقوها، وذلك بتصوير نيات إسرائيل الشيطانية الأولى كأنها توسع لا ينتهي من النيل حتى الفرات وكأنها كلية القدرة، لا تتخمها هذه الملايين الفلسطينية وتمنعها عن ابتلاع المزيد. أما مبررو السلام مقابل السلام، فقد بالغوا في تصوير قوة إسرائيل حتى خارت قواهم وارتعدت فرائصهم من مجرد الوصف.
ومثلما في حالة المشاريع الكبرى، يرافق انهيار المشروع مظاهر انحلال نشهد بعضها حالياً في تحويل اللاجئين في لبنان، لا قضيتهم فقط، الى احتياط للصراعات اللبنانية الداخلية، والعراقية الداخلية، والعرب في إسرائيل رهن صراع داخل المؤسسة الصهيونية الحاكمة وبين العرب المستفيدين من الأسرلة على أنواعهم من داخلها وخارجها، وما يرافق ذلك من مظاهر التحلل القيمي والخلقي والمعياري التي تجمع بين المزاودة والأسرلة... حتى تصبح العمالة نفسها وطنية إذا كان في الإمكان تقديمها نوعاً من الصمود.
كيف ولماذا أمكن التعامل مع الإنجاز الإسرائيلي من الحرب الكامن في قبول معادلة الأرض العربية مقابل الاعتراف والسلام العربي كأنه مطلب عربي. نستطيع أن نحصي عشرات العوامل، ومن ضمنها تبدد استراتيجية التوازن الاستراتيجي واعتماد ما سمي باستراتيجية السلام الناجمة عن عجز لا عن خيارات، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وتحول الدبلوماسية الاميركية ومصطلحاتها الى وسيط، ليس برغم علاقتها مع إسرائيل بل بسبب هذه العلاقة... لكن هذه العوامل كانت قادرة على الفعل في ظل صيرورة سبقتها ومكّنتها من ذلك. ونقصد تفتت الصراع العربي- الإسرائيلي إلى قضايا، ثم إلى مفاوضات منفصلة لتحقيق اتفاقيات سلام منفصلة تسمى «مسارات». ولذلك بات الحديث ممكناً عن «تقدم على هذا المسار»، و«تراجع» ذاك، وأيضاً بات ممكناً الحديث عن الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي كأنه صراع كيانين، وحقين متوزايين، أو عن شعبين لهما الحق نفسه على الارض نفسها «المتنازع عليها».
لم يكن صعود التيار الإسلامي، ولا تبنّيه الخطاب السياسي القومي بعد تديينه في نوع من القومية المجروحة المفرطة المتلهبة (رغم كل سجالاته ضد القومية) هو المظهر الوحيد لضرب التيار القومي العربي بصيغته الحاكمة وغير الحاكمة في حرب عام 1967، بل أيضاً انفراط عقد الصراع العربي- الإسرائيلي الى مسارات شملت، بعد مطالبة مديدة، مساراً فلسطينياً وقدمت لغرض انطلاقه تنازلات. وكان هذا هو الوجه الآخر لإعلان «الممثل الشرعي والوحيد»، وتحوّله إلى كيان ينافس إسرائيل بدل الصراع مع إسرائيل.
لقد أنجزت حرب 67 الكثير على المستوى الإسرائيلي، أما على مستوى الصراع مع النظام الرسمي العربي، فقد أنجزت التحول من إزالة آثار العدوان الى قبول أهدافه، أي استعادة الاراضي التي احتلت عام 67 مقابل سلام واعتراف، والتخلي عن القضية الفلسطينية وتحويل الأرض التي احتلت في ذلك العام الى اساس لحل القضية الفلسطينية. من هذه الزاوية بإمكان الإسرائيلي القول إنه حل القضية الفلسطينية على الأراضي نفسها التي كانت في حوزة العرب، فيما لم يحلّوا هم القضية الفلسطينية رغم انها كانت في حوزتهم. من هذه الزاوية، زاوية الأرض مقابل السلام، تصبح الرواية الإسرائيلية منطقية. ولا يستبعد أن يقال ان إسرائيل حررت هذه الأراضي من العرب لصالح الفلسطينيين. ومن يسمع بعض الفلسطينيين ممن ربطوا مصيرهم بالتسوية مع «جيراننا» الإسرائيليين يدرك أن هذا اليوم ليس بعيداً.
لكن هذا التصور محكوم بقصر نظر كارثي. فإسرائيل كما قلنا، لم تعد ترضى بمعادلة الارض مقابل السلام الإسرائيلية اذا كان ذلك يعني كل الأرض، وهي تشدد أكثر على عنصر السلام مقابل سلامة وطعام وحرية حركة «جيرانها» الفلسطينيين وسلامتهم من القصف والحصار. وهزيمة الأنظمة عام 1967 فجّرت المقاومة الفلسطينية بعد ذلك العام، وما زالت التسوية الفلسطينية أعلاه تتصارع مع إرث هذه المقاومة، وكلما رمى الراية أحدهم رفعها آخر. لكن الأمر الأهم هو أن النزعة الوحدوية التي تلقّت ضربة على مستوى النظام الرسمي والكثير من النخب، وحتى الجماهير المرتبطة به، وجدت لها تعبيرات أكثر حدة والتهاباً. وما زالت هذه سمة المرحلة.