د. عزمي بشارة
لا يتشكّل الإنسان، ولا يُعاد تشكيله، بناءً على نموذج. وكل محاولات "بناء الإنسان الجديد" التاريخية المعروفة باءت بالكوارث. ونحن، والحمد لله، لم نُنْكَب بأنظمةٍ شموليةٍ قادرةٍ على تشكيلِ عربيٍّ جديد، بل بأنظمةٍ سلطويةٍ رثة "فحسب"، ليس بمقدورها إِلا تشويه القديم، بإفساده أو قمع كبريائه وشخصيته، للتمكّن من إخضاعه. والقمع في حالة التخلف غالباً ما يعبر عنه بالعنف الجسدي واللفظي.
وبما أَنه لم ينشأ نظام قادر على تشكيل "عربي جديد"، بهندسة اجتماعيةٍ كارثيةٍ ما، فقد نشأت ملامحه خارج التخطيط والبرمجة، بعد أن استهلكت الأحلام والخيبات جيلًا كاملًا، وراحت تتشكّل من خلال الممارسة العملية خارج النظام القديم، ومن خلال النضال الرافض للواقع العربي، والسجال الفكري مع زمانه.
وأَخيرًا، لمحنا معالم زمن جديد، في الإنسان الذي ضاق ذرعًا بالخضوع لسلطوية رثةٍ، أفسدها الفساد، فتمرد على جلاوزة القمع، وقال لا للبيروقراطية المتخلفة، ولنظام اللصوصية القائم على الزبائنية. بانت في المجال العمومي لعامي 2011 و2012، وميادينهما، ملامح عربي يرفض العنف الجسدي وسيلة للتعامل معه، ويتوق إلى حقوق المواطن، ويصدح بقيم ٍ مثل الكرامة والحرية، وشرطهما أن لا يمضي يومه بالتفكير بسد رمقه، فطالب بالخبز، إلى جانب الحرية والكرامة (العيش بالمصري). إِنها ملامح زمن عربي حديث، وليس جديدا فقط.
وقبل أن تجتمع قوى الماضي، المادية والمعنوية، على الزمن العربي الجديد هذا، سمعناه يتهكم على الخطابية المفخمة، والأيديولوجيات الكبرى التي تخفي المصالح الصغرى، ويختبئُ خلفها رجال الحكم الصغار، وأقرباؤهم وأنسباؤهم. ولاحظنا، بدهشةٍ، أنه يتمسك بهويّته العربية ضد الطائفية، ومن دون أَيديولوجياتٍ قومية، ويهتف للديمقراطية ولفلسطين في الوقت ذاته.
يريد بلداناً حديثةً متطورةً من دون نظريات نيو- ليبرالية، وعدالة ً اجتماعيةً من دون أَيديولوجيةٍ شيوعية، وديمقراطيةً من دون أَن يشمل ذلك تخلياً عن عروبةٍ ثقافيةٍ، أساسها اللغة، وسياسيةٍ، محورها فلسطين، التي ترمز إلى التمسك بالعدالة ورفض الاستعمار. لقد رأينا شباباً ينادون بالحقوق المدنية، من دون أن تسحرهم ديمقراطية إسرائيل، ويتمسّكون بعروبتهم من دون تعصب قوميٍّ ضد الثقافات والقوميات الأخرى. رأينا عربًا جددًا يجتمعون، رجالاً ونساءً، في الساحات، من دون عنف وتحرش جنسي. يحبون التنوع، ولا يتعصبون لهوية.
ولكن، براءة بداية الزمن العربي الجديد حرمت أَبناءَه من الدهاء اللازم، لتشخيص أَحابيل السياسة القديمة ودهاليزها، بأحزابها وإعلامها. وعفويته جنَّبت أَبناءه التنظيم. هؤلاء لم يخبروا الفرق بين الاحتجاج السياسي والعمل السياسي لبناء الديمقراطية. فاجتمع عليهم كلُّ ما ثاروا ضده: العنف والجهل والتعصب الطائفي والعسكرتارية والأَحزاب القديمة وحساباتها، وخانهم من أَوهمهم بأَنه راجع تاريخه العسكري، أَو نقّح ماضيه العصبوي، وأصبح ديمقراطياً.
وحوّل هذا التحالف غير المقدس الحلم إِلى كابوس. والأَحلام في السياسة، عموماً، تميل إلى التحول إِلى كوابيس. لقد أَغرقه في الدماء في بعض البلدان، وطمس الحدود بين الاستبداد والديمقراطية بشظايا هوياته، وعصبيات "نحن" و"هم" بين أَكثريات وأَقليات، وإِسلاميين وعلمانيين، لتحل هذه الانقسامات بدل الانقسام بين ديمقراطيين وغير ديمقراطيين. لقد أَحلوا الصراع الهوياتي محل الأخلاق، فأصبح القتل متاحاً، وكل موبقة حلالاً، ما دامت تمارس ضد الآخر: ضد"هم". هكذا، وُضع الديمقراطيون أَمام تحدٍّ كبير، فقد تحول الصراع ضد الاستبداد إِلى صراعٍ مع التخلف الاجتماعي والثقافي الذي يقوم عليه برمته.
ورصيدُه أَن الزمن العربي الجديد لم يكن سراباً، يتبدد كلما اقتربنا منه. كان جيلاً كاملاً من الشباب الذي هتف فعلا، وتضامن فعلا، وحمل جرحاه وشهداءه، مكتشفاً صوته ودمه، مندهشاً غير مستوعب لما يجري. كان جيلاً أَيقظ أَحلام أَهله المنسية، وأَلهب خيال مجتمعه، آسراً العالم بأسره. فصدم الانتهازيين، وأَرعب القوى الرجعية، دولاً وأَنظمة، تلك التي تسمى يميناً، وتلك التي لا تحمل من اليسار إِلى التسمية والتعصب لها. اجتمعوا عليه. ولكن، لا أحد منهم يجرؤ على السخرية منه سوى الغبي. فما زال شبحه يجول في الوطن العربي، من المحيط إلى الخليج، ما زال يسكن اللغة والنظرات والنبرات، إِنه هنا وهناك، وفي كل مكان يجد صدوراً يلجأ إليها، وقلوباً تؤويه في العالم أجمع. وهو، الآن، يستجمع قواه، يتحسر على أَخطائه، ويضحكك من سذاجته، ويبحث عن برامج سياسية عملية، وأَشكالٍ تنظيمية، وأَجوبة على الأسئلة، مستكملاً مسيرته الشاقة والظافرة.
إنه يستعد لعودةٍ تشبه القدر، فبذرة التطلع إِلى الحرية والمساواة والعيش الكريم في ضمائر وقلوب جيل كامل، وتربة الواقع خصبة. والجيل هذا سوف يصبح جيلاً من المواطنين، وسوف يتنافس ببرامج سياسية وثقافية، ليحكم الأوطان العربية كلها بعد حين. والأسئلة تحتاج إِلى نصوص، وكذلك محاولات الإجابة.