يصعب حتى على خيال الإنسان المتوسط المتمرس في مدرسة هوليوود العالمية، وقد تخرّج منها خيال كل الناس أن يرسم في ذهنه صورة لقنبلة بوزن 8 طن تلقى من السماء الى الأرض. ولكن سكان قرية مادو النائية في منطقة طورا بورا الجبلية شرقي أفغانستان لم يضطروا لإعمال الخيال، ونقصد من بقي منهم على قيد الحياة. لم يبق في القرية بيت ولا كوخ واقفا على حاله، “انهد حيلها وحيل سكانها” من وقع الانفجارات. ولا أحد يحصي عدد القرى أو البشر الذين لاقوا هذا المصير في خضم الانشغال الدولي بالفيلم البوليسي الأميركي الذي لن ينتهي إلا بالقبض على “الأشرار” أو القضاء عليهم.
وقد اعتاد الخيال العالمي المدرب هوليوودياً أن يتجاهل معاناة ومصير غبار البشر الذين يقتلون أثناء تبادل إطلاق النار بين المحقق البوليسي البطل وبين المجرمين الأشرار، والذين تنقلب سياراتهم وتحترق أثناء الملاحقة، والذين يداهمهم الموت في الشارع وسوق الخضار، الذين شاءت إرادة المخرج أن تمر فيها حبكة الفيلم في الطريق إلى قبلة النهاية السعيدة بإنقاذ الفتاة المخطوفة. لقد اعتاد خيال الناس على اعتبار عموم الناس العاديين الذين يزيّنون حبكة الفيلم البطولي في الشوارع والقرى والأسواق كدليل على، أن قصته تدور في هذا العالم، مجرد غبار إنساني لا قيمة له.
كل شيء، كل شيء أهم من حياة أهالي قرية مادو وغيرها من القرى: زيارة رامسفيلد التي تشبه إطلالة المفوض الأعلى للشرطة إلى مكان وقوع الجريمة لتبادل الجمل القصيرة غير الخالية من الكلمات البذيئة مع المحققين الأبطال المكلفين بالقبض على المجرم، تصريحات مشرّف ووزير خارجية تحالف الشمال، أشكال ووجوه تحالف الشمال الذين يذكرون بالمتحالفين مع البطل (صاحب البطل) من السكان الأصليين في أفلام هوليوود التي تصوَّر في أفريقيا أو الدول العربية، والذين يموتون بالجملة من أجل بقائه على قيد الحياة، وخلال إرشادهم له في طرق بلادهم الوعرة بحثا عن رئيس العصابة الذين قتل صديقه أو اختطف صديقته. كل شيء ملفت للنظر إلا حياة وموت الناس العاديين الذين لا وقت لديهم إلا لعملية مطاردة لقمة العيش، والاحتيال عليها. هؤلاء الذين لا يشاركون في ميليشيات مسلحة ولا يتظاهرون في العواصم، ولا ينقسمون إلى تيارات إيديولوجية تسعى لإصلاح العالم. وباسم فقرهم وتعاستهم حكمت حركة “طالبان”، تخليدا لهذا الفقر وهذه التعاسة، وباسمهم وباسم حريتهم تقصف الطائرات الأميركية حتى أكواخهم.
صحافيو العالم الحر الشباب الذين يجوبون بلادهم ببدلات السفاري والأحذية السميكة بحثا عن خبر سياسي يرتبط بالحبكة القصصية المنتشرة في الغرب عن الأخيار والأشرار يرتطمون بهم ارتطاما، فيحثونهم على الإدلاء بجملة قصيرة تصويرية تشتم السياسة والسياسيين والعرب وبن لادن. لا يعنيهم الألم اليومي ولا التعاسة الروتينية إلى أن يفرض المشهد ذاته: حلق الذقون بعد التحرر من طالبان على الصفحات الأولى، دمار قرية مادو وغيرها من القرى والمجمّعات السكنية “التي قُصفت خطأ” في الصفحات الداخلية، ذبح سجناء طالبان المتمردين في جريمة حرب بشعة على الصفحات الأولى بسبب إيقاعها العنيف (أكشن). ولن
تنمحي من الذاكرة صورة الصحافيين الشباب الطموحين من مراسلي شبكات التلفزيون والصحف الغربية وهم واقفون بين جثث الأسرى المقتولين يتجاذبون أطراف الحديث والنكات أيضا، ولا يلتفتون إلى الجثث من حولهم.
ليست الصحافة كلب حراسة الديموقراطية وحقوق الإنسان بل هي حلبة السياسة، ومرآتها. كما أن الصحافيين هم سياسيو الإعلام. في الصحافة متسع لحقوق الإنسان وللديموقراطية بحجم المتسع القائم في السياسة، ومقدار الاستقامة فيها كمقدارها في السياسة. السياسة كلب حراسة الصحافة، كما أن الصحافة كلب حراسة السياسة.
ولكن قرية مادو تقع خارج السياسة، وقد أرادت حركة طالبان كما يبدو أن تخرج أفغانستان كلها خارج العصر وخارج السياسة، وأعادتها الطائرات الأميركية إلى الصفوف، صفوف الدول ضمن النظام العالمي الذي تحصى فيه أعداد القتلى. فهل سيتم إحصاء قتلى أفغانستان بأثر رجعي؟ وهل سيحاسب أحدٌ وزير الدفاع رامسفيلد وضباطه على ما ارتُكب في أفغانستان وجبالها النائية من مجازر؟ لا أحد يعير جرائم تحالف الشمال اهتماما، كما لم يعر أحد جرائم الطالبان ضد سكان أفغانستان اهتمامه إلى أن هز دوي الانفجارات أركان نمط الحياة الأميركي. ويستطيع أوباش تحالف الشمال حاليا أن يمثلوا بالجثث، وأن يطلقوا العنان لغرائزهم ليس في مجاهل صحراوية، بل وسط أكثف غابة من الكاميرات تعرفها بقعة جغرافية في عالمنا. فصحيح أن الرأي العام الغربي ليس متآخيا ولا متصادقا مع تحالف الشمال وغلاظته ووحشيته وجلافته فهي بنظره ثقافة وعقلية محلية، نوع من الأصالة إذا شئتم، ولكن والسؤال الوحيد الذي يستحق أن يسأل في الغرب في ظروف الانشغال بمطاردة الأشرار هو: لمصلحة من تسخر هذه الثقافة وهذه العقلية حاليا؟ وما دامت هذه الى جانب “الأخيار” في عملية مطاردة الأشرار فلتتلوث أيديهم بالدماء. وكيف يسائلهم الغرب المتحضر ويحاسبهم وهو لا يحصي قتلاهم؟ إنهم يلوثون أيديهم بالدماء بدلا عنه، ويواجهون الموت بدلا عنه. وإذا اكتفى الغرب بالعمليات المعقمة بالقصف من بعيد، فكيف له أن يطالب ممن أنيط به القتل وجها لوجه أن يكون رقيق القلب وحضاريا إذا كان يرى أعين القتيل؟
لقد أكد علم النفس منذ أن التقى بالطائرة الحديثة وبالصاروخ أن قتل إنسان واحد بسكين عن قرب يحتاج إلى قدر أكبر من القسوة مما يحتاجه قتل آلاف الناس بضغط الأزرار من بُعد. ولا علاقة لهذه المقولة بشكل وسحنات وجوه جنود تحالف الشمال ولا بلباسهم، ولا بشكل الجنود الأميركيين ونظافة أسنانهم. فالجندي الأميركي الذي يرى من يقتله ويسمع حشرجته ويتحمل توسلاته الأخيرة قبل أن يجهز عليه سيحتاج الى استدعاء نفس القدر من الهمجية والبدائية من الطبقات الدنيا المظلمة للنفس البشرية وغرائزها الدفينة. هكذا تحافظ أميركا ليس فقط على حياة جنودها بل على “حضاريتهم” عندما لا تنيط بهم مهام تتجاوز المهمة الحضارية التي لا تتضمن إلا قتل الآلاف بقنابل 8 طن وصواريخ توماهوك، الى قتل الأفراد وجها لوجه. لا تقتل فردا واحدا يتوسل لحياته على حاجز، ولكن تقصف قريته عن بُعد بحيث لا ترى إلا وهجاً ما يلبث أن ينطفئ، ولا تطال أذنيك بعده لعنات الباقين على قيد الحياة. قد تصادف خبرا في ما بعد في صفحة داخلية من صحيفة أميركية، ولكن قراءة الخبر وصور المذهولين الذين يدفنون موتاهم لا تقترب بهولها من صورة مقاتل من طالبان عري نصف جسمه الأسفل من الملابس منبطحا على الأرض يتوسلك على حياته.
لن تستطيع الطائرات الأميركية وحدها أن تنتصر في أي بقعة من بقاع الأرض، ولا بد لها من معينين على الأرض لا تخشى على حياتهم ولا على حصانتهم الأخلاقية، هنالك حاجة لمن يجمع الجثث وينظف الأرض من جيوب المقاومة بمواجهة ملحمة الموت والجسد البشري بحواس السمع والنظر والشم واللمس وجهاً لوجه.
وليس بوسع إسرائيل أن تتصرف كما تتصرف الولايات المتحدة. وهي لا تستطيع أن تقصف من السماء معتمدة على حثالة بشرية تقوم بالتنظيف بعدها. فلا توجد قوى سياسية فلسطينية منظمة مستعدة لذلك. والشعب الفلسطيني كله خلف متراس مقاومة الاحتلال. ولذلك فإن كل محاولة إسرائيلية لتجاوز فعل الأباتشي* والاغتيالات عن بُعد وقصف المدنيين دون تماسّ مع آلامهم وأحزانهم وأحلامهم لا بد لها أن تزج بجنودها الذين ينكّلون بالناس على الحواجز في عملية قتل الناس واضطهادهم وجهاً لوجه.
لقد عبّر اليسار الصهيوني باستمرار عن قلقه من تحول جنوده إلى حثالة بشرية باضطرارهم إلى التلطخ مباشرة بالدم الآدمي. وكانت غولدا مائير (وهي ليست يسارا بأي معنى) تردد دائما مقولة عبثية لا يعرف عجزها عن صدرها: “لن نغفر للعرب أنهم يجبرون جنودنا على قتلهم”. ولو كان هنالك فصل في كتاب غينيس لرقم قياسي في مجال الوقاحة والتطاول والتعالي والصلف والغرور لتصدرته هذه الجملة بجدارة إلى أبد الآبدين. وشمعون بيريز الأكثر تواضعاً يقول إن هناك ثلاثة أسس لنجاح الدولة اليهودية في صراع البقاء في منطقتنا:
1. الأغلبية اليهودية.
2. التفوق الأخلاقي.
3. التفوق التكنولوجي.
ويبدو لي أن إسرائيل قد خسرت العامل الثاني، وهو بنظرنا لم يكن قائما أصلا. وهنالك كمّ لا يحصى من آليات الدفاع النفسية التي تمنع الإسرائيليين من أمثال شمعون بيريز عن رؤية هذه الحقيقة، أولها الكذب وثانيها احتكار دور الضحية وثالثها ورابعها... فالجنود الإسرائيليون لا يتقنون فقط قيادة طائرات الأباتشي بل يتقنون أيضا الإذلال والإهانة وقتل الناس بعد اعتقالهم عن قرب، وإطلاق النار على الرأس مباشرة... وهم يفعلون ذلك مدفوعين بمبررات يقدمها لهم شارون وبيريز وعدد لا يحصى من الصحافيين، حول صراع الوجود أمام انتفاضة الشعب الفلسطيني.
وطالما لم تجد إسرائيل من يقوم بمهماتها هذه بدلاً عنها فسوف يبقى الشعب الفلسطيني متفوقا أخلاقيا، ليس لأنه شعب من الأخيار يقاتل شعبا من الأشرار، فهذا الكلام تهريج مجافٍ لأي حقيقة. بل لأنه يقع تحت الاحتلال. هذا هو رأس مال الشعب الفلسطيني الأخلاقي.
الاحتلال هو علاقة اضطهاد مرفوضة أخلاقيا. ليس الواقعون تحت الاحتلال مجموعة من الأخيار الطيبين. ولكن مجرد كونهم تحت الاحتلال، يجعل نضالهم في موقع التفوق الأخلاقي على من يحاول عبر القمع تكريس احتلاله. يخسر الشعب الفلسطيني وحركته التحررية مصدر قوته الأساسي إذا تحولت قضيته إلى قضية كيان ينفّذ أو لا ينفذ التزاماته الأمنية، وإذا تحولت من قضية ضمان حرية الواقعين تحت الاحتلال الى ضمان أمن المحتلين، وإلى قضية إرهاب بدلاً من أن تكون قضية عنف الاحتلال.
إذا خسر الشعب الفلسطيني نقطة القوة هذه فيجب أن يتم ذلك مقابل تحرره من الاحتلال. وويل له إذا تخلى عن خطاب الشعب الواقع تحت الاحتلال، خطاب التحرر، قبل أن يتحرر من الاحتلال.
* ملاحظة: الأباتشي هي قبيلة هندية لم تعرف التنظيم القبلي الهرمي عاشت كجماعات مقاتلة صغيرة متفرقة في جنوب غرب أميركا الشمالية. وقد تم القضاء على مقاومتها العنيدة ضد المستوطنين البيض بعد نهاية الحرب الأهلية، وفي العام 1886 تحديداً قُمع آخر تمرد عسكري لها. وقد أطلقت المؤسسة العسكرية الأميركية اسم أباتشي على نوع من المروحيات المقاتلة في اختيار غريب ملفت للنظر، إذ أطلق اسم قبيلة هندية أُبيدت عمليا على سلاح إبادة. تخيّلوا لو أطلق الألمان اسم الغجر مثلا على سلاح طوّروه حديثاً.