تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

محاولة تفسير.. أم وصول إلى حقيقة ما جرى؟

2005-10-27

في تعاملها مع تقرير اللجنة الدولية للتحقيق في مقتل الحريري تروي الايكونومست، بتصرف، طرفة عن عقرب طلب أن ينقله ضفدع إلى الضفة الأخرى من النهر. قال الضفدع ولكنك سوف تلسعني، فأجاب العقرب إذا لسعتك سوف أغرق معك. اقتنع الضفدع. وفي الطريق لم يتمالك العقرب نفسه فلسعه، وطبعا فقد الضفدع توازنه وبدأ يغرق مع راكبه متسائلا: ولكن لماذا؟ ها نحن نغرق سوية؟ فأجاب العقرب: إنه الشرق الأوسط. والمغزى العنصري واضح: لا تبحث عن منطق مصالح في هذه المنطقة. فسوريا تدعي أنه ليس من مصلحتها أن تقتل الحريري، وهذا محض هراء لأنه في منطقة الشرق الأوسط لا جدوى من محاكمة الأمور بمنظار المصلحة. (ايكونمست، 21 اكتوبر، تشرين أول، جلوبال اجندا.
 

قيل الكثير حول موضوع المحاكمة من ناحية مصلحة سوريا في قتل الحريري، فكانت الإجابة أنه قد لا يعرف نظامٌ مصلحته. والحديث هو عن نظام متهم عادة من قبل مناوئيه بالتصرف ببراغماتية نابعة من مصلحته فحسب. حسنا، لا بأس. لا يعرف النظام مصلحته ولكن الحريري نفذ ما يريد النظام عند التمديد للحود، إذًا هو ليس بحاجة أن يقتله حتى لو لم يعرف مصلحته، لأنه ينفذ ما يريد. والجواب أن هذا صحيح في ما يتعلق بالتمديد. ولكن النظام نفسه أو مخبريه من اللبنانيين وحتى العرب اعتقدوا أن الحريري بالتآمر مع فرنسا هو المسؤول عن القرار 1559 . وأنه تحول إلى خصم دولي حقيقي لسوريا، وبالتالي كان من مصلحة النظام قتله. فهو نظام يعرف مصلحته إذًا. ولكن للمدى القصير فقط، وهو لم يتمكن من حساب نتائج الإغتيال الوخيمة. لا نهاية للإدعاءات والإدعاءات المضادة في وضع مشحون وعلاقة مشوهة يحسب المرء ألف حساب قبل الدخول فيها. فنحن إزاء وضع تستثير فيه حتى الشبهة الدولية الإحتفال، ثم يضاف أن الإحتفال هو بالحقيقة، وأنه لا رغبة لأحد بتدخل دولي ضد سوريا. وأذكر جيدا كيف كان يدعي البعض أن مطلبهم الوحيد هو إنسحاب سوريا تتلوه علاقات مثالية وممتازة بين البلدين. إنسحبت سوريا فساءت العلاقات أكثر وارتفع منسوب التحريض وزادت الشماتة.
 

وإزاء وضع العلاقة بين لبنان وسوريا وعدد حالات الحقيقة المطلوبة: حقيقة حلفاء سوريا الذين ما زالوا حلفاء لها، وحقيقة من كانوا حلفاء سوريا وكان بإمكانها أن تكسبهم لو عززت نفوذهم على حساب لحود مع عيونهم إلى ميزان القوى الإقليمي والتحولات ونفوذ فرنسا وأميركا والمملكة العربية السعودية، وحقيقة عملاء سوريا الذين أصبحوا محرضين عليها، وحقيقة خصوم سوريا الذين كانوا وما زالوا خصومها، وإزاء تعدد منطلقات المطالبة بمعرفة الحقيقة وجدت سوريا نفسها في إزاء نظام أمريكي يسمى خطأ نظاما دوليا ويعتبرها مذنبة إلى أن تثبت براءتها. 
 

تروي اللجنة رواية تفسر ما جرى كبداية للبدء بتحقيق، أي سيناريو ممكن يصلح لفتح خيوط تحقيق. المحقق يروي عادة لنفسه ولفريقه عدة روايات كهذه. ولكن حقيقة ما جرى وما يراد التوصل إليه واحدة. أما لجنة التحقيق هنا فتروي رواية واحدة تؤدي إلى حقائق غير مؤكدة عديدة. ولذلك أيضا لم يسمع المرء بإشاعة في الأشهر الأخيرة إلا واتسع لها التقرير لأنه يعيش هذا السياق فقط. وهو أمر ظاهر من تأسيس محاكماتها على رواية تاريخية تسرد العلاقة بين سوريا ولبنان بحيث تحول خصوصية العلاقة إلى شبهة من السطر الأول الذي يبدأ بتقسيم بلاد الشام وينتهي بعدم وجود سفارات بين البلدين. يختار فريق التحقيق رواية معينة. وكان بإمكانه ان يروي أخرى، وأن يبدأ من مكان آخر. كما كان بإمكانه أن يتعامل بديناميكية أكبر في سرد العلاقة بين سوريا والنخب اللبنانية الشريكة لها في الأمن والإقتصاد والسياسة منذ الطائف والتي انقلبت على سوريا، أو انقلبت سوريا عليها. وهي علاقة لا تختزل بمعادلة فاعل وضحية.
 

وحتى من زاوية نظر من يدين سياسة سوريا في لبنان هنالك عدة روايات يمكن أن تروى. ولا شك أن الرواية الأكثر مثابرة في سرد العلاقة السورية اللبنانية، من منطلق معارضتها لسوريا وللوجود السوري في لبنان، لم تر بالقوى السياسية الممثلة حاليا بأغلبية نيابية مجرد ضحية بريئة في هذه العلاقة. ولم يتم حتى اختيار هذه الرواية. الرواية التي اختيرت هي رواية القوى المتحالفة مع سوريا من زاوية لقاء المصالح والتي انقلبت عليها، أو انقلبت سوريا عليها باختيارها نظاما سياسيا أمنيا جديدا ونخبا مستفيدة أخرى في لبنان وسوريا. وهي أضعف الروايات من حيث المصداقية. لأنها انتقائية جدا في اختيار الحقائق من مرحلة ما قبل وما بعد الجريمة. وهي الحقائق التي تفسر تورط سوريا وسلوكها غير الحذر وحتى المستهتر في التحضير للجريمة وإخفاء الأدلة. وكأنها تحضر لمؤتمر في وضح النهار وليس لجريمة إغتيال. وكل هذا لماذا؟ لأنها اعتادت على الإغتيال من دون عقاب. أطراف عديدة ارتكبت إغتيالات من دون عقاب في لبنان وفي العالم ومنها من يدعي الآن على سوريا في لبنان ويحتفي بأشخاص متهمين بإغتيالات، ومنها من يدعي دوليا على سوريا. ويستطيع المرء أن يتخيل أنه لو صحت رواية شهود اللجنة هذه فإنه برأي خبراء الإغتيال في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وفي الموساد، الذين يدعون الآن على سوريا، تستحق سوريا العقاب ليس فقط على الإغتيال بل أيضا على شكله وشكل تنفيذه!!
 

حتى من يعترف بوجاهة تقرير ميليس يجد من واجبه أن يوجه بعض الأسئلة المشروعة: تورد اللجنة التسجيل الأكثر وضوحا وقسوة لمحادثة تلفونية من يوم 16 تموز يوليو 2004 . ويُظهر فيه رستم غزالي عدم إحترام للبنانيين. ونستطيع أن نتخيل محادثات تلفونية عديدة من تلك المرحلة بكلام أقسى أو أقل قسوة عن سوريا وحتى عن الحريري بين سياسيين آخرين في المعسكر المضاد. وفي التسجيل رغبة واضحة للتخلص من رئاسة الحريري للحكومة. وكل هذا في حديث مع شخصية لبنانية لم يكشف عن إسمها في التقرير. ولا يوجد في هذا الحديث الصريح أية إشارة لنية قتل بل لنية إرغام الحريري على الإستقالة حتى من دون أن يقال له ذلك صراحة. ومع ذلك فبعد المحادثة بيوم واحد أعلن الحريري انه لن يستقيل فهذه حملة مستمرة ضده منذ إثني عشر عاما. أي أنه أظهر إصرارا، قد يدفع السوريين بنظر المشكك بهم لاستخدام وسائل أخرى. ولكنه استقال في النهاية، وذلك قبل أن تقع جريمة إغتياله النكراء.
 

أما بالنسبة للقاء الحريري الأسد من يوم 26 آب 2004 فيعتمد التقرير على شهادة ثمانية أشخاص لم يكن أي منهم موجودا في اللقاء. بعضهم صديق وبعضهم ليس صديقا للحريري ولم يكن حليفا سياسيا له في الماضي. ولكنهم جميعا يلتقون في مخاصمة سوريا سياسيا في لحظة التقرير التاريخية. والرواية التي نقلت تصويرية، تصور أجواء ومخاوف. بمعنى أنه قيل كلام قد يكون الشهيد الحريري قد فهمه ونقله كتهديد ليوضح الصورة. وهذا لا يعني أن الثمانية كذبوا. ولكنهم حقوقيا ذوو مصلحة، وغير محايدين، وهم نقلوا ما سمعوه من الرئيس الشهيد الحريري، ولم يسمعوا الرئيس الأسد. وهذه شهادة لا تتعدى كونها شهادة عن موقف وشعور الحريري بعد الإجتماع وليس عما قاله له الأسد بدقة. ولا يحاول التقرير أن يتعمق، كما يفترض بتقرير محايد، بعلاقة الشهود بسوريا وتطور هذه العلاقة، وهو لا يضع شهاداتهم المتواترة المنقولة في سياقها كما يفترض. وهم بلا شك أصحاب وجهة نظر قد تكون محقة أو خاطئة، ولكنها وجهة نظر خصم لسوريا في مرحلة التحقيق. ولا يمكن لتحقيق محايد ألا يرى ذلك. وربما لا يضع التقرير وجهة النظر هذه في سياقها المذكور لأنه ليس على مسافة منه. ولأن طاقم التحقيق هو جزء من هذا السياق، فهو لا يراه كسياق بل كمجرى الأمور الطبيعي. وعلى كل حال ينقل التقرير تسجيلا عن الحريري بصوته يتضمن رواية عن نفس الجلسة رواها الحريري نفسه لوليد المعلم وتتضمن شكوى، ولكن ليس شكوى من تهديد كهذا بل من إتخاذ الرئيس السوري قرارا جاهزا بعدم التعامل معه كرئيس لحكومة لبنان. وهذا كلام فيه مصداقية ومنطقي عدا عن كونه مسجلا، أي حقيقيا. الدليل المسجل الوحيد لما نقله الحريري عن اجتماعه مع الأسد لا يتضمن تهديدا ولا يؤكد شهادة الثمانية.
 

في الفقرة 96 من التقرير يتم تفصيل رواية عن قرار باغتيال الحريري وخطة لتنفيذها بين تموز وكانون الأول 2004 واجتماعات بين الميرديان والقصر الجمهوري. بقي فقط المعرض الدولي. والمعلومات الغريبة العجيبة تأتي برمتها من شاهد سوري عمل في السابق في المخابرات في لبنان، من دون اقتباسات ولا تسجيلات ولا صور. والشاهد بدون إسم. ضابط مخابرات سوري متوسط في لبنان يعرف كل هذه المعلومات!! والقرارات تتم في اجتماعات على هذا المستوى وفي أماكن كهذه من نوع فندق ميريديان والقصر الجمهوري!!
 

يدعي السوريون أن الشاهد كاذب وأنه تم زرعه وتمويله. ولكن لا توجد متابعة حقيقية لهذا الإدعاء. يوجد هنا تضليل حقيقي لعمل اللجنة من قبل من زرعه وموله يتجاوز المعلومات الخاطئة المدعاة في رسالة (كما يتم إتهام الشرع). وإذا لم ترغب لجنة التحقيق بمتابعة طلب سوري بالتحقيق في التهم التي توجهها هي لمجهول في تضليل التحقيق فهي لا تستطيع أن تتجاهل تقرير مجلة "دير شبيجل" الالمانية حول الموضوع. فهي تدعي أن أحد الشاهدين السوريين قد تلقى أموالا أو أن شهادته ملفقة وتم شراؤها. ولكن التقرير يكتفي بالقول أنه «حتى اللحظة لا يمكن تأكيد شهادة الصديق من مصادر أخرى». هنالك فرق بين شهادة زور وبين شهادة لا يمكن التأكد من صدقيتها وترد منها تفاصيل وتحذف أخرى، وتبنى عليها روايات وتكمل منها حلقات ناقصة في رواية. وقد اختار التقرير الطريق الثاني، وهذا قرار ملفت إن لم يكن مستغربا. فلماذا توجد أصلا في تقرير مصيري كهذا شهادة يتلوها تعليق أنه لا يمكن التأكد منها؟ ما هذا بالضبط؟.
 

وينقل التقرير في الفقرة 97 حديثا عن شخصين مجهولي الهوية أحدهما شاهد من دون إسم يسر إليه ضابط من دون إسم أن زلزالا سوف يقع في لبنان. ومن بين ملايين الأحاديث والجمل والروايات والشائعات يجلب هذا الهمس كحجر ليكمل صورة الفسيفساء التي يحاول التقرير رسمها كتفسير لما جرى بدلا من الوصول إلى حقيقة ما جرى.
 

وفي الفقرة 98 يدعي نفس الشاهد أنه زار عدة مواقع عسكرية سورية في لبنان وأنه شاهد سيارة ميتسوبيشي، وأنه شاهد نفس السيارة تُحَمَّل بالمتفجرات أيام 11 و 12 شباط أي قبل الإغتيال بيومين، وأن أبو عدس كان موجودا وقت التحميل بالمتفجرات الذي تم بهذا الشكل العلني كما يتم تصليح سيارة. أولا، الشاهد في كل مكان. وثانيا أنه نفس أبو عدس الذي ادعى الجميع أن التسجيل معه مفبرك ومزور وعلى رأي نفس الشاهد تم التسجيل والمسدس موجه إلى رأسه قبل القتل بأسابيع. هل كان الشاهد هناك وقت تسجيل الإعتراف؟. أم سمع ذلك أيضا؟. لا دور لأبي عدس سوى تسجيل إعتراف والمسدس موجه إلى رأسه، ولكنه يظهر فجأة وقت تحميل السيارة بالمتفجرات.
 

نفس الشاهد الكلي القدرة والموجود في كل مكان يقول أنه كان قرب "سان جورج" وأنه تلقى مكالمة من ضابط سوري قبل الإغتيال بدقائق يطلب منه أن يخلي المكان فورا. من تسجيل فيديو الإعتراف إلى قواعد عسكرية إلى الوجود على مقربة من مكان الجريمة قبل وقوعها بقليل. غريب جدا أمر هذا الشاهد. يظهر من شهادته أن الأخير يعرف متى سيضغط زر التفجير بالدقيقة، لا شك أنه الفاعل ذاته أو قريب منه. ولماذا لا يقول أسماء أو أوصاف من حملوا السيارة بالمتفجرات؟. فهؤلاء هم الفعلة ويجب أن يتم اعتقالهم.
 

جرت العادة أن نسمع عن اعتقال القتلة المنفذين الذين يعترفون بدورهم على رؤسائهم أو موفديهم. ولكن في هذه الحالة لدينا روايتين واحدة عن الرؤوس المدبرة في سوريا، وأخرى عن الرؤوس في لبنان. أما المنفذون الذين قتلوا فمجهولو الهوية. لا بد أن هؤلاء الكبار قد أرسلوا أحدا. ولكن هذا "الأحد" يظهر في التقرير مجهول الهوية، يحمل سيارة بالمتفجرات، ويتصل هاتفيا ليعلم شاهدا أن يلحق نفسه ويهرب قبل التفجير...غريب!! لماذا لم يبلغ طاقم التحقيق السوريين بهوية هذا الضابط الذي اتصل؟ لا بد أن الشاهد يعرف هويته وإلا فكيف ولماذا اتصل به؟.
 

وتبقى من التقرير أسئلة وجيهة جدا تثيرها مسألة الهواتف الخليوية الموزعة في مكان الجريمة وتتصل ببعضها البعض بتسلسل زمني مريب. وهي الدليل المادي الوحيد في التقرير عن خطة الإغتيال ولو كان دليلا ظرفيا، إلا أنه هام وعلى من يريد أن يثبت إدانة أحد أن يتابعه وعلى من يريد أن يبرئ نفسه أن يفند أية علاقة له به.
 

وطبعا تستطيع سوريا أن تعترض على أحكام من نوع انه لا يمكن لجريمة كهذه أن تنفذ دون علم أجهزتها الأمنية. فمقولة من هذا النوع هي مقولة دائرية، ومغالطة منطقية. فإذا لم تكن سوريا متورطة، لماذا يجب أن تعلم أكثر من أية دولة تتم فيها جرائم رغما عنها؟ وإذا كانت متورطة في الجريمة فمقولة أن الجريمة تتم بعلمها هي مقولة مخففة بل فارغة، لأنها إذا كانت متورطة فهي تعلم بل أكثر من ذلك، أنها متورطة. هذا كلام لا يثبت شيئا ويقلل من مصداقية التقرير. التقرير يعج بمثل هذه المقولات، ولكنه لا يثبت أن سوريا اغتالت أو لم تغتل الحريري. والتقرير لا يدعي ذلك على أية حال، خلافا للمحتفين به.
 

ما كان يجب لتقرير كهذا بهذا الوزن ينتظر نتائجه هذا العدد من الناس وله هذه الإسقاطات السياسية حتى بوعي معديه الذين يدعون أنه غير مسيس رغم أنهم يعرفون أنه قد تكون له نتائج سياسية وأنه قد يستغل سياسيا، ما كان يجب لتقرير كهذا أن يظهر ليروي رواية تفسر ما جرى، بل أن يقدم فقط بعد أن يكون لديه على الأقل أساس لاتهام يدعي معرفة القاتل. وحتى الشبهة لا تكفي لإصدار تقرير بهذا الوزن وبهذه العواقب إذا أسست الشبهة على شهادة أو إثنتين، إحداهما لا مصداقية لها والثانية متناقضة.
 

ولكن سوريا لم تعد تستطيع أن تعتمد على تناقضات الرواية التي تتهمها والتدليل عليها. والحقيقة أن دعوة اللجنة لها من مجلس الأمن أن تبدأ تحقيقا تأتي إما لتثبت ما تقوله اللجنة أو لتثبت براءتها. وعلى سوريا قبول التحدي غير المنصف وغير العادي. عليها أن تخوض معركة «تبرئة ذاتها» حتى النهاية، ولو تضمن ذلك سرد حقيقتها هي. وهي تتضمن نقدا لدورها ولدور الحريري، عندما كانت علاقته مع سوريا ممتازة وعندما ساءت. وعلاقتها في الفترة الأخيرة معه لم تكن جيدة، ولا بأس أن يقول السوريون بصراحة رأيهم بدورهم، فلا هم قديسون ولا هو كان قديسا بل سياسي ورجل أعمال. والإلحاح بالإدعاء أن علاقتهم معه كانت وبقيت ممتازة يفتقر إلى المصداقية. يجب أن تقال الحقيقة كاملة وأن تقص سوريا الحقيقة كما تراها. التناقضات في رواية الآخرين كافية لكي تمنع إدانتها beyond reasonable doubt لغياب الأدلة كما في حالة "أو. جي. سمسون". ولكن ما يصح في حالة فرد لا يصح في حالة دولة يدعي الجميع أنه يعرف أنها المدبر المسؤول، وما ينقص هو الدليل المادي. وهي دولة تتعرض أصلا إلى عقوبات إقتصادية من قبل أميركا قبل الإغتيال ودون علاقة به.
 

وغير صحيح أن على سوريا أن تختار إما أن تدعي أن التحقيق مسيس وإما أن تتعامل مع تفاصيله. فهذا إدعاء الباحث عن تناقض في الموقف السوري لإفشاله. وهو يدعي أنه إذا تعاملت سوريا مع تفاصيله وتناقضاته فقد سلمت بأنه وثيقة قانونية، وإذا نسفته من أساسه باعتباره وثيقة سياسية فإن التعامل مع تفاصيله يمنحه مصداقية قانونية. هذا التمييز خاطئ لأنه يفترض أن خصوم سوريا اختاروا منهجا واحدا، أو أنهم جزء من مؤامرة واحدة. أو أن النقاش علمي أو فلسفي وعلى سوريا وخصومها أن يتفقوا على تعريف الأدوات والمصطلحات كأننا في مناظرة أكاديمية. وهذا غير صحيح طبعا. فمن يحاربها ويستهدفها يفعل ذلك بالأدوات كافة. واللجنة قد تكون مقتنعة بما تكتب. وعلى سوريا أن تثبت أن التقرير متناقض وأن تقنع في الوقت ذاته ببراءتها خلافا لما يتطلبه الأمر في محكمة جنائية، وأن تثبت أن هنالك حملة سياسية تشن عليها بغض النظر إذا كانت قد اغتالت الحريري أم لا وأن تتصرف سياسيا على هذا الأساس. وجورج بوش يسعفها دائما في خطاباته العظيمة. وآخرها خطابه أمام نساء الضباط من يوم 25 اكتوبر. ويقول فيه أن سوريا يجب أن تعاقب ليس فقط على قتل الحريري بل على ماضيها في دعم الإرهاب. والمقصود هو ليس تنظيم"القاعدة"، فسوريا هي البلد الذي تتسرب باستمرار أخبار في الصحف الاميركية حول تعاونه في مكافحة نشاط إرهاب "القاعدة"، بل المقصود بالإرهاب هو أمور مختلف عليها سياسيا مع أمريكا من نوع المقاومة اللبنانية والفصائل الفلسطينية وأخيرا المقاومة العراقية.
 

حتى الآن اتبعت بريطانيا وأميركا وفرنسا أساليب ضغط تعتمد على افتراض براغماتية سوريا، وهي من نوع أن الضغط يفيد والسوريين يتراجعون. لقد أدى ضغط دولي بعد إغتيال الحريري وقرار مجلس الأمن إلى انسحاب سوري فوري من لبنان. ولكن العملية مستمرة. ويتم تحييد أطراف والإستفراد بطرف بعد آخر. وحاليا، يتم تأجيل المعركة مع المقاومة وايران لأسباب لبنانية وعراقية والإستفراد بسورية. ولكن الضغط الآن لم يعد يفيد. فالجميع يدرك أن الدور سوف يصل إليه فورا. وفرنسا على الأقل حققت أهدافها ولا يفترض أنها ترغب أن تستمر إلى حيث يريد المحافظون الجدد. وروسيا والصين تعترضان. وليس لدى سوريا ما تنسحب إليه. وهي لا تستطيع أن تتخلى عن الجولان. وحزب الله لم يعد في إطار مسؤولياتها. وهي لن تتحول إلى شرطي لأميركا في العراق. وهي الأمور المطلوبة منها.
 

ورغم أن أفرايم هليفي رئيس الموساد السابق يرجح في مقابلاته أن المطلب الأخير (شرطي لأميركا في العراق) يكفي لإرضاء أميركا فحياة جنودها أهم من كل الباقي، ناهيك عن الحقيقة حول إغتيال الحريري، إلا أن هاليفي كعادة رجال المخابرات السابقين الذين يتحولون إلى محللين يستمر في التعامل مع الدنيا كأنها تسير على نفس القواعد. ولكنها تغيرت منذ مرحلته. وبرأيي اذا تحولت سوريا إلى شرطي لاميركا فإنها تخسر العالمين. وهي لن تفعل ذلك على كل حال.
 

على سوريا أن تواجه الهجمة على كافة الجبهات. ولكن من أجل ذلك هنالك بديهية أولى: عليها أن تقنع رأيها العام أولا والرأي العام العربي المتشكك أصلا من الموقف الأميركي. وهذا يحتاج إلى حوار داخلي فوري وانفتاح سياسي. 
 

أما من يدعي أنه يريد أن يعرف الحقيقة ولكنه لا يقبل بعقوبات على سوريا، فلا بد أن يدرك أن هنالك حاليا حقيقة واحدة أكيدة هي رغبة أميركا بتغيير السلوك السياسي السوري الإقليمي بالضغط وبغيره. وعلى النظام من ناحية أخرى ألا يبخل حتى على خصومه الوطنيين في البلد بتشاور وبحوار صادق ومفصل حول روايته عن العلاقة السورية اللبنانية وعن جريمة الإغتيال النكراء وملابساتها. ثم توسيع الجبهة لتنسيق حملة مضادة تشمل حلفاء مهددين بنفس درجة تهديد سوريا مثل المقاومة اللبنانية وإيران وغيرهما، وقوى غير مهددة بنفس الدرجة ولكنها ترى الخطر الماثل.
 

هنالك من كان يتعرض إلى ملاحقة في سوريا وفي لبنان حين كان بعض خصوم سوريا الحاليين في لبنان متحالفين مع النظام الأمني السوري اللبناني. وسوف يثبت الزمن أن جزءاً كبيرا من هؤلاء يبقى مخلصا لوطنه ويقف مع بلده حين يقف حلفاء مرحلة الوفرة ضدها في مرحلة الضيق. كما أن بعض من انتقدوا سوريا وممارساتها في لبنان أثبتوا أنهم أكثر مصداقية ممن كانوا عملاء لها.