عزمي بشارة
على هامش الصراع في أوروبا بين نفي التنوير في الرومانسية، أو للدقة، نفي التنوير الرومانسي، وفي سياق الصراع بين قومية التنوير أو جزئيته، وكونيته، نشأت الصهيونية كردّة فعل على ردّة فعل المركز-أوروبية والشرق-أوروبية على التنوير في الدول التي تلكأ (التنوير) في الوصول إليها، ليصلها منهكًا مضرّجًا بجراح الثورة الفرنسية والاحتلالات النابوليونية وردّة الفعل الاشتراكية على ضراوة الحداثة المبكرة التي ارتبط بها. ولأن الصهيونية ردّة فعل على ردّة الفعل على التنوير، فقد جاءت رومانسية أوروبية تحل بعض عناصرها العقلانية. وبين قومية التنوير الرومانسي البالغ وكونية التنوير الشاب جاءت الصهيونية لبتبني، نظريًا، قومية كونية.
أفرزت الحداثة الشابة بصراعاتها المذكورة عداءً حديثًا للساميّة يستثمر تراث العداء الديني القديم للساميّة، ولكنه يختلف عنه جوهريًا. فاليهودية الاوروبية تشكل بنظر التنوير عائقاً أمام الاندماج في العقد الاجتماعي الواحد بين الأفراد، وبنظر الرومانسية عائق بل نقيض لتبلور الأمّة وعضويتها بطرحها لخيار اللا/أمّة.
والصهيونية محاولة لحلّ هذا الصراع بدمج الأفراد اليهود الأوروبيين في عقد اجتماعي وطرح اليهودية كأمّة لليهود فقط. إنها محاولة لتجاوز العداء للساميّة وليس لموجهته، ولذلك لم تضع نُصب أعينها تغيير المعادين للساميّة، بل تغيير اليهود وتحويلهم من طائفة دينية إلى قومية، ومن جماعة مقدّسة إلى أمّة حديثة.
تنطلق الصهيونية إذن من تذويت internalization صورة اليهودي في أوروبا القرن التاسع عشر، ومن تبنّي الموقف المعادي للساميّة لتصبح المهّمة تغيير الواقع اليهودي الذي تكونت عنه مثل تلك الصورة، وليس الواقع الأوروبي الذي أنتجها.
فما هو طبيعي من زاوية الفكرة الصهيونية الأولى هو الأمم الأوروبية، وما هو غير طبيعي هو أوضاع اليهود التي تؤدّي لا محالة إلى إنتاج مرض العداء للساميّة الذي يتخذ عوارض مختلفة عبر التاريخ ولكنه يبقى ذاته: فيروس العداء لليهود المستعصي علاجه.
صراع الصهيونية مع أوروبا صراع خارجي لا تناقض فيه، فهي تدير ظهرها لأوروبا ليكون بإمكانها أن تمثل أوروبا أمام الشرق. فخارج أوروبا تسنح لها الفرصة التي طالما تاقت إليها بأن تصبح أوروبية.
تتجلى حالة المنفى اليهودية نقيضًا مباشرًا للفكرة الصهيونية في وجودها المجرّد كفكرة. وحالة المنفى مستقطَبة بين طائفة دينية مقدّسة وبين تحلّل وذوبان علمانيين في القوميات الأوروبية القائمة والحركات الراديكالية الاشتراكية والفوضوية المعارضة للرأسمالية المنظمة في دول قومية. والصهيونية إذ تنفي حالة الطائفة الدينية تجد نفسها تنفي علمانية الأفراد اليهود الذين تقودهم العلمانية إلى الاندماج. الصهيونية إذًا نفي للعلمانية والتديّن في آن معًا. ولأنها تنفي النقيضين فإن فكرتها المجردة تحمل في ذاتها تناقضًا:: عندما تنفي العلمانية تكون دينًا أو طائفة، وعندما تنفي التديّن تكون علمانية. إنها دين علماني، أو علمانية دينية.
ولأن الفكرة الصهيونية تقف بوعي تام على قاعدة الهُويات اليهودية التي سيُعاد إنتاجها كهُوية يهودية واحدة تتجاوز الدين، يكون تناقضها الأول، على مستوى الطوائف الدينية المنظمة، تناقضًا وجوديًا. ففي نفي هذه الحالة الأخيرة تتميز الصهيونية كحركة قومية.
ولكن الوجود المجرد للفكرة لا يعي ذاته، وبالتالي لا تدري الفكرة أن نفيها للطائفة اليهودية يتمّ بتأكيد حدودها، فهو يشترك معها في معارضة الاندماج، ويعيد صياغتها على أساس حدودها الطائفية بلغة قومية علمانية.
الصهيونية في مرحلتها المجرّدة تيار في اليهودية يدعو إلى إعادة صياغة اليهودية. وعندما تنتصر الصهيونية ستصبح اليهودية تيارًا في الصهيونية.
ولكي تتحول اليهودية إلى أمّة تحتاج الفكرة إلى دولة. وخلافاً للاعتقاد السائد، لا تنشأ الصهيونية (كحركة قومية) من وجود الأمّة اليهودية، ولا حتى من الاعتقاد بوجودها، بل من الإيمان الراسخ لدى مثقفي الطبقة الوسطى الذين اكتشفوا يهوديتهم - إبان موجات العداء للسامية في أزمات الحداثة الأولى – بالحاجة تحويل اليهود إلى "أمّة كباقي الأمم". وذلك بأن تسنح لهم الفرصة وينالوا حق فلاحة الأرض وحمل السلاح.
اعتقد بعض ممثلي الفكرة الأوائل أن الأمّة ممكنة دون دولة، وذلك بتشييد صَرح أمّة يهودية ثقافية في مستوطنات زراعية في فلسطين. ولكن، كما في الفكر الأوروبي بشكل عام كذلك في الصهيونية، ارتبطت فكرة الأمّة في النهاية بفكرة السيادة في دولة.
لم ينهمك مفكرو الصهيونية بالبحث عن إثباتات نظرية لقومية اليهود، بل انطلقوا مباشرة لبناء الأمّة اليهودية في الممارسة وطرحوا برنامج الدولة. الدولة تثبّت الأمّة والحركة من أجل الدولة تباشر صنعها.
دولة علمانية تؤوي طائفة دينية وتعيد صياغتها، ودولة أوروبية خارج أوروبا
لا بدّ من أن تكون الأرثوذكسية اليهودية في هذه المرحلة نقيض الصهيونية. ولذلك أيضًا لا بد أن تكون الصهيونية حركة أقلية داخل جماعات دينية الحدود والصياغة. نقيضها الآخر هو ردّة الفعل المعاصرة لها على وحشية الرأسمالية المبكرة: ردة الفعل كما تمثلت في الاشتراكية والشيوعية الأوروبية.
الصراع الأول يدور في حلبة اليهودية مع المؤسسة الدينية اليهودية التي تهدّد الصهيونية عالمَها الأقلّياتي الديني بأسره، كما تقوّض هيمنتها الثقافية كطائفة مقدّسة لا ترى الخلاص في التاريخ بل في حدث إعجازيّ خارج التاريخ تتدخل فيه الألوهية بحلول المخلَص المنتظَر. اليهودية حالة انتظار في المنفى وليس حالة خلاصـ والعودة لا تكون إلى دولة علمانية بل إلى دولة المسيح، وإلى قدس سماويّة لا إلى قدس أرضية.
ويدور الصراع الثاني أيضًا بين فكرتي خلاص. ولكن الفكرتين تبحثان عن الخلاص في التاريخ وليس خارجه. الأولى تُموضع خلاص اليهود في خلاص البشرية بأجمعها (ماركس: يخلص اليهود عندما تتخلص البشرية من يهوديتها، والمقصود من رأس المال). أما الفكرة الثانية فتبحث عن خلاص اليهود بتخليصهم من المنفى. الفكرتان تصوغان برنامجًا عقلانيًا وأدوات تنظيمية عقلانية – ولكن كلاً منهما تحمل في داخلها بذور تحوّلها إلى دين. الواحدة بخلطها أحكام العقل والأخلاق والعلم واليوتوبيا في نظرية واحدة مادّية تاريخية، والثانية بخلطها بين الطائفة الدينية والأمّة الحديثة. الشيوعية والصهيونية فكرتان كُتبتا بالألمانية ونُفّذتا بالروسيّة
الدولة اليهودية، فكريًا، هي دولة هرتسل الصهيوني المجرّد من اللغة الدينية والرموز والأساطير الدينية. هرتسل أوروبي راسخ الاعتقاد: أن نجاح المشروع الصهيوني مرتبط باستيعابه ضمن مشروع كولونيالي أوروبي. وهو يريد أن يكون كولونياليًا، لأن الكولونيالية قمّة النشاط العمراني الأوروبي. هرتسل يمثل فكرة الدولة المجردة، ورغم التجريد وسذاجة الطرح نكتشف في دولته "آلت نويْ لاند" عربيًا اسمه مصطفى. ومصطفى هذا سعيد جدًا بالآفاق التي تفتحها أمامه الكولونيالية اليهودية. إنه يستقبل بترحاب الرسالة التمدينية للاستعمار. هرتسل هو أيضًا كولونيالي أوروبي في نظرته إلى السكان الأصليين.
لم تكن دولة ثيودور هرتسل ودولة ليو بنسكر بالضرورة، أي بالفكرة المجردة، في فلسطين. ومن سخريات التاريخ أن تنتهي الدولة المجردة ويبدأ التنفيذ فعلاً بوفاة هرتسل مع حسم النقاش في المؤتمر الصهيوني العالمي حول أوغندا (1904).
الدولة إذن ليست دولة استيطانية مجرّدة، والنشاط لإقامتها ليس نشاطاً كولونياليًا اعتياديًا. العنوان هو فلسطين، والفكرة الصهيونية ترفض أن تتجسّد كنشاط كولونيالي. ويباشر المنفذون استحضارَ أدوات وعي مشروعهم الذاتي كعملية تحرير وليس كعملية استعمار: الحق التاريخي، إعدة صياغة تاريخ اليهود كتاريخ قومي منذ بدء الهيكل الأول، إقامة دولة اليهود كإعادة بناء لدولة اليهود، جمع الشتات.
القفزة التي تقوم بها الفكرة الصهيونية على ألفَي عام من المنفى إلى النص التوراتي المكتوب تكاد تكون في مرحلة الفكرة قفزة بروتستانتية (موزس هس). ولكنها تصبح في مرحلة وجود الصهيونية المتعيّن نفيًا لألفَي عام من تاريخ فلسطين: التاريخ العربي الإسلامي، الأمّة العربية الآخذة في التبلور، الشعب الفلسطيني. كلّها تُختزَل إلى طارئ على تاريخ هذه البلاد الحقيقي الوحيد كتاريخ يهودي متواصل ولو كان من دون يهود. براغماتية الحركة الصهيونية تُنتج وتستخدم أدوات غيبية.
لا تدرك الهجرة الصهيونية الأولى هذا التحول عن الفكرة إلى التنفيذ. فهي تبدو نشاطًا استيطانيًا كولونياليًا أوروبيًا دون مشروع سياسي كما كان الحال في نيوزيلاندا وأستراليا وغيرها، كما تذكّر بأفكار جمعيّة أوروبية (كومونة) ترافقها رومانسية الالتصاق بالأرض وتحويل اليهودي إلى فلاّح. في الهجرة الأولى يتحوّل اليهودي إلى أوروبي خارج أوروبا. أما الدولة فما زالت هنا موضوع الفكرة وليس موضوع النشاط الاستيطاني أو التنفيذ، وأمّا التميّز فيكون عن السكان الأصليين البدائيين وعن البرجوازية الأوروبية المنحلّة. والمستوطنون يبحثون عن خلاصهم الذاتيّ ولا عن خلاص لبقيّة الأمّة. إنهم بفهمهم الذاتيّ ليسوا حركة قومية ولا يمثلون شعبًا. ولكن مصطلحات جديدة لم تكن قائمة في قاموس هرتسل تطفو على سطح اللغة في الهجرة الأولى: العودة، الخلاص، تجديد أيامنا السالفة.
الهجرة الثانية صهيونية الوعي وليس الممارسة فحسب. وهي تكتشف نقيضها الأهم في الواقع الذي ما يلبث أن يتحول إلى نقيضها الأهمّ بالفكر، ملوّنًا كلّ شيء بلونه: العربي الموجود على الأرض والذي بدأ لتوّه يحوّل علاقته مع الأرض إلى علاقة قومية، مرّة عبر الأمّة العربية ومرّة عبر الشعب الفلسطيني. لم يكن وعد بلفور قد صدر بعد، ولم تَرْقَ الصهيونية إلى درجة النقيض الوجودي في نظر العربي، يُستثنى من ذلك المثقفون القلائل الذين عاشوا أو درسوا في أوروبا وتعرّفوا على أفكار الصهيونية عبر نصوصها.
العربي في تمنّيات الهجرة الثانية هو اليهودي الأصيل أو ما يشبهه على الأقلّ. ومن هنا فإن مشروع بن غوريون الأول والساذج هو تهويد العرب أو مساعدتهم على الأقل على اكتشاف يهوديتهم. ولكن الصهيونية ليست استعمارًا تبشيريًا ولا تتلكأ هنا طويلاً. لقد حمل الاستعمار المسيحية معه إلى أمريكا لتكتشف في الهنود الحمر نقاوة المسيحيين الأوائل أو سذاجة الإنسان الأول قبل أن يكتشف الخطيئة، ولذلك ترافقت عملية إبادتهم بالأمراض المعدية والكحول وبحدّ السيف، بعملية تبشير لمن رسب في قاع المذبحة وتخلفت معه هويته الأصلية. ولكن الصهيونية لا تحمل معها في نهاية المطاف دينًا تبشيريًا بل مشروعًا قوميًا.
الشكل الأول لنفي العربي هو تقليده، وذلك لمصادرة علاقته مع الأرض ومع طبيعة البلاد. الصهيوني الأول في الهجرة الثانية يمتطي الخيل وتمتطي رأسه كوفيّة. الوجود المتعيّن للصهيونية أو وجودها هنا كرومانسية أوروبية يتجه نحو احتلال الأرض واحتلال العمل. الكلمة الأولى التي تنطق بها الصهيونية في مرحلة وجودها المتعيّن هي احتلال. والاحتلال في الفكر الذي تنجبه الممارسة الأولى يتميّز عن مجرد الاستعمار أو حتى الاستيطان.
الاستيطان اليهودي الأول شغّل العرب في الأرض وفي الحراسة. ولكن الصهيونية كتطبيق لمشروع لا تبحث عن أيدٍ عاملة محلية لاستغلالها لصالح رأس مال يهودي. فالصهيونية ليست حركة البرجوازية اليهودية الكبيرة كما توهّم اليساريون وكما عرّفتها الأممية الشيوعية. الصهيونية تبحث عن إقامة اقتصاد يهودي مستقلّ في فلسطين بمشغّل يهودي وعامل يهودي (والأهمّ من ذلك حراسة يهودية). وبإقصاء الأيدي العاملة العربية، فإن الصهيونية تحاول بناء "الييشوف" كشعب ببناء اقتصاد قوميّ. ويعبّر بن غوريون عن هذه العملية بيوغرافيًا – من طموح ساذج، إلى تهويد الفلاحين العرب كيهود أصليين، إلى قيادة المعركة التي أشهرته كصهيوني لاحتكار الحراسة على المستوطنات يهوديًا، إلى تحويل الصهيونية من فكرة للتطبيق إلى فكرة التطبيق أو إلى ممارسة استيطانية تطوّر براغماتيّتها بذاتها.
ويكرّس أ. د. غوردون - المتدين الذي قدًس العمل في الأرض – لغة الوجود المتعيّن للصهيونية إذ يعطي الممارسة الدنيوية (الطلائعية) على الأرض معنىً دينيًا ويجعلها قيمة عليا. هذه اللغة الطلائعية لا تحتاج في المرحلة الأولى إلى حزب سياسيّ يحوّلها إلى أيديولوجيا، لأنها لغة الاستيطان بمجمله.
الوجود المتعيّن للصهيونية يمارس الصهيونية من خلال علاقة جدلية بين الفكرة وواقع تنفيذها، ولكنه يخلّف وراءه جدلية الفكرة مع الواقع الأوروبي. فالعداء للساميّة لا يشغله، وموضوعه الجديد هو بناء الأسطورة القومية والوجود القومي.
ولكن الأسطورة لا تحمل في ذاتها مقوّمات نجاح مشروعها في التحريرالذاتي،وبناء القومية اليهودية بالجهد الذاتي. فخارج جدلية الصهيونية والعداء للسامية من ناحية، وخارج مشاريع الكولونيالية الأوروبية من الناحية الأخرى ليس الاستيطان واحتلال الأرض والعمل والحراسة إلاّ مغامرة كما نظرت إليها غالبية اليهود في أوروبا. لقد ادّعت الصهيونية لاحقًا أن المغامرة صدقت بينما كذبت ريْبيّة الغالبية.
والحقيقة أن المغامرة فشلت. وما من دليل قدّمه الواقع على ذلك أفضل من مغادرة غالبية مستوطني الهجرة الصهيونية الثانية فلسطينَ إلى غير عودة، مخلّفين وراءهم اللغة الصهيونية الجديدة، لغة بناء الأمّة بالعمل والأسطورة. حتى هذه اللغة الشعبوية لا يمكن فهمها باستقلال عن أصولها الأوروبية الشرقية في الشعبوية الروسية (نارودنكي) والتيارات الاشتراكية الرومانسية، والقلق الروسي في الحداثة والعلاقة الروسية المتوترة مع الاشتراكية والديمقراطية.
تعود الفكرة الصهيونية إلى ذاتها بعد فشل الهجرة الثانية (1904-1914) لتلتقي أو تتصالح مع بُعدها الاستعماري، ولكنها عودة بعد تكوّن الأسطورة وتحوّل اللغة. ويعبّر وعد بلفور عن اللقاء ليعود الاستيطان الذي يظله الجُهد الاستعماري الكلاسيكي مؤكدًا صحّة موقف هرتسل باستحالة الفصل بين المشروع الصهيوني ومشاريع الدول الاستعمارية العظمى في المشرق.
لم يبق هرتسل حيًّا ليرى كيف تقيم الامبراطورية البريطانية البنية التحتية الاقتصادية والإدارية لدولة يهودية في فلسطين. ولكن اللغة الاستيطانية المسيانية (الخلاصية)، لغة الهجرة الثانية كانت جاهزة لاستيعاب هذه "المعجزات" ولتحويل هذه القوى الدافعة الخارجية الضخمة إلى مجرّد عوامل هامشية أمام القوى الداخلية والجهد الذاتي، ثم إلى خصم معيق لتطوّر المشروع الصهيوني في كلّ مرّة تراعي فيها منطقها هي كقوى استعمارية تحتاج إلى بعض التفاهم مع العرب وترفض تبنّي المنطق الصهيوني كمنطق داخلي لها.
في مرحلة الوجود المتعيّن للصهيونية يتغلب وجود الصهيونية في فلسطين، كوجود هنا، على وجودها المتعيّن في المنفى كفكرة وكحركة. وتحسم قيادة الييشوف معركة القيادة لصالحها ضد قيادة الخارج. ففي مرحلة الممارسة تكون القيادة والممارسة هي الشيء وذاته.
الممارسة تنفي الفكرة على مستوى مجسّديها أيضًا. في مرحلة مشروع إقامة الييشوف بعد الحرب الأولى يختفي المفكرين بمقاييس، ويحلّ محلّهم المدافعون عن الفكرة، والتبريريّون والخطباء وكتّاب المقالات من كافة الألوان والأنواع، وينتقل الثقل من المفكرين إلى الأدباء.
بيرل كتشنلسون، محرّر "دافار" هو التعبير الأصدق عن المرحلة. فكر تسطيحيّ يذوّت العناصر الدينية المعلمنة في خطابه السياسي الكولونيالي فيما يتعلق بالآخر، العربي، والماركسوية فيما يتعلق بالذات، بالييشوف. ولا بدّ لهذا الخطاب أن يقابل نقيضه داخل المشروع الكولونيالي، أي على مستوى التنظيم الداخلي للمشروع، أي الخطاب الليبرالي. حوار المرحلة الفكري هو الحوار بين "دافار" و"هآرتس"، وبين كتشنلسون وبين غوريون وجابوتنسكي وبيغن.
الحوار لا يرقى من درجة الفرق إلى درجة التناقض، والصراع في مرحلة جدلية الوجود، ولا يتحول إلى صراع حقيقي إلاّ بعد أن تطوّر الصهيونية جدلية جوهرها، أي بعد أن تخلّف وراءها صراع الوجود مع الآخر كصراع يحسم جدليّتها الداخلية، أي يجعل القرار الحسم لجدلية الأنا والآخر.
مفكرو الحملة القلائل ضمن المشروع الصهيوني هم أولئك الذين يحملون فكر المرحلة القادمة. وبأثر رجعيّ يبرز الراب كوك، الذي نشأ معاديًا للصهيونية في روسيا كرجل دين، ليكتشف مع وصوله إلى فلسطين البُعدَ الروحيّ في لغة تطبيق الفكرة الصهيونية على "أرض إسرائيل"، والبُعدَ الخلاصيّ في الاستيطان. الراب كوك بصهينته الدين اليهودي التقى مع أ. د. غوردون الذي ديّن الصهيونية. يتحول الاستيطان بنظر الراب كوك إلى عملية خلاص، والمسيح المنتظَر خارج التاريخ البشري وكنفي له، يصبح هو جدلية التاريخ ذاتها، التي تتمّ من وراء ظهر منفّذيها ودون علمهم. الصهيونيون يقومون بعملية خلاص دون أن يدروا. إنهم متديّنون بالقوة – وما على الصهيونية إلاّ أن تعي ذاتها لتكتشف أنها الدين ذاته ولتصبح صهيونية دينية. وما على الأرثوذكسية اليهودية إلاّ أن تكتشف "فريضة" الاستيطان الدينية وتعيش في الواقع الإسرائيلي لكي تكتشف أن الصهيونية عملية خلاص. ولكن الفكرة تتعرّف على ذاتها في جدلية الجوهر وليس في جدلية الوجود. وهكذا أيضًا تتعرّف الصهيونية على الراب كوك في سبعينيات هذا القرن.
في مرحلة الوجود المتعيّن، كما في مرحلة الوجود لذاته، يجتمع الدين والصهيونية بشكل واعٍ في تيار واحد فقط (المزراحي)، الذي يضمّ متديّنين هم صهيونيون في الوقت ذاته، ولكن دون أن تكون صهيونيّتهم دينيّة أو دينهم صهيونيًا. إنهم يجمعون بينهما كعالمين متوازيين يلتقيان في شخوصهم التي تحاول جاهدة أن تثبت أنه لا تناقض بين البُعدين. ولكن إثبات التطابق بينهما لا يخطر لهم ببال. لا علاقة لهذا الفكر بالراب كوك ولكن حملة هذا الفكر يصبحون وحدهم المؤهّلين لحمل فكر الراب كوك بعد أن يَشحن التطابق بين دولة إسرائيل وأرض إسرائيل الاستيطانَ بتيار غيبيّ يجعل المتوازيين، الدين والصهيونية، يتفاعلان.
الأرثوذكسية اليهودية في مرحلة الوجود المتعيّن للصهيونية تنفي الصهيونية من خارجها وتنفيها الصهيونية. والاشتراكية التي تصل حدّ العداء للصهيونية ضمن الاستيطان ذاته، تُنقَل خارج الصهيونية في حين أن الواقع العربي في فلسطين لا يستوعبها رغم إلحاحها على البحث عن أخوّة كادحين عربية - يهودية في مرحلة الصراع بين الفلسطينيين والاستيطان الصهيوني على أرض فلسطين. يبقى هذا النوع من العداء للصهيونية قائمًا في الجيوب التي تفتحها قوة خارجية (الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية)، مرّة في المشروع الصهيوني ذاته ومرّة في المشروع القوميّ العربي.
النقيض الديني الأرثوذكسي نقيض في المنفى، وكذلك النقيض الاشتراكي الأوروبي الاستيطاني الذي يصل عداؤه للصهيونية أقصى درجاته في التضامن مع الشعب الفلسطيني. ولكنه لا يتحوّل إلى للصهيونية على حلبتها هي إلاّ بتطوير جدلية الجوهر أيضًا. ولكن حتى تلك المرحلة يكون هذا العداء للصهيونية قد استُنزف ولفظ أنفاسه الأخيرة لتحلّ محله على تقاليد التنوير نفسها قوى أخرى تمثل صراعات من نوع آخر داخل المجتمع الإسرائيلي. أمّا الدين الأرثوذكسي فلا يتحوّل إلى نقيض إلاّ بعد أن يتأسرل في الواقع الإسرائيلي ليتغير مع تغير الصهيونية بمجملها ويدخل في صراع من نوع آخر بتحالف مع قوى أخرى.
لا يتحقق الوجود المتعيّن للصهيونية إلاّ بنفي نقيضه المتعين الوحيد كعثرة في الطريق التاريخي نحو تحقيق الذات وتطوير الوجود لذاته. ونقيض الوجود المتعين، خارجَهُ بالضرورة. إنه النقيض العربي الفلسطيني. الصهيونية في هذه المرحلة مسكونة بمهمّة القضاء على الحد العربي لمشروعها وتحويله إلى مجرّد حاجز يسهل اجتيازه.
ولا تقوم الصهيونية بهذه المهمّة بفضل قواها الذاتية، فقد بنت نواتها فقط في الييشوف، وفيما بعد عندما تنتصر وتنجح بإعادة كتابة تاريخها كتاريخ الييشوف المنفصل عن الصراع، يظهر الموضوع كنجاح الييشوف. ولكن الييشوف ليس إلاّ عنصرًا واحدًا في الصراع، ومرّة أخرى لا يخطو المشروع الصهيوني خطوة أخرى في التحقيق دون أوروبا – وهذه المرّة على شكل الإبادة النازية ليهود أوروبا يتلوها منح الشرعية الدولية للصهيونية كمشروع سياسي.
تتوهّم الصهيونية أنها قضت على حاجز كان قائمًا: "لا يوجد شعب فلسطيني"، ولكن هذا الحاجز يتحول إلى حدّ أو حدود مع العالم العربي، إلى أن يتحوّل إلى حدّ أو حدود داخليّة في مرحلة جدلية الجوهر. ويبقى النقيض حيًّا على مستويين: على المستوى الخارجي للمشروع الصهيوني كحالة حرب مع الأمّة العربية. تكتشف الصهيونية أن الأمّة العربية ليس حليفًا يطرح هوية تستوعب الهوية الفلسطينية وتزيل الحاجة إلى دولة عربية أخرى جديدة، لتصبح خصمًا جديدًا.
في البداية كان العدوّ هو القيادة الفلسطينية المحلية وتحريضها الفلاحين الفلسطينيين من أجل مصالحها هي. ثم أصبح العودّ هو القيادات العربية التي وقع الشعب الفلسطيني ضحيّتها والتي تحاول جاهدة ولأسبابها هي إبقاء المسألة الفلسطينية حيّة عبر قضية اللاجئين، ثم يتخذ العدوّ في المرحلة الثالثة شكل حركة التحرر الوطني الفلسطيني التي نجحت في طرح الكيان الفلسطيني ليصبح الصراع على الكيانية. في كل مرحلة تطوّر الصهيونية أدوات مواجهة الخصم الذي اكتشفته وأعادت إنتاج ملامحه بموجب متطلبات الصراع.
وعلى المستوى الداخلي تستوعب الصهيونية نقيضها في جدلية الجوهر. وهو أيضًا يقوم على مستويين:
المستوى الأول يرتبط من الداخل بالصراع الخارجي، وبالتالي لم يفقد علاقته بجدلية الوجود، هو مستوى الصراع في تحديد العلاقة مع العرب بين السلام والحرب، الصراع بين البحث عن حلول وسط بألوان مختلفة مقابل الاعتراف بالوجود الإسرائيلي، وبين حالة الحرب مع العرب كحالة دائمة لا تنتهي إلاّ باستسلامهم للوجود الإسرائيلي دون قيد أو شرط. أما المستوى الثاني فقد استوعب التناقض الخارجي تمامًا واستحوذ عليه ليصبح صراعًا داخل الكيان الإسرائيلي ذاته وليس صراعًا ضد الصهيونية.
مع انتقالها من جدلية الوجود إلى جدلية الجوهر فقدت الصهيونية وجودها، ليس لصالح العرب وإنما لصالح جوهرها الجديد، جوهر المشروع الصهيوني ذاته، الذي تخلّص من صراع الوجود ما عدا على مستوى الأيديولوجية التبريرية واحتكار دور الضحية. لقد أُخضِعَ التناقض الخارجي، سلامًا أو استسلامًا.
وما أن يبدأ الجوهر الجديد بتطوير ديناميّته الداخلية حتى يكتشف في داخله كافّة التناقضات الخارجية التي أخضعها لوجوده. في مرحلة نفي المنفى وجمع الشتات كمهمّة دولة وليس كمهمّة حركة أو فكرة، تبدو علمية الاندماج كبوتقة صهر تُنتج أمّة جديدة هي الأمّة العبرية. ولكن هذه الأمّة العبرية التي تنشؤها الصهيونية لا تحظى باعترافها، فهي تُنزل عليها لعنة سيزيف لتبقى قيد التشكل إلى الأبد طالما بقي يهودي واحد في المنفى. تنصهر الأمّة العبرية في بوتقة اللغة والجيش والاقتصاد المشترك والأسرلة، ولكن الصهيونية كأيديولوجية دولة تصرّ على الأمّة التي تحَّد بالسجال حول من هو اليهودي؟.
يعجز الجوهر الجديد عن تطوير ديناميّته الداخلية لأن حدود وجوده غير واضحة ليس جغرافيًا فحسب بل ديموغرافيًا أيضًا. وفي الوقت الذي تتضح فيه الحدود في الواقع تعيش الفكرة في عالم آخر. الصراع القائم على الأرض لا يجد تعبيرًا فكريًا عن ذاته ويبقى يراوح داخل الخطاب الصهيوني، والخطاب الصهيوني الذي لا يجد خطابًا يناقضه يعيد تشكيل الصراع القائم على الأرض. ما زال التناقض مع الصهيونية تناقضًا غير سياسي وغير فكري. إنه تناقض الواقع المعاش مع الفكرة دون أن ينجب الفكرة الجديدة بعد. الصراع القديم مع الصهيونية يفقد معناه في الواقع الجديد ويتحول إلى حالة كاريكاتيرية أو نوستالجية هامشية في مقاهي تل أبيب أو في نطوري كارتا. وحالة التضامن مع الفلسطينيين التي كانت ملاذًا للتعبيرعن العداء للصهيونية باتت حالة ملتبسة بعد اتفاقيات أوسلو.
عندما يُنجب نقيض الصهيونية في واقعها الإسرائيلي فكرته، لا تكون فكرة معادية للصهيونية لأن الصهيونية التأسيسية، صهيونية الوجود تكون قد انتهت.
لم تدمج بوتقة الصهر العسكرية والعبرية ثقافات المنفى بل أخضعتها للثقافة الشرق أوروبية التي صممت البوتقة. ولكن هذه الأخيرة تحوّلت عبْر عملية صَهْرِها للآخر الشرقيّ. وعندما تعود الثقافات الشرقية المتأسرلة للانبعاث تتوهّم في البداية أنها شرقية لتكتشف أنها شرقية متحوّلة ومتأسرلة داخل إسرائيل. إنها لا تستطيع القفز عن الواقع الإسرائيلي وتطمح إلى مكانة فيه بعد أن أقصِيت عن الثقافة السائدة في دولة اليهود. ولكنها من أجل ذلك لا تعادي الصهيونية كثقافة أوروبية شرقية وإنما تطالب بإعادة كتابة التاريخ بشكل لائق سياسيًا politically correct لكي يستوعب تاريخها، والمقصود ليس تاريخها العربي. إنها تطالب أن يُعترَف لها بتاريخ داخل الحركة وبدور في بناء الصهيونية.
بوتقة الصَّهْر عملية دمج ميكانيكية، ولكن هذا الحوار الذي تحاول فيه الأطراف أن تؤسس لها هُوية متميّزة ضمن الواقع الإسرائيلي هو عملية صَهْر عضويّة ولا عملية تحلل كما يبدو. وعندما تنتهي هذه إلى تركيبة جديدة بعيدة عن نفي المنفى، فإنها ستقترب من نفي نفي المنفى. عند ذلك فقط ستنشأ القوى التي تبحث عن فكرة جديدة – حتى ذلك الحين تتصارع الأطراف في تأكيد وطنيّتها الإسرائيلية التي ما زالت تمنح المشروعية.
الأرثوذكسية اليهودية نُفيت في المنفى، ولكنها في الواقع الإسرائيلي أصبحت بالتدريج إسرائيلية. لقد تأسرلت في الأجيال الثانية والثالثة رغم مقاومتها الشديدة لعملية الأسرلة. فالصهيونية لا تستغني عن يهوديتها في حدود الطائفة الدينية، وهي بالتالي لا تستغني عن حرّاس هذه الحدود، زواجًا وطلاقًا وتهويدًا وهُوية: رجال الدين اليهود. والأرثوذكسية اليهودية لا تستغني عن خدمات الدولة – كدولة منفى في البداية، بل ومنفىً مزدوج، ذلك لأنها دولة يهودية يتنافى مجرد وجودها مع اليهودية ودولة علمانية في الوقت ذاته. ومع الأسرلة تنزع عن إسرائيل صفة المنفى لتبقى دولة علمانية يهودية يتوجّب الصراع من أجل إلزامها باحترام الشريعة. يقع هذا الصراع ضمن "الإسرائيلية" وليس خارجها ولذلك يجد وكلاؤه أنفسهم يؤكدون صهيونيّتهم.
في هذه الحالة تنشأ جيوش من دارسي التوراة المعتمدين تمامًا على الدولة الصهيونية في معاشهم. صراعهم ضد التجنيد من أجل تأكيد مشروعيّتهم ينتقل من رفض الصهيونية إلى الإعلان عن أن دراستهم للتوراة هي الصهيونية الحقيقية وأنها خدمة "قومية" لـ"شعب إسرائيل" لا تقلّ أهمية عن الخدمة في الجيش. الخطاب الديني الأرثوذكسي يتصهين ومنطقه الداخلي لا بد أن يقود في النهاية إلى الخدمة في الجيش نفسه. الأرثوذكسية اليهودية أقامت أحزابًا إسرائيلية تدافع عن مصالحها في ظل هيمنة الصهيونية، أمّا الأحزاب فقد تحوّلت إلى جزء من المؤسسة الصهيونية ذاتها فغيّرت المؤسسة الحاكمة بتغيّرها. وعندما تتصهين الأرثوذكسية اليهودية فإنها تنزل مباشرة في القطب الصهيوني اليميني الذي أصبح تيارًا دينيًا صهيونيًا.
لقد اكتشف التديّن الصهيوني في السابق مسيانية حركة العمل أو تطبيقها غير الواعي لفرضية الاستيطان على أرض إسرائيل وتنفيذها غير المدرَك لعملية الخلاص. وبعد أن التقت دولة إسرائيل بـ"أرض إسرائيل" في العام 1967، وخطت الصهيونية خطوة حاسمة في صراع الوجود، فقدت حركة العمل الصهيونية التي أقامت إسرائيل مقوّم وجودها الأساسي عليها: الاستيطان الطلائعي الذي يدمج العسكرة بالزراعة. وتولّت التيارات الدينية الصهيونية مهمّة الاستمرار على الطريق ذاته.
الحركة الصهيونية في مرحلة الوجود لذاته، هي حركة صهيونية دينيّة متعرّفة على مسيانيّتها.
وفي الوقت الذي تمّت فيه صهينة الدين اليهودي، تمّ أيضًا تهويد لغة اليمين الإسرائيلي المتمسك بـ"سلامة" وعدم تجزئة "أرض إسرائيل". اليمين الإسرائيلي العلماني يصرّ على حدود أرض إسرائيل الكاملة وأمّة إسرائيل الكاملة وكلاهما يهوديّان. لغة الراب كوك تنتصر، ليس فقط عند أتباع الراب راينس (همزراحي) وإنما أيضًا عند أتباع جابوتنسكي. الصهيونية الاستيطانية "الحقيقية" أو "الأصلية" إن صحّ التعبير أصبحت نشاط قطب واحد في الواقع الإسرائيلي.
لم توسّع حرب 67 حدود المشروع الصيهوني الجغرافية فقط بل الديموغرافية أيضًا. فحتى العام 67 كانت الصهيونية حركة أقلية في أوساط اليهودية المنظمة في أوروبا وأمريكا. وبعد العام 67 أصبحت "المغامرة" الصهيونية برنامجًا سياسيًا ومشروعًا واقعيًا ليس في نظر رأس المال الغربي ودُوله التي عبّرت عن ذلك بتدفق الاستثمارات والمعونات لإسرائيل، بل أيضًا بالنسبة للجاليات اليهودية في كافة أنحاء العالم. لقد تصهينت الجاليات اليهودية المنظمة بعد العام 67 واكتشفت "هويتها القومية" المشتركة. الصهيونية أصبحت أخيرًا حركة أكثرية بين اليهود. ولكنها أصبحت حركة أكثرية بين اليهود بعد أن تشكلت في إسرائيل أمّة عبرية. وعندما تكتشف الأمّة العبرية الجديدة وعيها الذاتي يتحول الانتصار في الجاليات اليهودية إلى هزيمة في إسرائيل.
الصهيونية العلمانية العمالية تتبارى كقطب واحد مع أولئك الذين تعرّفوا على جوهرها. إنها مضطرة إلى تبنّي شظايا من متطلبات الواقع الجديد: السلام مع العرب المهزومين، المجتمع المدني الإسرائيلي، متطلبات المدينة المتطورة مقابل المستوطنة الزراعية والأيديولوجية..... ولكنها لا تستطيع أن تمثل الواقع الجديد مقابل الفكرة الصهيونية لأنها لا تستطيع أن تنفي ذاتها. إنها تفيد (تريد؟) كتابة تاريخها وتفسيره من جديد بموجب مستلزمات الصراع – لا مع الفلسطينيين فحسب، وإنما أيضًا مع الآخر الإسرائيلي، ولذلك فهي تكتبه كتاريخ علماني من التحرير الذاتي والعقلانية السياسية.
انطلق اليمين الصهيوني من دعوة القوة الذاتية والاعتماد على الذات. كما اعترف اليمين الصهيوني خلافًا لحزب العمل بالعرب قومية لا ترضى بالاستيلاء على أرضها واسترضائها؛ من ثم فالعرب ليسوا أغبياء كما يعتقد العُمّاليون وليسوا أنذالاً؛ ومن هنا ضرورة الحرب الدائمة معهم. ولكن بعد الانتصار في هذه الحرب تنقلب الموازين. حركة العمل الصهيونية تريد السلام مع العرب المهزومين لأنهم قومية، في حين يرفض اليمين السلام مع العرب إلاّ باستسلامهم دون قيد أو شرط؛ أي أنه بات يعتبرهم بدوره أغبياءً وأنذالاً.
اليمين الصهيوني أصبح حزب سلطة وليس حزب معارضة، وهو كحزب سلطة يكمل بالضرورة طريق حركة العمل الصهيونية التي انتهت بتثبيت الوجود. ولكن مع استمرار الصهيونية في طريقها كطريق اليمين الصهيوني الديني، تصبح أرض إسرائيل فوق دولة إسرائيل وتصبح الأمّة فوق الدولة، وشعب إسرائيل فوق الشعب في إسرائيل. وعلى أنقاض الصهيونية تبدأ الفاشية اليهودية بشقّ طريقها. نقيضها هو الواقع الجديد المركّب ضد تسطيحيّتها، والمتعدّد ضدّ وحدانيّتها، والمتمدّن ضدّ دينيّتها، والبيروقراطي ضد اندفاعها اللاعقلاني، والاجتماعي-الفردي ضدّ أهليّتها (من أهل) العضوية. ولكن الواقع الجديد أبكم وليس من فكر يستنطقه بعد، وما زال أبطاله يراوحون في الأطر الصهيونية النوستالجية دون أن يدروا أن مكمّل طريق الخطاب الصهيوني القديم الذي يستحضرونه ويتوقون إليه هو الفاشية اليهودية.
وضعت الفاشية اليهودية أسس تحويل دولة ذات سيادة إلى غيتو يهودي جديد قائم على استحضار روح الأمّة العضوية، كعائلة يهودية تنفي مع الآخر العربي الفردية والمواطنة، وتذيب في دفئها جليد سيادة القانون عندما يتعلق الأمر بيهودي ابن العائلة.
لقد كانت الصهيونية تيار أقلية في اليهودية. ثم أصبحت اليهودية تيارًا في الصهيونية. لم تعدْ للصهيونية جدلية خارجها في الإطار اليهودي، ولذلك فقدت معناها الموحّد بفقدان تميّزها. وكما فقدت الصهيونية تميّزها، ما عدا كونها أيديولوجية تبريرية، فقد العداء للصهيونية معناه، إلاّ كصراع مع ايديولوجية تبريرية. ولكن حتى هذا الصراع لا يتمّ إلاّ بملازمة الواقع الجديد، الواقع الذي أنجبته الصهيونية. إنه ليس عداءًا للصهيونية بالمعنى القديم إلاّ في الصراع على كتابة التاريخ. أمّا في الواقع المعاش فيجري الصراع مع الفاشية اليهودية التي حلّت محلّ صهيونية المؤسّسين ضمن جدلية الجوهر، بعد أن حققت الصهيونية ذاتها في جدلية الوجود. فنفي الوجود لم يعدْ ممكنًا، والممكن الوحيد هو نفي الجوهر وانبعاث الصراع على وجود من نوع آخر.
(*) المصدر: مجلة الكرمل ، عدد 53 ، خريف 1997