د. عزمي بشارة
لا نكتب هذا المقال على المستوى "شبه النظري" الذي ينتج (أو يدحض) مقولاتٍ من نوع أن العنف مطبوعٌ في الإسلام، أو في الدين والمقدس عموماً، (أو حتى في جوهر الإنسان، ولمَ لا ما دامت مقاربة العنف تنطلق من جواهر ثابتة؟)، فليس هذا شاغلنا. نحن نقصد العنف السياسي المترتب على العوامل التالية:
أولاً، فرض معايير وسلوكيات محددة على الناس، باعتبارها مشتقةً من واجباتٍ دينيةٍ مطلقة، واعتبار هذا الإملاء في صلب مهمة حركةٍ دينيةٍ سياسيةٍ ما، وتعريفها لذاتها. ما يخالف فهم كثير من المتدينين للجوهر الإيماني الديني، باعتباره قائماً على خيار حر. وغالباً ما لا ينتظر مثل هذه الحركات حتى الإمساك بدفة الحكم، لفرض إملاءاته على الناس، فقد يبدأ بممارسة الإملاء، وهو في المعارضة.
ثانياً، اعتبار العنف وسيلةً وحيدةً للوصول إلى الحكم، بتشويهٍ بالغ للجهاد (حتى يصعب التعرف إليه). ويقوم هذا التعريف على تكفير الحاكم المسلم وغير المسلم، والمجتمع نفسه، ورفض سبل العمل المتصالحة نسبياً مع الواقع، ولو في سبيل تغييره.
ثالثاً، فقدان الأمل من التغيير بدون عنف، وتراكم الإحباط والنقمة على المجتمع والدولة والآخر بشكل عام، وذلك بعد تذويت ما يمكن اعتباره تكفيراً للمجتمع، وهجرة معنوية منه بتكوين مجتمع إسلامي بديل، يتم الانطلاق منه، لفتح معاقل الكفر (دار الحرب) كلها، وتأسيس دولة الخلافة الإسلامية.
رابعاً، مراكمة نفوس ذات مزايا متفاوتة انطوائية، حسّاسة جداً، أو حادة وانفعالية الطابع للغضب الشديد، نتيجة للتعرّض لظلمٍ بلا مخرج من نوع الإذلال المستمر والتمييز العنصري والتعذيب في السجون وغيره. (وقد يشمل المصدران الأخيران فئاتٍ آمنت بالتدرّج والإصلاح والخيار الديمقراطي، لكنها صدمت من ردة فعل النظام، أو عنف الثورة المضادة، في قمع تطلعاتها وتحركاتها السلمية).
خامساً، العنف الناتج عن عناصر جنائية إجرامية، أو على حافة الجنائية، تجد في الحركات الدينية المتطرفة ملاذاً للندم والتكفير، ومواصلة العنف في الوقت نفسه.
لا يدخل ضمن روافد العنف الديني أعلاه ذلك العنف السياسي غير المدفوع دينياً، والذي قد يقوم به متدينون وغير متدينين، كدفاع عن النفس، وكرد فعل على عنف الأنظمة في مراحل الانتقال العاصفة.
لقد تقاطعت هذه المصادر الخمسة وغيرها (العنف الطائفي مثلاً) في عنف تنظيم الدولة الإسلامية الذي نشأ عن درجةٍ من درجات تطور السلفية الجهادية، في ظل الاحتلال والحكم الطائفي، وذلك بعد استبدادٍ مديد. التقت في العراق عوامل مثل تجربة تنظيم القاعدة في أفغانستان وتفرّعاتها في العراق، ونظام استبدادٍ في أجواء حصار وعزلةٍ دوليةٍ، يشن حملة إيمانية تشجع مظاهر التدين ويعادي الحركات الإسلامية في الوقت نفسه، والمعاناة في سجون الاحتلال الأميركي، ثم سجون النظام الطائفي ذي النزعات الاجتثاثية الانتقامية. ويحمل بعض قادة التنظيم "فضائل" هذه المراحل، وندوب تجربتها في سيَرِهم الذاتية. وقد أضاف تهميش العشائر العربية التي أصبحت تسمى عربية سنية، وإقصائها إلى درجة الإذلال، بعد مرحلةٍ من استخدامها ضد تنظيم القاعدة، بعداً شعبياً للتنظيم.
مشكلة هذا التنظيم أنه بلغ في "فقه التوحش"، وإدارته وتظهير العنف والتفنن فيه، درجة تنفير الجمهور منه؛ كما أنه احتكر الحقيقة المطلقة، وتكفير كل من لا يبايع خليفته باتهامه بالرّدة والخروج. ومع أن تنظيم الدولة يشكل امتداداً لنموذج طالبان (بسط السيطرة على الناس) وتنظيم القاعدة (الدعوة العالمية للجهاد) معاً، إلا أنه، خلافا لطالبان، لم يُمسك بالحكم في دولةٍ، بل يقيم دولته على أراضي دولٍ قائمة أصلاً من دون أن يمسك بالحكم فيها.
لقد ساق تنظيم الدولة خطاب الإسلام السياسي السلفي الجهادي إلى أقصاه، أو استغله أداةً تعبويةً حتى استنزفه. ونقصد بذلك خطاب الحركات الإسلامية التي لا تؤمن بالتدرّج عبر "أسلمة المجتمع"، وإصلاحه بالدعوة والإرشاد، أو عبر تقديم النصح والمشورة للحكام، بل ترى إعلان الجهاد على المجتمع الكافر، وضرورة إمساك الدولة لفرض الإسلام الصحيح، إسلام السلف (كما يتخيّلونه طبعاً). كما ساق رفض المواطنة، فكرةً وممارسةً، والإصرار على تقسيم المجتمع، بموجب الطائفة التي ولد إليها المرء، أو بموجب صحة عقيدته، إلى درجة إعلان الحرب على جزءٍ كبير من المواطنين الذين يسميهم "الرافضة" و"الكفار" و"المنافقين" وغيرها من التسميات.
ولأنه دفع بهذا الخطاب إلى أقصاه، مصطدماً وجهاً لوجه بالدنيا (المجتمع والدولة والعالم)، فقد أدخله في أزمةٍ تتلخص بنفور العرب والمسلمين والناس أجمعين. لقد زجّ به ببساطة في صراعٍ مع متطلبات حياة الناس اليومية الحديثة (التعليم، والعمل، والطبابة، والتنقل، والفن والحس الجمالي، وتحقيق الأمن والاستقرار). والمشكلة أنه فعل ذلك كله معتمداً على نصوص دينية، وتفسيرات فقهية سلفية لهذه النصوص. وبعضُها يُدرَّس في مدارس بعض الدول العربية، ما جعل بعضهم يستنتج أن الذنب ذنب النصوص نفسها، فماذا فعل هؤلاء الشباب سوى تطبيقها؟ مثل هؤلاء ما كان يسرعون إلى مثل هذا الاستنتاج لو كان مطلعين على نصوصٍ من ديانات أخرى، مثل التوراة والتلمود، فهي تتضمن ما هو أعنف بكثير، وأكثر دمويةً، إلى درجة الحرج من اقتباسها.
ليس النقاش مع تنظيم الدولة لاهوتياً دينياً، أو فلسفياً، أو فقهياً حول تفسير النصوص. وفي رأيي، لم يعد التحدّي متعلقاً بالنصوص التي تعرّضت لأنواع النقد والتحليل والتأويل والتفسير والتمحيص كافة، ولا أظن المتطوعين لتنظيم الدولة يقرأون هذه التحليلات، أو يعبأون بها أصلاً. ويفترض أن يدور النقاش حول الظروف التاريخية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لنشوء قوىً تصر على ممارسة هذه النصوص حرفياً، وكأنها برنامج عمل، يتضمن سياسيات وإجراءات وإرشادات.
هذا التجلي العنيف على نحو استثنائي لمّا سماه الإسلام السياسي عموماً "تطبيق الشريعة"، سوف يزجّ بكل من رفع هذا الشعار في المأزق. تماماً مثلما تسببت ممارسات بول بوت وستالين، وفشل تجربة الاتحاد السوفييتي بأزمةٍ للتيارات الشيوعية عموماً، حتى تلك التي انتقدت السوفييت. إذ تبين أن الجمهور المصدوم لا يميز كثيراً بين هذه الألوان داخل ما يعتبره التيار عينه، فكل من يستخدم عبارات اليسار مثل "الاستغلال الطبقي" و"ملكية الدولة وسائل الإنتاج" أصبح يربط ب"تجلي حقيقة هذه الشعارات" في معسكرات الاعتقال في سيبريا، وفي الفشل الذريع في التنافس مع الرأسمالية. وليست عدالة مثل هذه الأحكام موضوعنا هنا، بل ما ينتج عنها.
ومن شأن العنف الذي تجلى في ممارسات تنظيم الدولة، وتعامل هذا التظيم مع منجزات التمدّن العربي والإسلامي، وصدمة الناس منه، وعزلته العربية والإسلامية والعالمية، أن يؤثر على مجمل تيار الإسلام السياسي الذي يستخدم المصطلحات نفسها في خطابه، حتى لو اختلف مع تنظيم الدولة على الأساليب، وحتى لو كفّره تنظيم الدولة وحاربه. سوف تزج أزمة ما بعد تنظيم الدولة بتيارات الإسلام السياسي في عملية مراجعات. سوف ينتقد بعض المثقفين الإسلاميين الصمت على التطرّف والاستهانة به في بداياته، وآخرون سوف ينتقدون طريقة الاعتماد على النصوص كتطبيق للشريعة في عصرنا، وسوف يذهب بعض الآخرين إلى حد نقد النصوص نفسها. المهم أن طريق تنظيم الدولة لا يفضي إلى دولة خلافةٍ، بل إلى مأزق العنف السياسي المدفوع دينياً.