شباب يتم إعدادهم كورثة في أنظمة حكم ما زالت تشكل حالة كاركاتيرية من البونابرتية المـتأخرة والدولة المملوكية والدولة السلطانية. ولسبب ما يبدأ هؤلاء جميعا طريقهم بخطابات ضد الفساد. وهم من ظواهر الفساد الرئيسية. يحيط بهم خريجو جامعات طموحون نيولبراليون يتظاهرون أنهم ديمقراطيون.
• تنفجر حرب ويوقف إطلاق النار، تنشأ أزمة ثم تختفي بحل أو دون حل وتتصدر جميعها الأخبار ثم تتوارى تدريجيا، وفي كل مرة يكتشف الناس من جديد أن الاغتيالات تواصلت في فلسطين، وأن الحصار التجويعي على غزة والضفة مستمر ولكنه لا يبحث فقط، و أن قضية فلسطين ثابتة في المتحولات وتزداد تفاقما. جرح لا يتوقف عن النزيف.
• يبحث في القوات الدولية بجدية كأن إسرائيل ضحية وتحتاج إلى حماية من لبنان...كما يبحث فيها لفرضها على السودان في دارفور. وحيث تلزم حماية فعلا لشعب من قوة الاضطهاد والاستبداد الغاشمة في الضفة الغربية وقطاع غزة، يعتبر رفض إسرائيل لقوات دولية قانونا، وحالة طبيعية، تجعل المطلب يبدو غير واقعي.
• رولف بليتسر من "سي أن أن" يستجوب المالكي رئيس حكومة العراق استجوابا كأنه متهم هل يعترف بإسرائيل أم لا. والثاني يتلوى ولا يجد الجرأة ليقول على الأقل أن هذا آخر هم بالنسبة له. بلده دمر ويدمر، ومواطنوه تتبعثر أشلاؤهم في الأسواق إلى درجة أنه بات يمرر إلى المكان الثاني في النشرة الإخبارية إذا تجاوز القتل اليومي فيه الخمسين قتيلا. ولكن هذا ما تجده الآن وسيلة إعلام أميركية مهما في العراق حتى لو لم يبق فيه حجر على حجر، وعلى رئيس الحكومة أن يجيب على السؤال.
• انقسام إلى محاور بوضوح غير مسبوق. يرافق هذا الانقسام تبديل في المواقع حسب الحاجة كأن الزعماء يلعبون لعبة الكراسي: من السخرية من الهوية العربية والقومية العربية إذا استثمرت في الحداثة وضد إسرائيل وضد التجزئة الأميركية للعراق وضد نزع الصفة العربية عن المنطقة مثلا إلى تبني الهوية العربية فجأة ضد إيران. يكاد المرء يصاب بالدوار وهو يسمع موقفاً رسميا معروفا بعدائه للقومية العربية يدافع عن الهوية العربية. إذا كان هنالك ما هو مفيد في التأكيد على الهوية العربية، فهو لا طائفيتها، فكيف باتت تستخدم كأنها أداة طائفية؟
• محاصرة حكومة فلسطينية منتخبة، واستمرار تدمير المجتمع الفلسطيني، ووفود دولية تلتقي الرئيس الفلسطيني وتقاطع الحكومة الفلسطينية المنتخبة ديمقراطيا. وفي لبنان وفود دولية تلتقي الحكومة ولا تلتقي الرئيس. حيث توجد انتخابات لا يعترف الغرب بجزء من النتائج على الأقل. فقط في الديكتاتوريات العربية الموالية لأميركا لا يوجد إشكال في استقبال الوفود.
• لم تتمكن أميركا من إصدار أمر لبعض الدول غير العربية مثل روسيا وتركيا للامتناع عن استقبال وفود أعضاء حكومة منتخبين عن حركة حماس (السنية!!)، ولكنها منعت دول عربية من استقبالهم. نفس الدول العربية التي تهاجم حزب الله لشيعيته حاصرت حماس السنية. المسألة مسألة محور موال لأميركا، لا شيعة ولا سنة.
• استثارة غير طبيعية وغير مسبوقة لنعرات طائفية تحول المذهبية الشيعية السنية إلى طائفية يفترض أن تتعصب الناس لها كأنها نوع من القبلية والعشائرية. تسعى الأنظمة غير الديمقراطية الحديثة عادة إلى الاستناد إلى إيديولوجية وحدة الأمة، وتجعل من نفسها ممثلا لها كمصدر للشرعية. في الوطن العربي أنظمة غير ديمقراطية تستثير نعرات طائفية وتفتت وحدة الأمة من أجل البقاء في مقاعدها.
هذا غيض مما تفيض به نشرات الأخبار على المواطن العربي، ولذلك ليس مستغربا أن يجد المواطن المصاب بالدوار عزاء في أن:
• الشعوب العربية فاجأت ورفضت آفة الطائفية في حالة المقاومة ضد الاحتلال، إذ كان التضامن العربي مع المقاومة اللبنانية شاملا. وثبت أيضا أن الهوية العربية قائمة رغم كل التريب والتشكك. فلم نشهد في حالة أفغانستان وطالبان (السنية حسب هذا المنطق المؤسف) في أيام تعرضها لعدوان أميركي ولا حتى أقل من هذا التضامن العربي الذي شهدناه مع المقاومة اللبنانية (الشيعية بموجب نفس المنطق). الرابطة العربية والعداء للسياسة الأميركية والإسرائيلية تغلبت على الرابطة الطائفية التي يراد زرعها كنظام سياسي.
• الناس تأثروا بنموذج المقاومة وقدرتها على صفع العدوان الإسرائيلي ومعه جملة أفكار عنصرية عن العرب، هذا التأثر هو خميرة مهمة للتطور على المدى البعيد.
رفعت المقاومة اللبنانية المعنويات العربية بحق، خاصة مقابل أو على خلفية الصورة الكارثية المرتسمة أعلاه. وسوف نسمح لأنفسنا بعد كل التقدير الذي نالته المقاومة منا في أيام صعبة وفي أيام احتفالية ببعض النقد لنموذج كان يجب أن يحافظ على نفسه بشكل أفضل في هذه الأيام. لقد وقفنا معه عندما صمت آخرون، وفي ظروف غير احتفالية زمنا وموقعا. نقول ذلك لا تمنينا، بل لأننا نعتبر الموقف في هذه الحالة سابقا على النقد ومقدمة ضرورية له. فالحرب على المقاومة لم تنته، وضروري أن نفهم من أي موقع يأتي النقد حتى لو ردد نفس الكلام. لقد سمعت من أعداء المقاومة نقدا كنت أقبله أو أعتبره قابلا للمناقشة لو جاء من موقع دعم المقاومة، ولكننا نرفضه عندما يتضح أنه كلام حق يراد به باطل، أو أنه يهدف للإحراج لا للإقناع، ونعتبر أن هدفه ليس مصلحة المقاومة بل النيل منها.
فمثلا، نحن نتوقع من الحزب المدعوم إيرانيا ألا يتصرف تجاه إيران كما تصرفت الأحزاب الشيوعية تجاه الاتحاد السوفييتي كأنه معصوم. وإيران أكثر من غير معصومة. ففي العراق مثلا تقوم بدور السعي لتوسيع دور دولة إقليمية عظمى ولو على حساب التفتيت الطائفي للعراق. إنها دولة ذات مصالح وخلافا للكثير من الدول العربية تتصرف كدولة. ولا توجد هنا مسألة أخلاقية. ونحن نتفهم تماما وضع الحزب المعتمد على إيران من ناحية الدعم، ولكن لديه هامش حرية واسع ناجم عن شرعية المقاومة عربيا، وبإمكانه أن يستغلها دون أن يفقد دعم إيران.
ربما كان التواضع وقلة الكلام وكثرة الفعل والمثابرة والتنظيم والعقلانية في التحليل من مميزات حزب الله التي لفتت نظري منذ عقدين وطبع بها نهج المقاومة المميز والفريد، ولقد قيمته على هذا الأساس، وما زلت اعتقد أن انجازه الكبير هو في هذا النموذج الذي قدمه الذي يطرد عقد النقص ونظريات الهزيمة والإحباط المنتشرة شعبيا ونخبويا بصيغ مختلفة حول العطب الثقافي أو الوراثي في العرب.
ولكن بعد الإنجاز الأخير بإحباط العدوان الإسرائيلي، وربما قبله بقليل بدأت ألاحظ مظاهر مقلقة تتجاوز التعامل مع صور القادة في إيران كما تعامل الشيوعيون العرب يوما مع صور قادة المعسكر الاشتراكي كأنها إيقونات استبدلت الإيقونات الكنسية، إلى رفع صور قائد الحزب بشكل لا يليق به في كل مكان، من الأماكن العامة وحتى على السيارات والدكاكين والمحلات الخاصة. ولا شك أنها ظاهرة تختلف عن ظاهرة فرض صور الزعماء. ففيها الكثير من المحبة الشخصية العفوية للحزب وقائده، والرغبة بالمجاهرة بدعم المقاومة، وبالهوية السياسية، أو حتى الطائفية. ولكن ظاهرة تقديس الشخصية كانت غالبا خليطا بين الإيمان الشعبي والتشجيع الرسمي...ويفترض أن يحاول الحزب السياسي الذي يحمل ثقافة تحررية أن يسعى ليقلل أو يخفف من هذه الظاهرة لا أن يشجعها رسميا في مطبوعاته ونشره ووسائل إعلامه.
وعموما تنزعج الحركات السياسية والتيارات الفكرية من هذه الظاهرة لدى غيرها. فقد كان القوميون ينتقدون ظاهرة تقديس شخصية ستالين التي كانت مزيجا من التلاعب بعواطف الناس الدينية وفرض هرمية شبه كنسية في الحزب ومن القسر القهري لعبادة الشخصية، ولكنهم تعاملوا مع عبد الناصر وصوره كأنها إيقونات أيضا. واليسار الثوري الذي انتقد الإثنين تعامل بنفس الطريقة مع صور ماركس أو تشي جيفارا وغيرهم. مسألة الرمزية والمادة المحسوسة بدل الأفكار المجردة للجماهير مثل المزارات والتعاويذ وغيرها، مسألة مفهومة لا مخرج منها. ولكنها في النهاية تتجاوز ذلك إلى المس بأسس الفكر النقدي الذي يحاولون تجسيده عبر هذه الصور، بل تناقضه وتفرغه من أي مضمون. فإن جعل الرمزية في شخص، أي قائد، هو شخصنة للفكرة وترفيع للشخص إلى مرتبة فوق مستوى النقد...وهذا يؤثر في النهاية على طبيعة الفكرة ذاتها.
قدم حزب الله مثلا على قيادات، لا سلالات عائلية متوارثة، تحارب مع أبنائها على الجبهة وتدفع الثمن مثل باقي الناس، ولا ترسل أبناء الآخرين للقتال وأبناءها إلى خارج البلاد. وقد أكسبه ذلك احتراما تحسده عليه كافة القوى اللبنانية والعربية. ولا نريد أن يمس هذا النموذج بلوثة تقديس الشخصية.
لست من "المؤمنين" بالديمقراطية كحل سحري مستورد، أو كحجر الفلاسفة، وقد تعلمت من التجربة وليس فقط من البحث أن الديمقراطية الواقعية المتخيلة تعج بتزوير الإرادة الشعبية، ونفوذ المال، واستغلال آفات المجتمع الجماهيري من المشهدية والدجل الإعلامي إلى التشجيع على التعبير عن الرأي ومنع الناس من مقومات صنع الرأي بتجهيلها إعلاميا. ورغم كل نواقص الديمقراطية هنالك تنافر بين الديمقراطية وحكم المؤسسات وسيادة القانون من جهة، وبين فكرة تقديس الشخصية السياسية من جهة أخرى، حتى لو كانت شخصية محبوبة. وعموما يتم إقصاء ممارسة تقديس الأشخاص والنجومية في الديمقراطيات إلى "ديانات جماهيرية" أو "ديانات استهلاكية" تمارس في مجالات الفن الجماهيري مثل السينما والغناء والرياضة، خاصة كرة القدم، وحتى النجاح المجرد بحد ذاته يصبح أساسا لنجومية. أما في السياسة فلا يترك الحساب اليومي العسير مع السياسيين إلا مجالا لنجومية عابرة في فترات الإنتخابات مثلا. في العالم العربي يزداد تقديس الحاكم كلما ازداد هزال السياسة.
أقول ذلك وأنا أعلم أن جزء كبيرا من قيادة المقاومة يشاركني المبدأ، ولكنه يعتبر المسألة قضية تعبئة يمتزج فيها السياسي بالديني، وعفوية شعبية وكبرياء صحي ومفاخرة برموز المقاومة في وجه زعامات طائفية متوارثة ترفع صورها في مناطقها دون إنجاز يذكر. وهذا صحيح، ولكن للحزب دور في نوع الثقافة التي ينشرها.
فمثلا ما معنى أن تنتشر على الألسن عبارات بالنبرة التالية بعد الحرب: "أبنائي استشهدوا، فداء للسيد"، أو حتى "البيت هدمه القصف الإسرائيلي، ولمن لا يهم هذا البيت فدا رجل السيد"...ما معنى هذه الجملة؟ واضح أن التأكيد هو على الصمود والاستعداد لدفع الثمن وتحدي أولئك الذين يراهنون على دق إسفين بين قيادة المقاومة وبين من دمرت إسرائيل بيوتهم وحياتهم. وإذا كانت إسرائيل تهدف من وراء القصف تلقين الجنوبيين درسا ليتوقفوا عن دعم المقاومة يأتي الجواب من الناس: "هذا كله فدا المقاومة"، أو "فدا السيد حسن". هذا هو المقصود. وهو موقف تحدٍّ سياسي. ولكن الثقافة التي تعبر عن هذا الموقف السياسي باختصار كهذا، وباختزال كهذا: "فدا فلان" يصلح للعفوية في الجلسات الخاصة للناس، ولكن ترديدها مثل لازمة في محطات إعلامية للحزب، وليس في حديث خاص، يحولها إلى ثقافة مرغوب بها حزبيا.
وهذه تصلح ثقافة مقاومة للأجنبي فقط. ولكنها لن تكون ثقافة مقاومة لما هو قائم. وربما يفترض البعض خطأ أن تكون ثقافة المقاومة ثقافة بديلة للمشهد العربي الموصوف أعلاه برمته. وكنا قد سلمنا ضمنا بطابعها الطائفي الناجم عن الوضع اللبناني، خاصة وأنها تحاول هي لبرلته في العلاقة مع الطوائف الأخرى. وقد قدم حزب الله نموذجا لحزب ديني متسامح لا شك في ذلك. إنه حزب ديني، وليس حزبا طائفيا، ولكن الحزب الديني في النهاية يتخذ في مجتمعاتنا طابعا طائفيا. وهو على كل حال لم يقدم نموذجا غير طائفي. هذا هو، هذه بيئته، وهذا منشؤه. ولكن لشدة الإحباط من الصورة أعلاه يفترض البعض أنه ملزم أن يقدم بديلا شاملا. كفاه فخرا أن المقاومة تقدم بديلا منظما وجديا على مستوى المقاومة، هذا صحيح. إنها تقدم ثقافة مقاومة كثقافة رفض للهيمنة الأجنبية وتقديم الحلول بما في ذلك على مستوى التنظيم الحديث والعقلاني للحزب والقواعد الاجتماعية لكي يستطيع أن يقاوم، وليس بوسع أحد أن يتخيل قائدا من المقاومة يتلوى أمام صحفي أجنبي في الإجابة على سؤال الإعتراف بإسرائيل.
التغني بنموذج المقاومة الحالي يعزز الإرادة والتصميم الضروريين، ولكنه لا يحل مشكلة تقديم البديل الذي يفترض أن تخدمه هذه الإرادة وهذا التصميم. والتقليد هنا لا يصح إطلاقا، فطبيعة المهمة مختلفة..