في ذكرى النكبة ينشر موقع عــ48ـرب مقالا للدكتور عزمي بشارة نشره في أيار 1998 بمناسبة الذكرى الخمسين للنكبة، أي قبل ثماني سنوات، في صحيفة "الحياة" اللندنية و"فصل المقال" الأسبوعية الصادرة في الداخل. ونحن ننشر المقال لأهميته التي تؤكدها السنوات، ولأن د. بشارة لا يكتب مقاله الأسبوعي منذ أكثر من ثلاثة أشهر.. و"استجابة" لعشرات الرسائل التي تصل موقع عــ48ـرب متسائلة عن مقالات د.بشارة..!!
خمسون عاماً انقضت ولا نزال ندحرج صخرة سيزيف من أجل التوصل إلى "معنى للنكبة". تناقلت المهمة حركة بعد أخرى، ما أن صرخت واحدة في وجوهنا "وجدتها... وجدتها!" حتى اندثرت يرافقها رجع الصدى. وبعد النكبة جاءت "النكسة" ثم جاء الإنتكاس المستمر إلى العناوين التي تبدأ بكلمة "أزمة" وتنتهي بسؤال "إلى أين؟".
يذكر هذا الإنشغال بسؤال التنوير العربي الذي لا جواب له "لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟" فالعوامل التاريخية غير متناهية، وسؤال "لماذا؟" التاريخي لا إجابة عنه شافية، ومن الأفضل التركيز في أسئلة مثل: ماذا علينا أن نفعل؟ وكيف نتقدم نحو الهدف المحدد في السؤال الأول؟ سؤال لماذا هو سؤال فلسفي وأخلاقي وليس سؤالا تاريخيا.
بحثنا عن الخيار القومي العربي ليس لذاته، بل كأداة في مواجهة كارثة النكبة، وعن الخيار الديمقراطي ليس لذاته بل لمواجهة تحدي النكسة، وحتى الخيار الديني لم يسلم من اعتبار ذاته الطريق الوحيد لمواجهة سلسلة النكبات والنكسات. اعتبر الموضوع مسألة تحد وكرامة، ولذلك طرحت الخيارات السياسية والثقافية كأنها مجرد أدوات في مواجهة التحدي. تغيرت تفسيرات "معنى النكبة" وتطلب التغيير تغييراً في الوسائل، ولكن التحدي بقي هو ذاته لا يتغير، ثابتاً قدرياً أزلياً وهازئاً من اختلاف الأدوات التي تهزم في مجتمعاتها ذاتها قبل أن تجرب عليه.
لم يخطر بالبال أن إسرائيل لم تطور خيارها القومي كأسلوب في مواجهة العرب بل من أجله ومن أجل ذاتها، لأنه الطريق الوحيد لتنظيم الدولة الحديثة. لقد كان الخيار القومي هدفاً بالنسبة إلى الحركة الصهيونية. وغاب عن البال أن إسرائيل لم تعتمد قواعد اللعبة الديمقراطية وسيادة القانون داخلياً لأنها أفضل الأدوات في مواجهة العرب، بل من أجل ذاتها، لأن الديمقراطية، كخيار سياسي – ثقافي وكعلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة، هي قرار وطريق تختاره النخبة السياسية الثقافية لنوع الإنسان الذي تريده والمجتمع الذي تبغيه في دولتها هي دولة اليهود، لا من أجل العرب ولا ضدهم.
علينا أن نسأل إذاً عن معنى غياب الخيار القومي، وعن معنى غياب الديمقراطية وسيادة القانون، وعن معنى كرامة الإنسان والمواطن في مثل هذه الحالة. علينا أن نسأل عن معنى الرشوة والفساد، وتناقضهما مع الحداثة والتحديث ومع مبدأ الإنسان المناسب في المكان المناسب، ومع عملية اتخاذ القرار بناء على اعتبارات في الموضوع وليس خارج الموضوع – علينا أن نسأل هذه الأسئلة ليس كاشتقاقات من الصراع مع إسرائيل أو كأسباب للنكبة، بل نسألها لذاتها ولذاتنا – حتى لو كانت هنالك علاقة تاريخية بين الموضوعين يجب الفصل بينهما بنيوياً لكي تتغير العلاقة الأداتية مع هذه المواضيع.
وبعد أن يصبح حضور هذه حاجة ويتم التساؤل عنها، نتوسل وسائل استحضارها، عندها فقط يصبح السؤال عن معنى النكبة مشتقاً من حاجات المجتمع العربي المعاصر وإمكاناته وضروراته.
سؤال المنكوبين عن معنى لنكبتهم يذكر بتساؤل أصدقاء المتوفى المذهولين وقد تحلقوا في بيت العزاء عن معنى وفاته، ولماذا هو بالذات، ولماذا لم يستمع للنصيحة ويقلع عن التدخين، إلى أن تأتيهم ملاحظة أحد المتذاكين عادة في مثل هذه المناسبات عن صديق له يدخن ولم يمت حتى اليوم، مفتتحاً لذلك سلسلة من التفسيرات لمعنى الموت لا تنتهي إلا بإعلانات مثل "تعددت الأسباب والموت واحد" و"هذا قدر الله لا رادّ له". عندها يصبح تفسير النكبة ندباً.
لم تكن نكبة فلسطين موتاً أو قدراً محتوماً بالطبع، ولكن لا معنى لاشتقاق مهمات المجتمع العربي من معناها المزعوم، فنحن لا نعيش لكي نواجه الموت، بل نعيش لأننا نفترض أن للحياة معنى، وإذا كان للموت من معنى فهو مشتق من فقدان معنى الحياة.
النكبة كسر في التاريخ الفلسطيني الحديث، ولا يوجد تاريخ فلسطيني (سياسي) غير حديث، فقد اقتلع المجتمع الفلسطيني من الساحل الفلسطيني، وهدمت المدينة الفلسطينية، وهدم معها حلم ما بين الحربين العالميتين، حلم النخب العربية والطبقات الوسطى ببناء الوطن العربي المستقل واللحاق بالحداثة، وفقد الفلاح الفلسطيني الذي كان يصارع طبيعة البلاد بمعوله من خلال الإنسجام معها، فقد هذا الصراع، وبعدما كانت أحلامه الصغيرة مغزولة بعبق المكان ورياحينه وبتسكع الزمان المتثاقل كناعورة تديرها الطقوس الموسمية، باتت أحلامه سياسية ومرهونة بإرادة السياسيين وموازين القوى والقرارات الدولية، وأصبحت طقوسه مؤتمرات موسمية تدعو للعودة وراديو "ترانزستور" يعده بالتحرير، واختزل عبق المكان إلى حنين فلاحين ونوستالجيا من بتحدث بإسمهم.
والنكبة كسر في التاريخ العربي الحديث، لأنه بات بعد النكبة تداعيات من ردود الفعل عليها احتلت فيها جدلية العلاقة مع الخصم، مع العدو، مكان جدليته الداخلية. صعق العرب بما حصل ولكن الإنصعاق المشترك كان بداية العروبة الحديثة، عروبة الأنظمة، خلافاً لعروبة الفكر والحركة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، واعتبروا ما حصل معهم زلة وهفوة من هفوات الزمان، وكذبة مزعومة على وزن دولة إسرائيل المزعومة.
انسحب الفلسطينيون من المكان إلى الزمان العربي المأمول، هجروا وشردوا من أربعمائة وثمانية عشر مكاناً، كانت قبل الشتات منشغلة في توحيد أزمنتها الريفية المختلفة في زمان قومي واحد يعكس في مرآة الإنتداب، هجروا وشردوا إلى مدن غريبة لم تستوعبهم لأنها لم تستوعب ذاتها بعد، فشكلوا أحزمة من الخيام تحولت إلى أحزمة من أحياء الفقر المشتركة لهم وللمهاجرين من الريف، ولأن الأماكن العربية الجديدة لم تتوحد في زمان قومي واحد سرعان ما عاد الوافد الفلسطيني المرحب به غريباً في المكان مرفوضاً كما ترفض المغتصبة رغم الظلم الذي لحق بها، لأن الشعور الرجولي بالعار أقوى من الشعور بالشفقة. ولكن الفلسطيني بقي ضيفاً مرحباً به في الأيديولوجيا، وما لبث أن فهم ذلك فاستوطنها حصناً منيعاً ولو كان الثمن المشاركة في تزييف وتقنيع الواقع المر.
الأيديولوجيا ملاذ أمين عند أنظمة عربية إذا عادت نظاماً آخر راحت تعادي مواطنيه كأنهم رهائن وكيف تعادي مواطني البلد العربي غير المرغوبين؟ بالأساليب البائسة المتوفرة في جعبتها، بالبهدلة على الحدود.
الحالة الفلسطينية بعد النكبة هي حالة جيل كامل "تبهدل" على الحدود العربية. أنه جيل كان يستخدم كلمة النكبة عندما تنفق بقرة أو يموت حصان، فيقولون "فلان انتكب" لأن بقرته ماتت. هذا الجيل اضطر أن يستوعب فجأة نكبة جماعية حقيقية لم يحلم بها، نكبة فقدان الوطن أو البلاد، كان ذلك بمفهوم القرية الضيق أو مفهوم الوطن السياسي، نكبة الغربة والسير على الأقدام مسافات لم يحلم بقطعها في البحث عن مأوى إلى أن تنجلي العاصفة كما وعدوه.
لا يمكن نسيان النكبة لأنها حولت التاريخ العربي وتاريخ العربي عن مساره. ونجد أنفسنا بعد خمسين عاماً من المأساة الفلسطينية المستمرة والتأسي العربي، نحذر من اعتبار النكبة حالة من فقدان الذكورية العربية، تقمع ذاكرتها وتكنس إلى اللاوعي متحولة إلى هستيريا جماعية تارة مع الفلسطينيين وطوراً ضدهم، مرة باعتبارهم سبب البلاء (1948)، ومرة باعتبارهم أعادوا للأمة كرامتها (1967). ولذلك نجدنا نحذر من قلب ذاكرة النكبة إلى علاج نفسي جماعي يبحث في لاوعي الأمة. تفقد الذاكرة في مثل هذه الحالة دورها ووظيفتها في مواجهة ما حل بالعرب من تعثر في مسيرة حداثتهم. لا يمكن نسيان النكبة لأنها حولت القومية من خيار قومي هادئ متصالح مع ذاته يسعى إلى توحيد أبناء ذات اللغة وذات التاريخ وذات الحلم الحديث بالسيادة إلى خيار أيديولوجي متشنج يزيد الأيديولوجيا تطرفاً كلما ازداد القصور في الواقع.
ليست ذكرى النكبة إحياءً لفردوس مفقود موهوم كان قبل النكبة، هذه ذاكرة ميثولوجية تجعل من النكبة انتصاراً فجائياً للشر في صراعه مع الخير، وكارثة طبيعية حلت كلعنة على هذا الفردوس.
كانت فلسطين، مثلما كانت كل بلاد الشام وبلاد العرب، تستيقظ على الحداثة وتتعرف على أولياتها بواسطة المستعمر ومؤسساته والتعليم الحديث وبعض التكنولوجيا الواردة. وكانت فلسطين تشيد مدينتها، ولكن سوادها الأعظم كان مدينياً بسيطاً معدماً يفتقر إلى التواصل مع بعضه. ما كان بوسع حالة ما قبل النكبة أن تبدأ بفهم النكبة، ناهيك عن أسبابها الأوروبية والدولية – ومن الظلم تقويم رفضها أو قبولها لقرار التقسيم في حينه. وعندما حلت النكبة، أي عندما أعلن قادة "اليشوف" اليهودي استقلال إسرائيل وباشروا باحتلال أجزاء فلسطين التي خصصت للدولة العربية، كانت القدرة الفلسطينية على المقاومة قد استنزفت تماماً في انتفاضة 36-39. ومع ذلك قاوم الفلسطينيون بما أوتوا من عدد وعدة. ولكن لا هم فهموا ولا الأنظمة العربية المحيطة فهمت حجم وقوة المشروع الصهيوني الذي دفع إلى المعركة بقوة أكبر من المقاتلين لا من حيث العدة فحسب بل من حيث العدد أيضاً. واقصد قوة أكبر من مختلف "الجيوش" العربية التي دخلت فلسطين عام 1948.
لقد هزمت الأنظمة لأنها لم تشارك فعلاً أو شاركت محكومة بصراعاتها (ومؤامراتها)، وهزم الفلسطينيون لأنهم أساؤوا التقدير والتوقيت – وانتصرت إسرائيل لأسباب ثلاثة نختارها من قائمة لا نهائية من أسباب الظاهرة التاريخية:
1. لأن المشروع الصهيوني ارتبط بالمشروع الإستعماري وتم تبنيه من بين مهمات الإنتداب البريطاني على فلسطين.
2. لأن موجات العداء للسامية اتخذت في أوروبا شكلاً لا سابق له هو شكل المحرقة النازية والإبادة الجماعية.
3. لأن القيادة الصهيونية نجحت في بناء المؤسسات السياسية والإقتصادية والعسكرية في ظل الإنتداب، ولأنها كانت قيادة براغماتية وعقلانية تحسن التوقيت، والتقدير للقوة الذاتية ولقوة الخصم.
لقد بدأت الذاكرة العربية للنكبة بإنكار هذه الأسباب واستنكارها بدلاً من مواجهتها، هكذا تراوح التفنيد الأول بين الإدعاء أن بريطانيا لم تفهم مصلحتها الحقيقية، وبين الإدعاء أن النكبة هي نتاج مؤامرة بريطانية صهيونية رجعية عربية.
وتخبطت العلاقة مع السبب الثاني، أي العداء للسامية في أوروبا، بين إنكاره واعتباره افتراء صهيونياً وبين التقليل من حجم وأهمية المحرقة النازية ومقارنتها غير المبررة وغير المفهومة مع النكبة الفلسطينية. وذهب بعضنا في ساعة غضب إلى الهذر بأن اليهود يستحقون ما يحل بهم أينما حلوا. لقد تخبط العرب في التعامل مع وصمة عار في جبين أوروبا والحضارة الغربية لا ناقة لهم فيها ولا بعير، ولم يكن الإعتراف بالواقع في أوروبا ليضيرهم بشيء، فهذا الواقع لا يبرر أخلاقياً اقتلاع شعب آخر خارج أوروبا، وإنكاره لا يمنع من إضافته سبباً إلى أسباب النكبة لأن الصهيونية أحسنت استخدامه واستخدام الإرتباك العربي في التعامل معه.
ما أسعد أوروبا بإزاحة عبء الضمير والشعور بالذنب عن كاهلها وإلقائه على كاهل العرب. إسرائيل تتواطأ مع أوروبا فتريحها من التعامل بجدية مع ماضيها فتفصل بين المسألة اليهودية في حينه ومسألة العنصرية الأوروبية ضد "الأجانب" في حيننا، وأوروبا تتواطأ مع إسرائيل في إلقاء عبء العداء لليهود على العرب، وتشاركها الإحتفالات بالإستقلال كأنها احتفالات عالمية بتأسيس الأمم المتحدة. والفلسطينيون الذين لا يرون هذا السياق يمارسونه من دون أن يروه إذ يحسبون الإهتمام الدولي بهم اهتماماً بهم حقاً وهو في الواقع اهتمام بإسرائيل وبالمسألة اليهودية.. وتتحول القضية الفلسطينية إلى صناعة عالمية من الندوات والمؤتمرات والأبحاث داخل الهوية اليهودية وفي العلاقة اليهودية - الغربية يلعب فيها الفلسطيني دور ال"كومبارس" المرافق من دون أن يدري. ولكن هذه الصناعة باتت تستوعب نخباً عربية وفلسطينية كبيرة نسبياً تعتاش على "القضية".
ويرفض بلد عربي استقبال اثنين من اليساريين التقدميين اليهود المعادين للصهيونية بجواز أميركي وآخر مغربي.. فاق أحدهم في خدمة القضية العربية بكتاباته التي لم يمولها أحد عشرات مؤسسات الدعاية العربية بكتاباته التي لم يمولها أحد عشرات مؤسسات الدعاية العربية التي تبذر الملايين على الندوات والكلام الفارغ وعلى "صناعة القضية" – لقد رفض دخولهما للمشاركة في إحياء ذكرى النكبة لأنهما يهوديان.
وفي هذا البلد نفسه تتم معاملة الفلسطينيين كما كان يعامل اليهود في أوروبا القرن الثامن عشر، إذ تتم محاصرتهم في غيتوات ويمنعون من العمل ويفقدون إقامتهم عند السفر. ويصرح رئيس الدولة في ذلك البلد لصحيفة "يديعوت أحرونوت" من بين الصحف كافة، أن الفلسطينيين كانوا سبب كل مصائبه. أما المدافعون عن الفلسطينيين وحقوقهم فليسوا بحاجة إلى الإختفاء وراء العداء للسامية، فالوطنية ليست ملاذ الأنذال.
وليس مصير ثالث الأسباب بأفضل من سابقيه، إذ يتم إنكاره إنكاراً تاماً، وكأن الصهيونية لم تكن إلا كذبة اخترعها الإستعمار لتكون رأس حربة امبريالية في المنطقة. وما الديمقراطية والمؤسسات إلا كذبة دعائية حول واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط. هنا ينتقل العربي الذي يريد أن "يفهم" النكبة فجأة إلى اعتبار المؤسسة الصهيونية عجيبة سماوية حقيقية لا بد من الإنسحاق أمامها وإلغاء الذات. وإذا ما أحرج العربي الراغب بالفهم قليلاً أكد لك أنه يريد السلام مع إسرائيل حتى بدون تحقيق العدالة للفلسطينيين وللعرب، ليس بسبب إعجابه بإسرائيل، بل لأن ما يوحد إسرائيل هو الحرب، ولن يمهل السلام أياً كان هذه الوحدة طويلاً، إذ أن إسرائيل سوف تنهار تحت وطأة خلافاتها الداخلية وتناقضاتها.
لم تكن التعددية في الإطار الصهيوني دليل ضعف بل دليل قوة، وتدل قدرة هذه التعددية على تنظيم ذاتها، على أساس قواعد لعبة ديمقراطية، على وجود ثوابت إجماع قومي تشكل مادة لاصقة للمشروع الصهيوني. والطامة الكبرى أن أولئك الناس الذين وفدوا إلى بلادنا لم ينحدروا من قومية واحدة أو من ثقافة ديمقراطية في دولهم، ولكنهم نجحوا في تشكيل رابطة قومية تصلح أساساً لتثبيت قواعد لعبة ديمقراطية أهلية لليهود.
في حين لا تزال الأمة العربية، بعد خمسين عاماً على النكبة، تخشى احترام قواعد لعبة ديمقراطية مخالفة أن يؤدي ذلك إلى الإنحلال إلى فرق وشيع وقبائل وعشائر. لن تفلح ذاكرة النكبة في إقامة نظام مؤسسات وديمقراطية في الوطن العربي ولا في تحقيق وحدة عربية، فالذاكرة التاريخية أيديولوجية تصيغها المصالح المختلفة والأنظمة وكتب التدريس، وتعيد إنتاجها على شكلها وصورتها. لن تندرج هذه المهمات ضمن مواجهة النكبة أو النكسة وإنما ضمن مواجهة الديكتاتورية وانعدام سياسة القانون وشخصنة الحياة السياسية. ولن يتم حل هذه المسائل إلا إذا تحولت إلى أهداف في حد ذاتها. ولكن ذاكرة النكبة ضرورية ضرورة الماء والهواء لهذه الأمة، إذ لا توجد هوية قومية من دون ذاكرة قومية جماعية. والنكبة مثل سايكس – بيكو وحرب حزيران محطات في تشكيل الهوية العربية الجماعية مقابل نقيضها. ولكن النكبة هي المحطة الأكثر أهمية في تشكيل الهوية الفلسطينية الحديثة بإيجابياتها وسلبياتها.
ولكن لذاكرة النكبة بعداً سياسياً قلما يتم تناوله والتحدث عنه في مرحلة "العملية السلمية"، رغم أنه البعد الأهم للعملية السياسية ذاتها. فلا يمكن اعتبار الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، إذا كانت كاملة السيادة، لا يمكن اعتبارها حلاً وسطاً إلا إذا اعترف بأن المأساة الفلسطينية لم تبدأ في العام 67 وإنما في العام 48. وحتى الدولة الثنائية القومية هي حل وسط بهذا المنظور، إذ يسبقها الإعتراف بأن هذه البلاد كانت عربية قبل أن تتعرض إلى عملية سطو مسلح في وضح نهار القرن العشرين.
البدء في التأريخ لـ"القضية" باحتلال عام 67، يعني أن يكون الحل الوسط أقل من دولة في كامل الضفة الغربية وقطاع غزة وأقل من حق العودة اللاجئين. والإعتراف بالنكبة، أي الإعتراف بالغبن التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني عام 48، هو شرط البحث عن تحقيق العدالة النسبية لهذا الشعب، والعدالة النسبية (نسبة إلى ما حل بهذا الشعب عام 48) هي مبدأ مشترك تصبح مهمة المفاوضات أن تترجمه إلى نتائج عملية على الأرض. وإذا غاب المبدأ المشترك الذي تقوم عليه المفاوضات تبقى هذه فريسة موازين القوى التي تفرض حلاً إسرائيلياً. هكذا ترى إسرائيل المفاوضات، وهكذا رأتها دائما، ومن لا يقبل حلا إسرائيليا لا تعتبره شريكا.
وذاكرة النكبة ضرورية لأن أهم إفرازاتها، مسألة اللاجئين، لا تزال حية إلى يومنا تنتظر حلاً. وهناك من يحاول إسقاطها من جدول الأعمال الدولي والقومي والوطني على رغم أنها بدأت مسألة دولية حاز فيها الفلسطينيون على قرارات دولية في صالحهم كلاجئين قبل أن يعترف المجتمع الدولي بهم شعباً صاحب حق في تقرير المصير.
واللاجئون الفلسطينيون ليسوا حالة نفسية تمارس في الفنادق الفاخرة كما يبدو لبعض الشعراء والأدباء. اللاجئون الفلسطينيون حالة قائمة من فقدان المواطنة وفقدان الحقوق الأساسية وفقدان الأمل. واللاجئون الفلسطينيون حالة حقيقية من التناسي والنسيان لدى بعض النخب الفلسطينية التي فقدت الأمل، وباتت تحل مشاكلها الخاصة عبر السياسة.
وفي بعض الدول العربية يتم تعليل معاملة اللاجئين الفلسطينيين معاملة الكلاب بذاكرة النكبة ذاتها، لكي يتذكروا ولا ينسوا أنهم لاجئون، والحقيقة أن هذه المعاملة ليست تذكيراً بالنكبة بل استمراراً لها. إنها النكبة ذاتها. لا يستجدي الفلسطينيون كما يبدو مواطنة أو توطيناً ولكنهم ليسوا بحاجة إلى الإضطهاد والتنكيل ليتذكروا قراهم ومدنهم إذ أنهم لا يزالون يتوارثون الأسماء ومفاتيح البيوت المهجورة وحالة الإنتظار والأمل واليأس.