عزمي بشارة
الذاكرة مثل العقل، فردية وليست جماعية، ولكنها أيضًا كاللغة، اجتماعية لا فردانية. للذاكرة مضمون اجتماعي، وفي هذا المضمون الاجتماعي أو السياسي-الاجتماعي تنفرد الذاكرة الفردية. ولكي يتجاوز مفهوم "الذاكرة الجماعية" مجرد التدليل على وجود سياق اجتماعي، يجب أن تتوفر "الجماعة" (community, gemeinschaft).
وأن نقول "ذاكرة الجماعة" مثل أن نقول "عقل الجماعة" أو "شخصية الجماعة" أو "عقلية الجماعة"، معناه أن نستخدم استعارة لغوية. لكن عندما تدخل الاستعارة اللغوية في تعريفات الظواهر الاجتماعية فإنها تساهم في وضعها، خاصة إذا تذوّتتها وتبنّتها غالبية أعضاء الجماعة واستخدمتها في تعريفاتها وتسمياتها ومؤسساتها.
الاستعارة متخيلة، لكن ليس كل تخيل أيديولوجيا. إمكانيّة التخيّل واقعة، أي أن التخيل يتم في واقع اجتماعي تاريخي محدد. لكن حتى ضمن هذه الحدود قد يكون التخيل أيديولوجيا، وقد يكون في حياة يختلط فيها الواقع بالخيال، إن لم تفصل الحياة الاجتماعية فصلاً حادًّا في ما بينهما بعد، وإن لم ينفصل الفن عن الصناعة، أي حين تكون الدنيا ما تزال دنيا مسحورة لم تُطرَد منها الآلهة، وبالتالي لم تنشأ الحاجة إلى الأيديولوجيا.
الذاكرة الجماعية لدى الجماعة العضوية، أو الإرثية، كما في العائلة الممتدة والقرية المتماسكة والعشيرة والحمولة، تتجاوز التذكر أو استعادة الماضي. إنها عالم الجماعة الحاضر الذي تتوزع من خلاله أدوار الأعضاء، عالم العُرف والعادة والتقليد وخطة الحياة المعدّة سلفًا. الذاكرة التاريخية هنا ممارسة حاضرة، وهي بذلك تحُول دون الفرد والتذرّر (atomization) أي تمنعه من الانفصال والاقتلاع من الرابطة الحميمة (intimacy). وهي من ناحية أخرى تحُول بينه وبين التفرُّد، أي تشكيل شخصيته الفردية ومكانته الفردية التي تشكل ذاكرته الفردية عنصرًا أساسيًا فيها. الرابطة الحميمية تحمي الإنسان من التذرر وتمنعه من التفرد. الرابطة الحميمية لا تتجاوز التذرر بل تمنعه، وما يتجاوز التذرر هو نشوء الفرد الحر موضوع العلاقات الاجتماعية ومركزها. ومن دون ذاكرة فردية لا يُكتب التاريخ ولا تنشأ الحاجة لكتابته، لأن ما يميز التأريخ هو محاولة إعادة إنتاج ذاكرة جماعية تفتت إلى ذاكرات فردية أو إعادة صياغة ذاكرات جماعية جزئية إلى ذاكرة واحدة وطنية.
الذاكرة، بعد انفراط عقد الجماعة هي أيديولوجيا، أي أنها تقوم بوظيفة أيديولوجية بغضّ النظر عن صحّتها. إنها ذاكرة طائفية أو قومية أو حزبية. إنها تحاول تثبيت ذاتها كتاريخ مثاليّ للجماعة منذ بداية مفترَضة. إنها إعادة صياغة للجماعة التي حلّت الحداثة عقدها فذرّرتها أفرادًا، سواء كانت الحداثة وافدة أم أصيلة.
والتاريخ، هو الأداة الفكرية الرئيسية التي يعاد بواسطتها إنتاج الجماعة كمجتمع كونيّ لا يرتبط فيه الأفراد بعلاقة القرابة الحميمة، وإنما بعلاقة تبادل من نوع ما. والتاريخ يساهم في صُنع تجمّع، لكنه لا يخلق جماعة.
الذاكرة الجماعية في مثل هذه الحالة أيديولوجيا قومية تتوسطها إلى ذاكرة الأفراد مآثر الأبطال وتراجيديا الماضي ومعاناته. الماضي يصبح مشتركًا كماضٍ مكتوب يُقرأ ويُدرَّس في المدارس، أي أنه يُستعاد نصّيًا لا طقوسيًا وحسب. قد تشتق الطقوس من النصوص وقد توضع النصوص لتفسير الطقوس.
الحاضر يكتب الماضي كأنه تاريخ مؤدٍّ إليه بالضرورة. وتصوّر الماضي تاريخًا يتجاوز كسر حركته الدائرية وتحويله إلى خط تصاعديّ ليصبح الماضي مجرّد تاريخ الحاضر ولتصبح الذاكرة الجماعية متحفًا قوميًا وكتاب تاريخ. لكنه تاريخ لا يؤرّخ للجماعات العضوية التي كانت قائمة... فهذا التاريخ يجدر أن يُنسى لأن الذاكرة الجماعية التاريخية تفترض النسيان الجماعي لحروب الرعاة والقبائل ولتعاون إحدى القبائل مع الغزاة الأجانب ضد القبائل الأخرى – التي قد يُكتب تاريخها في هذا السياق على أنه مؤدٍّ للجماعة المتخيلة الجديدة التي يساهم التاريخ الرسمي في إعادة إنتاجها كقومية.
يُكتب تاريخ الأمّة وكأنها قائمة كأمّة. وتبدو الذاكرة القومية كأنها تفترض وجود الأمّة، لكنها في الواقع تفترض هدفًا سياسيًا هو توحيد الأمة وتحقيق سيادتها السياسية. والذاكرة القومية تساهم في هذا التوحيد. إنها تساهم في إيجاد الأمة بافتراضها هذا الوجود. الأمة رابطة معنوية يتطلب وجودها الذاكرة الجماعية والنسيان الجماعي والهدف السياسي.
بعد أن تتحقق الرابطة المعنوية الراغبة في تحقيق السيادة وتتحول إلى مؤسسات متميزة ومغتربة عن الأفراد ورغباتهم، يأخذ محيط الذاكرة (milieux de memoire) بالتناقص، وتأخذ الحاجة إلى أماكن الذاكرة (lieux de memoire) بالتزايد. النصب التذكاري، مواقع المعارك من هزائم وانتصارات، المتحف كبيت للذاكرة، تتمّ فيها محاولة استعادة العلاقة مع الأمة كأنها علاقة مع أشياء عينية محسوسة وملموسة ومعروضة، خاصة بعد أن تجرّدت العلاقة وزالت الذاكرة كممارسة طقسية وأصبحت تستعاد في ممارسة واعية للطقوس – من ممارسة طقسية إلى طقس ممارس. أماكن الذاكرة هي تعبير عن فقدانها كذاكرة جماعية وعن احتلالها ومحاصرتها من قِبَل التاريخ. لقد تشيّأت الذاكرة في المكان، وصار يُعاد إنتاجها طقسيًا.
الذاكرة الريفية التي تمارَس في المواسم والمواعيد والأفراح والأتراح لا تحتاج إلى الأنصبة والمتاحف وغير ذلك للتذكر. والمزارات وقبور الأولياء التي كانت قائمة في غير قرية من القرى لا تُزار حفظًا للذاكرة ومن أجل التذكر وإنما تُزار كممارسة للقداسة والتطهُّر. وقد يقال إن القداسة تكون ماثلة لدى بعض زوّار نصب الجندي المجهول أو ضريح الزعيم الراحل، لكن القداسة والتطهر في مزار الأولياء هي أيضًا قضية عملية قد تمارَس لتحقيق أمنية أو دفع شرّ أو مكروه. لا فرق في هذه الزيارات لقبور الأولياء بين الفعل ومعناه، لكن الفرق بين الفعل ومعناه ماثل وواضح للعيان عند زيارة المتحف أو نصب الجندي المجهول.
الذاكرة واقعة حيّة بينما التاريخ محاولة لإنقاذها، وذلك بتمثيل الماضي بالحاضر. الذاكرة مقدّسة ومطلقة، بينما التاريخ علمانيّ ونسبيّ. تتمسك الذاكرة بالأشياء المحسوسة والملموسة، بالأماكن والصور والمواضيع، أمّا التاريخ فيتفكر بالزمان وتدفّقه، بالعلاقة بين الأشياء. وعندما يقبت مواعيد وأماكن يتم فيها استعادة الذاكرة واستحضارها، فما هذا إلاّ لاعترافه بتقلُّب الزمان ولإدراكه المرعب أن تقلّبه ليس دائريًّا، وأن له اتجاه هو الزوال الذي قد يجرف كل شيء. الذاكرة قائمة في ثبات المكان أمّا التاريخ فيحاول أن يثبّت شيئًا ما في تقلّب الزمان.
* * *
وإذا ما أجملنا اليوم الذاكرة الفلسطينية، في عملية التاريخ فما هي المواعيد التي سوف نثبّتها لكي نتذكّر: وعد بلفور، أم يوم النكبة، أم التقسيم؟ هل هي أوسلو1 أم أوسلو2 أم موعد دخول الشرطة الفلسطينية إلى مدينة جنين؟ وما هي الأمكنة التي ستُثبَّت؟ هل هي القرى المهدومة؟ أم هي مدن الساحل التي غدت مدنًا يهودية؟ أم هي المساجد التي تحوّلت إلى بارات ومطاعم في بعض الحالات؟ أم هي ضريح جنديّ مجهول يقام في مدينة غزة؟ وكيف يُعاد إحياء الذاكرة بمتاحف، بأشياء ملموسة، وهي حيّة حاضرة في المستوطنات القائمة ومخيمات اللاجئين القائمة ومطارات العرب وحدودهم؟
هل آن الأوان أن يحاصر التاريخ الذاكرة؟ أم أنّ على الذاكرة في هذه المرحلة أن تنتفض ضدّ التاريخ وأن تفك حصاره عنها؟ والذاكرة الحية تتمرّد على التاريخ لأنها تشعر أنه مؤامرة عليها.
التاريخ نسبيّ، ونسبيّته تمكّنه من أخذ موازين القوى بعين الاعتبار ومصالح النفوس الفاعلة في الحاضر، في حين أن مطلق الذاكرة لا يسمح لها بذلك.
التاريخ يحاول أن ينسى، أمّا الذاكرة فهي انتقائية بطبيعتها، والنسيان نفي لها، وقد تقبل بذلك إذا اعترف الآخرون بها، أي إذا تذكّرها الآخرون. عندها يكون نفيها نفيًا للنفي.
لقد قيل إن التاريخ يكتبه المنتصرون وهذا غير صحيح، فالمهزومون يكتبون أيضًا تاريخهم، لكن المشكلة في أن يكتب المهزومون تاريخهم قبل أن يعترف المنتصرون بذاكرتهم. عندها يتحوّل التاريخ إلى اعتذار عن الذاكرة، يقبل بالهزيمة من ناحية؛ أو إلى سرد انتقائيّ يرفض الهزيمة من ناحية أخرى.
لقد حاول التاريخ الفلسطيني بداية أن يؤسس الذاكرة ويوسّعها ويزيل منها الفجوات والقفزات وأن يضع فيها استمرارية، لكنه عندما بات يُكتب ضمن تسوية لا تتضمّن الذاكرة التاريخية، أي لا تتضمن الاعتراف بذاكرة الظلم والغُبن الذي لحق بسكان البلاد الأصليين، تحوّل إلى منقلب عليها.
لقد تلخصت الذاكرة الجماعية الفلسطينية التي أعيد إنتاجها بتاريخ التشرّد والاقتلاع ثم الاحتلال من جديد. وتميّزت هذه الذاكرة بأنها ذاكرة حنين (nostalgia) إلى الوطن، إلى العودة، إلى القرية. وبدلاً من أن تشكّل ذاكرة القرية عثرة أمام تشكيل الأمّة التي تقوم على تفكيك الانتماءات العضوية الصغيرة، تحوّلت الذاكرة إلى جسر بين هذه الانتماءات والأمّة. ولأن القرية فُقدت وسُلبت فإنها تحوّلت بواسطة الذاكرة إلى طريق انتماء الفلسطينيين إلى وطنهم. بدل أن تكون حاجزًا تتوجّب إزالته من أجل الانتماء إليه، ذلك لأن ما أزال القرية ليس حداثتنا وإنما حداثة الآخرين على حسابنا.
لقد تعوّدنا اعتبار الجماعة العضوية والانتماء إليها عقبة أمام الانتماء المتجانس والموحّد للوطن، للمجتمع المتخيَّل المتجانس كما يراه الفكر القوميّ الذي يوحّد الأفراد ولا ينافسه أحد على ولائهم ولا حتى العائلة. لكن عندما تحوّل اقتلاع القرية واقتلاع العشيرة والحَمولة من أرضها بدلاً من تذريرها أفرادًا، إلى سمة الحداثة الفارقة، تحوّل الانتماء إلى القرية والحمولة والعشيرة وغيرها إلى جسر لتعميق الانتماء إلى فلسطين لدى الأفراد المذرّرين.
عند ذلك غلب على الذاكرة الفلسطينية الجماعية طابع الفلكلور الذي حاصر التاريخ بدلاً من العكس. كما غلب على الأيديولوجيا الفلسطينية – يمينية كانت أم يسارية – التشديد على نزعة الأصالة القروية (authenticity). القروية شِيمَة يُعتزّ بها لدى الفلسطينيين أو غالبًا ما يختلط التشديد على الانتماء بالتباهي بالتخلف. فإمّا الأصالة والفلكلور وإمّا نسيان الاقتلاع والتشريد.
وقد كان بالإمكان الحفاظ على خطاب الأصالة والفلكلور مع الحفاظ على ذاكرة الاقتلاع في حالة واحدة، هي الذهاب بالانتماء الوطني إلى نهايته وتوسيع الانتماء الفلسطيني إلى انتماء عربيّ أوسع هو جزء من أمّة عربية يعترض احتلال فلسطين طريقها نحو تقرير المصير وبناء وحدتها. في هذه الحالة فقط نشأت فكرة قومية غير فولكلورية تتعامل مع تاريخ فلسطين كتاريخ الحاضرة/المدينة المدمّرة التي كانت تنمو كجزء من مشروع عربي متواصل، وقد قطع الاحتلال عام 1948 طريق تطوره.
لقد سلبَنا الاحتلال المدينة الواقعية، والممكنة الكامنة فيها، وليس القرية فحسب. ومن دون ذلك لا يمكن فهم مجرى التطور الفلسطيني في ما بعد. لكننا انثينا لنحتضن القرية التي سُلبت ونسينا المدينة – نسينا – أن تدمير المدينة الفلسطينية وإمكانيات قيامها وتطورها هو تدمير مشروعنا الوطني.
ما سبق هو بحدّ ذاته رأي تاريخيّ دون شك، يحاصر فيه التاريخ الذاكرة لكنه يحاصرها من أجل تأطيرها في إطار أشمل، ويهدف دفعَ الذاكرة الوطنية باتجاه تكميل الحداثة التي انقطعت بدلاً من العودة إلى القرية. حاول هذا الخطاب الانضمام إلى المدينة العربية ومواصلة المسيرة القومية من أجل عودة القرية لا العودة إليها. ونعرف جميعًا تعقيدات هذا المشوار وعثراته. فبدلاً من انضمام الفلسطينيين إلى المدينة العربية ليواصل مشروع الحداثة العربية ضد الصهيونية الوافدة على العرب جميعًا، تريّفت المدينة العربية، رافضة مع رفضها القوميةَ العربية والحداثةَ والديمقراطيةَ قبولَ الفلسطينيين العينيين الموجودين واكتفت بالقضية الفلسطينية.
ومثلما أعاد ترييف المدينة العربية العرب إلى قراهم الكبيرة، عاد الفلسطينيون إلى قريتهم أيضًا. لكن العودة إلى القرية لم تكن عودة القرية بل عودة أيديولوجية، يتحوّل فيها الفولكلور إلى أيديولوجيا، إلى "فكر سياسي".
الذاكرة القومية العربية هي ذاكرة حواضر العرب ومدنهم، أمّا الذاكرة المحلية، ومنها الفلسطينية، فقد أصبحت تحوّل الفلكلور إلى أصالة وفضيلة سياسية. وبعد أن تتحوّل الذاكرة الوطنية إلى فولكلور محليّ تصبح الذاكرة المحلية: بالبلية وفينيقية وفرعونية وكنعانية، في صراع وجودي مع العروبة ونزاع حدودي مع إسرائيل.
لا تنمو ذاكرة القرية في مخيم اللاجئين كذاكرة تحدّد أفعال البشر في حاضرهم، وإن استُحضرت في بعض عادات الزواج والأفراح. إنها بالأساس ذاكرة أيديولوجية. إنها أيديولوجيا قومية بأدوات محلّوية وجهوية محرومة من كونيّة الأيديولوجية القومية. وكثيرًا ما تختلط محاولات كتابات التاريخ الفلسطيني وتدوين الثقافة الفلسطينية بتدوين أحاديث الشيوخ وتوثيق أنواع المأكولات والأمثال الشعبية والرقصات الشعبية وغير ذلك مما كنا نعتقد أنه من اختصاص المستشرقين ومن محاولاتهم لاختزال ثقافتنا إلى فلكلور.
فإذا لم تكن الفلسطينية عربيّة، أي إذا لم تنْمُ إلى مداها الأوسع العربي، مدى المدينة التي بُتر تطوّرها، كانت الفلسطينية قروية. إننا نختزل ثقافتنا إلى فلكلور ليس فقط لأن هذه الثقافة اقتُلعت من أرضها، وليس فقط لأننا نحاول التمسك بالجذور، وهذا أمر مفهوم، وإنما لأننا ارتددنا ورُددنا عن الحاضرة/المدينة العربية. إن فشل المشروع القومي العربي هو فشل المدينة وإحياء الانتماءات المحلوية رديفًا لترييف المدينة والمشروع القومي. عندما يدرك التاريخ صعوبة مهمّة إحياء المشروع، فإنه يبتسم ابتسامة العارفين الذين يؤدلجون الهزيمة. لقد مررنا هناك مرّة. كنا عربًا ونحن الآن فلسطينيون أولاً. أما البُعد العربي المفقود فيتمّ التعويض عنه بالتشديد على قومية فلسطينية منذ بدء التاريخ، مثل الفرعونية والفينيقية والبابلية وغير ذلك. يتحول ماضي البلاد المسلوبة كله إلى تاريخ فلسطين.
لقد كتب الصهاينة تاريخ هذه البلاد كأنه تاريخهم الحاضر وذلك بخطوتين أيديولوجيّتين، الأولى: تحويل تاريخ البلاد إلى تاريخ اليهود؛ والثانية، تحويل تاريخ اليهود إلى تاريخ إسرائيل الذي بات يبدأ بإبراهيم وداود وممالك القبائل العبرانية القديمة الوافدة من الشرق، من الصحراء. يتحول اليهود جميعًا إلى إسرائيليين ويتحوّل الإسرائيليون إلى جماعة فوق-تاريخية. ويقفز التاريخ الصهيوني فوق تاريخ يهود المهجر المتنوع الثقافات والانتماءات، إلاّ من حيث كونه تاريخ معاناة وملاحقة، أي لا-تاريخ، قفزة واحدة إلى التاريخ التوراتي ليصل هذا بالحاضر، أمّا ما بينهما في فلسطين فمنطقة حرام، وزمان فارغ، وثقب في حركة التاريخ هو تاريخ المسلمين والعرب.
وإذا تحوّل علم الحفريات الصهيونية في فلسطين إلى وضع لبنة فوق لبنة في استحضار تاريخ البلاد كتاريخ اليهود، متجاهلاً من قَبلهم ومن بَعدهم، فإن الفلسطينيين في مثل هذه الحالة، أي حالة ارتدادهم عن تاريخ العرب، يكتبون تاريخ فلسطين على انه فلسطيني وواحد منذ الكنعانيين واليبوسيين حتى انتفاضة غزة، ومن حروب غزة إلى حروب غزة مع شمشون إلى حروب غزة مع شارون. وإذا كان الفلسطينيون قد تواجدوا في البلاد وفلحوها قبل بداية الهجرة الصهيونية في نهاية القرن التاسع عشر، فهذه حقيقة تاريخية. وإذا كان اليبوسيون سبقوا اليهود في ممارسة شعائرهم الدينية على ما يسمى بجبل الهيكل، فما اليبوسيون إلاّ فلسطينيو تلك الأيام، وما اليهود في تلك الفترة إلاّ صهاينة تلك الأيام – هكذا يُزرَع الحاضر في الماضي – وهكذا يؤسطِر الحاضر الماضي، كما يؤسطِر الماضي الحاضر.
والحقيقة أنه لكي يكون للفلسطينيين حق على فلسطين في القرن التاسع عشر ليس من الضروري أن يكونوا قد تشكلوا كأمّة منذ ألفي عام. فالفكر القومي وليس قيم العدالة هو الذي يحوّل الأرض (land) إلى أرض سياسية (territory) ثم يربط بين الحق على الأرض وبين وجود الأمّة.
كما أن تاريخ فلسطين هو تاريخ كل من مرّ فيها بما في ذلك الكنعانيين واليبوسيين وأنبياء إسرائيل الذين تفترضهم الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية. لكن تاريخ فلسطين الفلسطيني يبدأ مع بداية تشكل الوعي القومي الفلسطيني، أي وعي وجود المجتمع الفلسطيني المتواصل والمستمر في آن. عند ذلك توضع نقطة البداية ومنها الاستمرارية إلى الحاضر. أمّا تراث فلسطين فهو كل التراث بما فيه تراث الكنعانيين والعبرانيين واليبوسيين. ومصادرة واحتكار أنبياء إسرائيل إسرائيليًا مثل إقصائهم فلسطينيًا، تعبير أيديولوجيّ عن مصلحة حاضرة. والرد على الميثولوجيا الصهيونية وحفرياتها وعلى إعادة الأسماء العبرية القديمة للأماكن والقرى والمدن بميثولوجيا فلسطينية كنعانية هو مجرد اغتصاب للذاكرة لا يطال قلوب الناس وعقولهم. إنهم فلسطينيون عرب مسلمون ومسيحيون يتمسكون بأرضهم ليس لأنهم يشكلون أمّة منذ بدأ التاريخ، بل لأنهم يعيشون عليها ويتواصلون مع طبيعتها ومناخها. قد يبدأ تاريخهم بالفتح الإسلامي أو بمحاولات توحيد بلاد الشام حديثًا أو بالمواجهة مع الصهيونية الوافدة، لكنهم يشكلون اليوم شعبًا تقع فلسطين في مركز ذاكرته التاريخية.
كل الذاكرات الجماعية هي ذاكرات متخيَّلة. ومثلما أن الأمّة جماعة متخيَّلة خلافًا للجماعة الإرثية "الحقيقية" (بمعنى غير المتخيَّلة التي يسميها بندكت أندرسون face to face community) كذلك فإن التاريخ هو ذاكرة متخيَّلة. لكن محاولة إيجاد ذاكرة متخيَّلة لا هي "حقيقية" مثل العائلة، ولا هي متخيَّلة كـ"الأمّة" هي محاولة لكتابة ما لا يمكن تخيُّله. وما لا يمكن تخيُّله لا يمكن تذكُُّره. ونحن لا يمكن أن نتذكر أننا كنعانيون. قد يتفاعل عرب هذه البلاد مع صلاح الدين وجمال عبد الناصر، ومع المقاومة اللبنانية وثورة الجزائر ومصر والعراق، ومع القدس وفلسطين، ومع الأقصى وكنيسة القيامة، ومع الأرض ومحراثها، والجبل والساحل، ومع ذاكرة الجدود المنقولة إليهم عن الشام وبيروت، لكنهم لا يتفاعلون مع كنعان ومملكة يهودا لأنها كلّها لا تمسّ مخيّلتهم – كنعان هي تاريخ من دون ذاكرة.
أن تراوح ذاكرة الجماعة بين فولكلور القرية المفقودة وبين فرض ذاكرة لا يمكن تذكّرها، في مواجهة الميثولوجيا الصهيونية يترك المجال فسيحًا للتسوية السياسية على حساب ما يتذكره الناس على أنه ظلم وغبن لحقا بهذا الشعب. فلا تعارُض بين الحنين للقرية كفولكلور وخطاب أصالة وبين اختزال فلسطين في قرى الضفة الغربية وقطاع غزة حيث بالإمكان ممارسة الدبكة الشعبية التي يبثها التلفزيون الفلسطيني القائم أكثر من ساعة كل يوم. كما أنه لا تعارُض بين اعتبار الصراع التاريخي على أنه صراع بين ميثيولوجيّتين واحدة كنعانية والأخرى عبرانية وبين اعتبار الصراع الحاضر كصراع بين حقين تاريخيين متساويين لحركتين قوميتين على نفس الأرض. وإذا كانت التسوية الراهنة للقضية الفلسطينية تنطلق من موازين القوى القائمة بين حقين على نفس الأرض بحيث يحسم ميزان القوى بينهما، فإن الصراع بين التاريخين يأخذ شكل الصراع بين ميثولوجيّتين. والنتيجة معروفة لأن الأقوى يستطيع تثبيت حقه.
وإذا كنا نقبل اليوم بالتسوية من هذا المنطلق، أي من منطلق كونها تسوية بين حقين على أساس ميزان القوى القائم بينهما وليس على أساس من العدالة، ولو النسبية، يعيد بعض الحق لصاحب الحق، فما علينا بموجب هذا المنطلق العقيم إلا أن نتساءل: "لماذا لم نقبل منذ البداية؟ لماذا لم نقبل قرار التقسيم عام 1947؟".
عندما تكون التسوية قبول المهزوم بشروط المنتصر يظهر تاريخ المهزوم وكأنه تاريخ من الأخطاء، ويبدأ صاحب الحق، المهزوم، بالاعتذار للغاصب المنتصر، وتتأزّم الذاكرة الجماعية في محاولتها الجَسر بين عنف الماضي الحاضر في الأذهان، والذي لم يتمكن التاريخ من محاصرته وتأطيره في موازين القوى الراهنة وإخضاعه لها، وبين اعتذار الضحية. بين رفض الاعتراف بشرعية الاحتلال في الماضي وبحاجة المهزوم إلى الشرعية من المنتصر في الحاضر.
تترك هذه الذاكرة الجماعية المهزومة خيارين للمهزوم: فإمّا العودة إلى القرية التي لن تعود أبدًا، أو الانضمام إلى مدينة المنتصرين كهامش لها، كمحميّة من محميّاتها، لتصبح بديل المدينة العربية المريَّفة الرافضة للفلسطينيين رفضَها لبقية العرب، المدينة الإسرائيلية التي تقبل الفلسطينيين على هوامشها وليس في داخلها.
أمّا حلم بناء مدينتنا الخاصة بنا، كجزء من مشروع عربي شامل ومتعثر، فإنه يؤدّي إلى الصدام مع التسوية. فالتسوية تظهر الآن كمدينة إسرائيلية واحدة محاطة بقرىً عربية من المحيط إلى الخليج – أليست هذه هي الشرق أوسطية، حلم القيادة التاريخية لحركة العمل الصهيونية وأملها من عملية السلام قبل أزمتها؟
--------------------
(*) المصدر: كتاب "طروحات عن النهضة المعاقة" ، إصدار "مواطن" المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية، رام الله – الطبعة الأولى 2003. بالتعاون مع مؤسسة هينرخ بول - ألمانيا.