تعرضت مدينة غزة يوم 20 تشرين الأول الجاري لعملية قصف جوي متواصل لمدة ثلاث عشرة ساعة. وقد تألف القصف من خمس غارات متتالية. وكانت النتيجة استشهاد أربعة عشر مواطناً غزاوياً وجرح ما يقارب المائة. لقد تعاملت اسرائيل مع قطاع غزة كأنه قاعدة عسكرية. ويتضح من تصريحات المسؤولين الاسرائيليين الأمنيين أن ما تشهده غزة هو غيض من فيض. لقد بثت الطائرات نوعاً من "الساوند افكت" الذي رافق بيان الحكومة الاسرائيلية السياسي الذي ألقاه شارون أمام الكنيست في اليوم ذاته. كان الرجل يخطب، وخلفه تقطع الطائرات قول كل خطيب.
يتلخص دليل شارون للاسرائيلي الحائر في كيفية التعامل مع الشعب الفلسطيني بأنه " اذا لم تنفع القوة فما يلزم هو المزيد من القوة". وقد طالب شارون الشعب الاسرائيلي أن يتحلى بالصبر في فترة الانتظار الصعبة هذه. وفترة الانتظار "تكوفات ههمتناه"، هي بالعامية الاسرائيلية فترة انتظار حرب 67’، أي الأشهر التي عاش فيها الجمهور الاسرائيلي على أعصابه، كما يقال، بإنتظار من يبدأ الحرب أولاً. فقد استفزت اسرائيل مصر وسوريا في حينه دافعة بإتجاه حرب ارادتها وخططت لها الى ان وقعت الدولتان في الفخ خطابيا لتبدوا وكأنهما تعدان العدة لحرب دخلتاها من غير عدة، الأمر الذي اعتبرته اسرائيل تبريرا للضربة الاستباقية الاكثر شهرة في النصف الثاني من القرن العشرين. على كل حال استدعى شارون بعبارة "فترة الانتظار الصعبة" الى ذهن المولع بالتداعيات استخدام نفس العبارة في تلك المرحلة. ولا أدري اذا كان الأمر مقصوداً أم لا، ولا أدري اذا كان أحد غيري قد انتبه لهذه العبارة، ولكن أكاد اجزم ان شارون لم يختارها صدفة، فإما كان الامر مقصوداُ او تداعت العبارة عن غير قصد ، والأمر في الحالتين ليس صدفة لأن تداعي العبارة ينم عن مزاج سياسي قائم. وليس صدفة أن يطلق موفاز تصريحات متتالية طيلة الاسبوع الماضي تشكك بقدرة الحكومة الفلسطينية الجديدة على الصمود. فاسرائيل تلمح للحكومة الجديدة عن شروط قبولها شريكا وتهددها في الوقت ذاته. وشارون يزف للحكومة القلسطينية الجديدة بشرى انه في حالة تبنيها موقفا معاديا للارهاب فسوف يتعامل معها مقدما تنازلات كما للحكومة الفلسطينية السابقة، يا فرحة الحكومة الجديدة!! على كل حال، المواجهة مع فصائل المقاومة وليست مع الحكومة، وقد اتخذت القيادة الاسرائيلية قرارها ولن يثنيها عن تنفيذه احراج او عدم احراج الحكومة الفلسطينية اعتبارا في نظرها.
تتجه الحكومة الاسرائيلية نحو مواجهة شاملة مع فصائل المقاومة والمجتمع الذي يحتضن شبابها، بل هي في خضم هذه المواجهة وذلك في سباق مع الزمن ومع جدول الانتخابات الامريكية. وهي تفعل ذلك متحدية القانون الدولي والقيم والمعايير المتبعة دولياً. لا يقف أمام حكومة اسرائيل جيش ولا حتى حركة وطنية موحدة، ولا تقف امامها حركة وطنية منظمة بالمعنى التقليدي. فإسرائيل تقصف احياء غزة الشعبية، وذلك ليس في مواجهة شاملة مع حركة وطنية كبيرة تخطط الصمود كما تخطط الهجوم. انها تقصف مجتمعا محاصرا لا يلتقي فيه سياسيوه مع مقاوميه.
والمجتمع السياسي الفلسطيني بالمعنى التفاوضي يدور في دوامة نقاش الحكومة الفلسطينية حول صلاحيات وزير الداخلية كما يدور نقاش بين قيادات فتح المختلفة. وقسم من الحكومة قد تبنى اعلان تسوية مع جزء من المعارضة الاسرائيلية قبل بدء المفاوضات، والولايات المتحدة تشبك عدة خطوط اتصال مع عدة قيادات فلسطينية في آن واحد وفي عز ظهيرة القصف الاسرائيلي والاغلاق المستمر و"الفيتو ينطح الفيتو". وتجري منافسة حامية الوطيس بينها للفوز بثقة الامريكان. واسرائيل تقصف الشعب الفلسطيني في غزة وتضع كافة مدنه تحت وطأة الاغلاق. انها ماضية في المواجهة مع المقاومة بتواز مع الحوار الفلسطيني الامريكي الجاري. ولا مانع ضد الحوار ولكنه ليس حوارا موحدا مع حركة تحرر وطني ، انه حوار امريكي مع طموحات مختلفة بالقيادة.
لا يمكن القول ان هذه ظروف مواجهة، ولا يمكن الادعاء ان اسرائيل تحارب قوات ومليشيات حركة تحرر وطني الى درجة ملاحقتها في المناطق السكنية كما ويجري في المستعمرات؟ بل ترتكب اسرائيل جرائم حرب ضد المدنيين الفلسطينيين دون علاقة بين هذا القصف الشامل وبين أي مواجهة شاملة مع حركة تحرر وطني منظمة. لقد قررت اسرائيل ان يتوازى النشاط السياسي بنشاط اجرامي اسرائيلي يسهل على الفلسطينيين التنازل أكثر فأكثر، انه قصف يؤمل منه ان يعلق الشعب الفلسطيني آمالاً على حل قريب ليتخلص من هذه المصيبة.
ان القصف الاسرائيلي الأخير لغزة والذي جاء بعد عملية فلسطينية ضد دورية احتلال اسرائيلية في عين يبرود بيوم واحد هو عملية ضغط على الشارع الفلسطيني. ولخص الرسالة المبثوثة انه ليس لديكم من أمل في مواجهة القوة والمزيد من القوة الاسرائيلية.
ورد الفعل الطبيعي والغريزي على مثل هذا القصف لدى أي جماعة بشرية هو ان تتوحد وتنظم شؤونها وتنظم نوع ردود الفعل المطلوبة. ولكن في التقاليد السياسية الفلسطينية والعربية هنالك مفهوم "الادانة" غير المرتبط بالسلوك مثل مفهوم "التأييد". هنالك إدانة للقصف في غزة، كما سمعنا تحية للمقاومة في جنين في حينه عند الاجتياح. لا تعني الادانة أي خطوة عملية لمواجهة مثل هذا القصف، كما كان من الممكن ان يحيي المقاومة في الفضائيات أناس يمارسون ممارسة سياسية ضد المقاومة ويناقشون ضدها بقناعة تامة، ووسائل الاعلام العربية كما هو معروف ليست مصفاة الفاظ عندما يتعلق الامر بالقضية الفلسطينية، كما انها لا تقارن اللفظ بالفعل، ولا لفظ اليوم بتصريحات الأمس. لا توجد علاقة ضرورية او ملزمة بين اللفظ والفعل من جهة وبين اللفظ والموقف من جهة اخرى.
بهذا المعنى فإن القصف الاسرائيلي غادِر وتراجيدي في الوقت ذاته. وهو يرافق خطاب شارون مثل موسيقى المارش، او مثل عزف ريتشارد فاغنر عند تحليق المروحيات في فيلم "ابوكليبسا ناو" لفرانسيس كوبولا مع مقطوعة "النابالم الصباحي" الحديثة. قد تصم الضوضاء الآذان، ولكنها لا "تصم" الاعين عن قراءة الجريمة مع الفقرة التالية في خطاب شارون : " إنني واثق أننا سوف ننجح في هذه السياسة اذا تحلينا بالصبر والاصرار والنفس الطويل سنحقق الأمل الكامن في البرنامج للتوصل الى حل سياسي جذري يحقق لنا وللفلسطينيين الأمن والهدوء. طريق السلام طويلة وشاقة ومزروعة بالعراقيل، ولكن ليس لنا ان نفقد الأمل. وأنا اقدر على اساس كل المعلومات الموجودة في أيدينا ان هنالك احتمال جدي لكسر الجمود خلال الأشهر القريبة القادمة والتقدم من جديد نحو تسوية". (بروتوكول الكنيست،خطاب شارون، 20 تشرين أول)
لقد ليَّن شارون لهجته تجاه حكومة ابو العلاء، كما اتهم عرفات في خطابه بالعمل علىعرقلتها كما عرقل عمل حكومة أبي مازن على حد تعبيره. ولكنه طالب هذه المرة بإقصاء عرفات عن الساحة السياسية. أي أنه بدا وكأنه تنازل عن المس به، يضاف ذلك الى تصريحه حول الضرر من وجوده في الخارج (جيروزاليم بوست، الجمعة، 17 تشرين الاول 03).
لا بد اذاً من السؤال هل هنالك صفقة قريبة بنموذج أوسلو؟ خاصةً وأن في الحكومة الفلسطينية الحالية من يؤمن بالخط المباشر مع اسرائيل سراً.
قال شارون في خطابه أمام الكنيست بالحرف: "بالاضافة لإستمرار سياستنا الهجومية سوف نستمر بناء الجدار كحاجز أمام الارهاب". ويغطي الأمريكان القصف الاسرائيلي لغزة ويمنعون إدانة بناء الجدار بالفيتو. ولكنهم إضافة الى تغطية هذه السياسة الهجومية يقومون بإتصالات سياسية واسعة على مستوى القيادات الفلسطينية من مستويات مختلفة، فهل هنالك صفقة جديدة؟ وكم من الفلسطينيين سيدفع حياته ثمناً لعملية أعداد الشعب الفلسطيني لهذه الصفقة السياسية؟ لا نعلم، ولكن، كما في حالة الاجتياح لا نشهد اعدادا فلسطينيا موحدا لمواجهة هذه السياسة الهجومية، ولا حتى سياسيا. والمرحلة تتطلب اتفاقا على كيفية الصمود، ولكن على الساحة الفلسطينية هنالك انفصام بين حالة المواجهة وحالة التسوية، انفصام بين المقاومة والسياسة.
لم يذكر شارون سوريا في خطابه وكان قد رد على سؤال وجهه اليه راديو اسرائيل حول استمرار التصعيد ضد سوريا، ان هنالك أموراً لا نتحدث عنها. تزيد هذه الجملة من ايغال خطاب شارون في تطرفه و"سياسته الهجومية". فمن الواضح ان عدم التطرق الى سوريا في بيان سياسي رسمي موسمي لا يبشر بالخير.
ولا شك أن الادانة العالمية للعدوان على سوريا تبشر بالخير. سوريا دولة تحتل اراضيها منذ عام 1967. والدولة التي تحتل اراضيها تمتلك سلاحا نوويا، وتتعرض سوريا لعدوان من قبل نفس الدولة التي تحتل اراضيها، وتحمي الولايات المتحدة العدوان لأنه يهدف سياسيا الى تحجيمها كدولة وكموقف. انه عدوان مغطى امريكيا وله اهداف سياسية.
ولكن هذا الجو الدولي الداعي الى تقليص المواجهة في المنطقة بعد الحرب الأخيرة على العراق يجب أن يستثمر، ولا يمكن ان يستثمر اذا لم تكن هنالك قوة عربية حقيقية تنذر اسرائيل بعواقب تجديد العدوان على سوريا.
والرسالة الأساسية التي يجب ان توجه لاسرائيل وامريكا ان العالم العربي لا يقبل أن تتصرف اسرائيل كأنها أمريكا. أي أنه حتى أصدقاء الولايات المتحدة العرب والذين يسمحون لأمريكا بفعل الكثير لا يستطيعون ان يتسامحوا بالمدى ذاته مع اسرائيل. فهذا امر لا يسمح به لا حجم اسرائيل ولا حجم العالم العربي.