عزمي بشارة
النكبة كسر في التاريخ الفلسطيني الحديث. ولا يوجد تاريخ فلسطيني سياسي غير حديث. لقد اقتلع المجتمع الفلسطيني من الساحل الفلسطيني، وهدمت المدينة الفلسطينية، وهدم معها حلم الحداثة ما بين الحربين العالميتين، حلم النخب العربية والطبقات الوسطى ببناء الوطن العربي المستقل واللحاق بالحداثة. وفقد الفلاح الفلسطيني الذي كان يصارع طبيعة البلاد بمعوله من خلال الإنسجام معها، فقد هذا الصراع مع الطبيعة. وبعدما كانت أحلامه الصغيرة مغزولة بعبق المكان ورياحينه وبتسكع الزمان المتثاقل كناعورة تديرها الطقوس الموسمية، باتت أحلامه سياسية ومرهونة بإرادة السياسيين وموازين القوى والقرارات الدولية. وأصبحت طقوسه مؤتمرات موسمية تدعو للعودة وراديو "ترانزستور" يعده بالتحرير، واختزل عبق المكان إلى حنين فلاحين ونوستالجيا.
والنكبة كسر في التاريخ العربي الحديث، لأن هذا التاريخ بات بعد النكبة تداعيات من ردود الفعل عليها احتلت فيها جدلية العلاقة مع الخصم، مع العدو، مكان جدليته الداخلية، ثم تم تمويه الواحدة بالأخرى. صعق العرب بما حصل ولكن الإنصعاق المشترك كان بداية العروبة الحديثة، عروبة الأنظمة، خلافاً لعروبة الفكر والحركة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، واعتبروا ما حصل معهم زلة وهفوة من هفوات الزمان، وكذبة مزعومة على وزن دولة إسرائيل المزعومة.
شرد الفلسطينيون، انسحبوا من المكان إلى الزمان العربي المأمول. هُجِّروا من أربعمائة وثمانية عشر مكاناً، كانت قبل الشتات منشغلة في توحيد أزمنتها الريفية المختلفة في زمان وطني واحد يعكس في مرآة الإنتداب، هجروا وشردوا إلى مدن عربية لم تستوعبهم لأنها لم تستوعب ذاتها بعد، فشكلوا أحزمة من المخيمات تحولت إلى أحزمة من أحياء الفقر المشتركة لهم وللمهاجرين من الريف، ولأن الأماكن العربية الجديدة لم تتوحد في زمان قومي واحد سرعان ما عاد الوافد الفلسطيني المرحب به غريباً في المكان مرفوضاً كما تُرفَض المغتصبة في المجتمع المتخلف رغم الظلم الذي لحق بها، لأن الشعور الرجولي بالعار أقوى من الشعور بالتضامن أو بالتحدي.
ولكن الفلسطيني بقي ضيفاً مرحباً به في الأيديولوجيا، وما لبث أن فهم ذلك فاستوطنها حصناً منيعاً ولو كان الثمن المشاركة في تزييف وتقنيع الواقع المر.
الأيديولوجيا ملاذ أمين عند أنظمة عربية إذا عادت نظاماً آخر راحت تعادي مواطنيه كأنهم رهائن وكيف تعادي مواطني البلد العربي غير المرغوبين؟ بالأساليب البائسة المتوفرة في جعبتها، بالبهدلة على الحدود. الحالة الفلسطينية بعد النكبة هي حالة جيل كامل "تبهدل" على الحدود العربية. وجاءت أزمة اللاجئين الفلسطينيين الاخيرة على حدود العراق، ومنها الى البرازيل لتؤكد أن واقع النكبة العربي ما زال قائما.
كان جيل فلسطيني كامل يستخدم كلمة النكبة عندما تنفق بقرة أو يموت حصان، فيقولون "فلان انتكب" لأن بقرته ماتت. هذا الجيل اضطر أن يستوعب فجأة نكبة جماعية حقيقية لم يحلم بها، نكبة فقدان الوطن أو البلاد. كان "البلد" في الذهن هو مفهوم القرية الضيق الذي حوفظ عليه في المخيم أما مفهوم الوطن السياسي فقد كان "البلاد". عرف هذا الجيل فجأة نكبة الغربة والسير على الأقدام في البحث عن مأوى في "بلاد" أخرى لم تصبح هي ايضا بلدا رغم انها لم تمر بنكبات صهيونية. بحث عن مأوى إلى أن تنجلي العاصفة كما وعدوه.
لا يمكن نسيان النكبة لأنها حولت التاريخ العربي وتاريخ العربي عن مساره. ونجد أنفسنا بعد ستين عاماً من المأساة الفلسطينية المستمرة والتأسي العربي، نحذر من اعتبار النكبة حالة من فقدان الذكورية العربية، تقمع ذاكرتها وتكنس إلى اللاوعي متحولة إلى هستيريا جماعية تارة مع الفلسطينيين وطوراً ضدهم، مرة باعتبارهم سبب البلاء (1948)، ومرة باعتبارهم أعادوا للأمة كرامتها بالعمل الفدائي (بعد 1967).
ولذلك نجدنا نحذر من قلب ذاكرة النكبة إلى علاج نفسي جماعي يبحث في لاوعي الأمة. تفقد الذاكرة في مثل هذه الحالة دورها ووظيفتها في مواجهة ما حل بالعرب من تعثر في مسيرة حداثتهم.
لا يمكن نسيان النكبة لأنها إضافة إلى تكريس وتجذير حالة التشرذم العربي حولت القومية العربية من خيار متصالح مع ذاته يسعى إلى توحيد أبناء ذات اللغة وذات التاريخ وذات الحلم الحديث بالسيادة في دولة عربية إلى خيار أيديولوجي ملتهب يزيد الأيديولوجية تطرفاً كلما ازداد القصور في الواقع، وزادت في بعض اليسار نزعة اتهام الرجعية العربية وحدها حتى كاد يبرئ الصهيونية باعتبارها معطى. وكاد بعض اليسار يحول نقد الرجعية العربية إلى جسر للإعجاب بالصهيونية. وتحول بعض الإيديولوجية الإسلامية إلى رد عليهما بدل ان تنسجم في مشروع قومي ووطني، كما كان ممكنا في فترة ما بين الحربين العالميتين. وأخيرا تحول أيضا الاستسلام لواقع إسرائيل الى ما يكاد يكون إيديولوجية رسمية متكاملة ليس عيبها في كونها "معتدلة"، بل عيبها أن "اعتدالها" المزعوم يقتصر على قبول المقولة التالية: إن التسليم القَبْلي، أي السابق على أية تجربة، بعدم إمكانية العدل هو الاعتدال... لم تنج إيديولوجية سياسية من هذا التشويه الذي زرعه وجود إسرائيل الاستعماري في المنطقة العربية.
ليست ذكرى النكبة إحياءً لفردوس مفقود موهوم كان قبل النكبة. فهذه ذاكرة ميثولوجية تجعل من النكبة انتصاراً فجائياً للشر في صراعه مع الخير، وكارثة طبيعية حلت كلعنة على هذا "الفردوس".
كانت فلسطين، مثلما كانت كل بلاد الشام وبلاد العرب، تستيقظ على الحداثة وتتعرف على أولياتها بواسطة المستعمِر ومؤسساته والتعليم الحديث وبعض التكنولوجيا الواردة. وكانت فلسطين تشيد مدينتها الواعدة في حيفا ويافا وغيرهما. كانت فلسطين الوطنية والقومية تنهض مع النخب المتعلمة بما فيها القادمة من الريف لاكتساب العلم في المدينة، ومع نهوض البرجوازية والعمال والطبقة الوسطى. وليس صدفة أن نفس الذاكرة الفلوكلورية تغفل المدينة الصاعدة الواعدة وتتحول الى القرية وحدها. لقد كان سواد فلسطين الأعظم ريفيا بسيطاً معدماً يفتقر إلى التواصل مع بعضه.
ما كان بوسع حالة ما قبل النكبة أن تبدأ بفهم النكبة، ناهيك عن أسبابها الأوروبية والدولية – ومن الظلم تقويم رفض فلسطين أو قبولها لقرار التقسيم في حينه. وعندما حلت النكبة، أي عندما أعلن قادة "اليشوف" اليهودي استقلال إسرائيل وباشروا باحتلال أجزاء فلسطين التي خصصت للدولة العربية، كانت القدرة الفلسطينية على المقاومة قد استنزفت تماماً في انتفاضة 36-39. ومع ذلك قاوم الفلسطينيون بما أوتوا من عدد وعدة. ولكن لا هم فهموا ولا الأنظمة العربية المحيطة فهمت أو أرادت أن تفهم حجم وقوة المشروع الصهيوني الذي دفع إلى المعركة بقوة أكبر من المقاتلين لا من حيث العدة فحسب بل من حيث العدد أيضاً. واقصد قوة أكبر من مختلف "الجيوش" العربية التي دخلت فلسطين عام 1948، وقد دخلتها ضد بعضها وليس ضد الدولة اليهودية.
بعد النكبة انسجمت القيادة المدينية الفلسطينية الصاعدة في العالم العربي، عالمها الطبيعي، وذلك إما في المشروع القومي أو في الانظمة العربية القائمة. وساهمت نخبها مساهمة مساهمة حقيقية في بناء المدينة العربية من الكويت وحتى بيروت مرورا بعمان. ولم يجر تقييم فعلي موضوعي لمساهمة الفلسطينين الاقتصادية والاجتماعية والمهنية في بناء الحواضر العربية، خاصة في دول تعتمد فيها القوى المحافظة عنصرية محلية ضيقة، ولا تحب الاعتراف بمساهمة "الوافدين" "اللاجئين" التي لا تقدر بثمن. لم يكن اللاجئون الفلسطينيون عالة على أحد، بل كانوا مجتمعا نشيطا ومنتجا وعاملا، وقد ساهموا مساهمة نوعية في بناء دول عربية في بداية طريقها.
كما لم يجر تقييم موضوعي لدور القيادات الوطنية الفلسطينية المدينية الأولى في قيادة منظمة التحرير والنخب الحقيقية الاجتماعية والثقافية المؤسسة للمنظمة وانسجامها الطبيعي مع المشروع العربي في حينه وقناعتها بأن قضية فلسطين قضية عربية، ثم دور القوى الأقل مدينية والأكثر ريفية في الارتداد عن هذه الانسجام نحو وطنية فلسطينية ترى الصراع، على الهوية على الأقل، كصراع مع المحيط العربي المباشر (سوريا، الاردن) كما هو مع إسرائيل...
لقد هزمت الأنظمة لأنها لم تشارك فعلاً أو شاركت محكومة بصراعاتها (ومؤامراتها)، وهزم الفلسطينيون لأنهم أساؤوا التقدير والتوقيت – وانتصرت إسرائيل لأسباب نختارها من قائمة لا نهائية من أسباب الظاهرة التاريخية:
1. قلنا السبب الاول هو ان العرب لم يحاربوا إسرائيل فعلا. ولم تتوفر إرادة القتال.
2. لأن المشروع الصهيوني ارتبط بالمشروع الإستعماري وتم تبنيه من بين مهمات الإنتداب البريطاني على فلسطين.
3. لأن موجات العداء للسامية اتخذت في أوروبا شكلاً لا سابق له هو شكل المحرقة النازية والإبادة الجماعية.
4. لأن القيادة الصهيونية نجحت في بناء المؤسسات السياسية والإقتصادية والعسكرية في ظل الإنتداب، وقبل نشوء النازية بعقود. ولأنها كانت قيادة براغماتية وعقلانية تحسن التوقيت، والتقدير للقوة الذاتية ولقوة الخصم.
لقد بدأت الذاكرة العربية للنكبة بإنكار هذه الأسباب واستنكارها بدلاً من مواجهتها، هكذا تراوح التفنيد الأول بين الإدعاء أن بريطانيا لم تفهم مصلحتها الحقيقية، وبين الإدعاء أن النكبة هي مجرد نتاج مؤامرة بريطانية صهيونية رجعية عربية. وما زال بعد العرب يحاولون إقناع أميركا (بدل بريطانيا العظمى حاليا) بواسطة تعريفها على مصالحها الحقيقية حتى باتت هي تنسجم مع مسلمات التحالفات الاميركية معتبرة التقرب من إسرائيل المفتاح الى قلب أميركا.
وتخبطت العلاقة مع السبب الثالث، أي العداء للسامية في أوروبا، بين إنكاره واعتباره افتراء صهيونياً وبين التقليل من حجم وأهمية المحرقة النازية ومقارنتها غير المبررة وغير المفهومة مع النكبة الفلسطينية. وذهب بعضنا في ساعة غضب إلى الهذر بأن اليهود يستحقون ما يحل بهم أينما حلوا. لقد تخبط العرب في التعامل مع وصمة عار في جبين أوروبا والحضارة الغربية لا ناقة لهم فيها ولا بعير، ولم يكن الإعتراف بالواقع في أوروبا ليضيرهم بشيء، فهذا الواقع لا يبرر أخلاقياً اقتلاع شعب آخر خارج أوروبا، وإنكاره لا يمنع من إضافته سبباً إلى أسباب النكبة لأن الصهيونية أحسنت استخدامه واستخدام الإرتباك العربي في التعامل معه.
ما أسعد أوروبا بإزاحة عبء الضمير والشعور بالذنب عن كاهلها وإلقائه على كاهل العرب. إسرائيل تتواطأ مع أوروبا فتريحها من التعامل بجدية مع ماضيها وحاضرها، فإسرائيل تساعدها على الفصل بين المسألة اليهودية في حينه ومسألة العنصرية الأوروبية ضد "الأجانب" في حيننا، وأوروبا تتواطأ مع إسرائيل في إلقاء عبء العداء لليهود على العرب، وتشاركها الإحتفالات بالاستقلال كأنها احتفالات عالمية بتأسيس الأمم المتحدة.
والفلسطينيون الذين لا يرون هذا السياق يمارسونه من دون أن يروه إذ يحسبون الإهتمام الدولي بهم اهتماماً بهم حقاً. وهو في الواقع اهتمام بإسرائيل وبالمسألة اليهودية... تتحول القضية الفلسطينية إلى صناعة عالمية من الندوات والمؤتمرات والأبحاث. وفي زمن "عملية السلام" تجري كلها برأينا بشكل او بآخر داخل الهوية اليهودية وفي العلاقة اليهودية – الغربية. ويلعب فيها الفلسطيني دور ال"كومبارس" المرافق من دون أن يدري. ولكن هذه الصناعة باتت تستوعب نخباً عربية وفلسطينية كبيرة نسبياً تعتاش على "القضية".
الاهتمام الدولي بقضية فلسطين ليس عنصر قوة بل عنصر ضعف لأنه يعكس اهتماما بالتخلص من المسألة اليهودية المشكِّلة للهوية الأوروبية وتحويل عبئها إلى العرب. عنصر القوة هو الاهتمام العربي، إذا تحول الى فعل حقيقي على الساحتين الإقليمية والدولية وإذا تحول الى إرادة فعلية لهزيمة إسرائيل.
وليس مصير رابع الأسباب بأفضل من سابقيه، إذ يتم إنكاره إنكاراً تاماً، وكأن الصهيونية لم تكن إلا كذبة اخترعها الإستعمار لتكون رأس حربة امبريالية في المنطقة. وما الديمقراطية اليهودية الصهيونية الداخلية والمؤسسات التي قامت بالفعل الاستيطاني الناجح إلا كذبة دعائية حول واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط. هنا ينتقل العربي الذي يريد أن "يفهم" معنى النكبة فجأة إلى اعتبار المؤسسة الصهيونية عجيبة سماوية حقيقية لا بد من الإنسحاق أمامها وإلغاء الذات. وإذا ما أُحرِج العربي الراغب بالفهم قليلاً أكد لك أنه يريد السلام مع إسرائيل حتى بدون تحقيق العدالة للفلسطينيين وللعرب، ليس بسبب إعجابه بإسرائيل، بل لأن ما يوحد إسرائيل هو الحرب، ولأن السلام حتى لو لم يكن عادلا فسوف لن يمهل هذه الوحدة طويلاً، إذ أن إسرائيل سوف تنهار تحت وطأة خلافاتها الداخلية وتناقضاتها.
* نشرت أجزاء من هذا المقال عام 1998 في الذكرى الخمسين للنكبة تحت عنوان" في البحث عن معنى للنكبة". وللأسف لم يكن المؤلف (د.عزمي بشارة) بحاجة الى تعديل هذه الأجزاء بعد عشرة أعوام على كتابتها. وطبعا يتضمن المقال أجزاء وافكار إضافية جديدة..