د. عزمي بشارة
وسط فوضى وركام محلي وإقليمي يفقد فيها كثيرون الاتجاه، وربما فقط لتذكيرنا أين نعيش وبأنه يجدر بنا أن نذكر، وافقت الحكومة الإسرائيلية على اقتراح قانون لعضو في الكنيست تافه ونكرة ممن يحاولون أن يعرف الناس لهم اسما بواسطة التحريض على العرب. وينص القانون الذي سيعرض على البرلمان بموافقة حكومية على سحب الجنسية أو إسقاط المواطنة عن المواطن "الإسرائيلي في حالات منها "الحنث بالعهد للدولة"والمقصود بالطبع هو المواطن العربي، فمواطنة اليهودي بموجب "قانون العودة" تلتصق به كصفة من صفاته كيهودي لا تفارقه، وهذا سبب وجود الدولة بفهمها لذاتها ورسالتها، كما أوضح ذلك بن غوريون مرات عدة عندما قدم"قانون العودة"أمام الكنيست. والمقصود بعبارة"حنث العهد مع الدولة"غير المعرفة بالقانون حاليا كما يردد هو فعل متطرف يتضمن عدم إخلاص أو خيانة للدولة من نوع زيارة"بلاد العدو"دون إذن كنوع من التضامن مع هذا"العدو"، وليس بإذن في مهمة أو كجسر سلام أو تطبيع. وطبعا المقصود بلغتنا نحن هو تواصل ابن هذه البلاد مع أمته العربية، أو حتى مع أقربائه الذين هجروا من هذه البلاد والذين انقطع عنهم بفعل الحدود التي وضعت بينه وبينهم.
والسبب في سن القانون هو اعتقادهم بالحاجة إليه، لأن هنالك برأيهم من يقوم بهذه الجرائم من دون عقاب... في هذه المرحلة يتم الانتقال من التحريض إلى التخويف إلى المعاقبة. ويشكل هذا كله ضغطا على النائب العام ليقدم لوائح اتهام لم تقدم حتى الآن. لقد سنوا في البداية قانونا يمنع نائبا في البرلمان من زيارة"دولة عدو"دون إذن، ولم يحاكم أي نائب بهذه التهمة منذ سن القانون قبل أربع سنوات، والآن تجري محاولة جديدة للضغط.
عقوبة سحب الجنسية ليست جديدة، بل هي قائمة في القانون الإسرائيلي، ولكن كأداة بيد وزير الداخلية. ولكنها لم تفعَل تقريبا ما عدا في حالتين فرديتين لمواطنين عربيين من القدس نفذا عمليات تفجير، وسحبت منهما الإقامة الدائمة في القدس بقرار من وزير الداخلية كعقوبة رغم وجودهما في السجن. وهذا يعني انه حتى في حالة تحريرهما في المستقبل فلن يسمح لهما بالعودة إلى القدس. ثمة تعليمات واضحة كما يبدو بعدم استخدام هذه العقوبة. والقانون الجديد هذا ينص عليها كتهمة، وهي تهمة لم تكن قائمة حتى الآن نوع من الحنث بالعهد أو عدم التزام عضو برلمان بقسم الولاء وكعقوبة تتخذ في محكمة تتضمن سحب الجنسية. وهي تبدو كخطوة أكثر حقوقية لأنها تضع الإجراء على عتبات المحاكم وعند القضاء وليس بيد وزير، إلا أنها في الواقع محاولة لتفعيل القانون... على الأقل من دون قرار سياسي يحكمه وبواسطة المدعي العام وعلى المحكمة أن تقرر.
وتمنع المعاهدات الدولية سحب المواطنة لأنها تنهى عن وضع الـ"بدون"المعروف عربيا أصلا، فماذا يعني أن يترك مواطن بلا مواطنة؟ وأين يذهب؟ فكيف والحال أن من كان"مع"يصبح"بدون"كعقوبة من الدولة ذاتها بدل السجن أو الغرامة أو غيرها. لقد استخدمت دول ديكتاتورية كثيرة هذه العقوبة في الماضي إداريا وسرعان ما عاد المواطن الى بلده بعد سقوط النظام. ولكنها سحبت بذلك البساط من تحت شرعيتها هي، لأنها عبثت بأساس كل شرعية، لقد عبثت بالسيادة، وهي الوجه الآخر للمواطنة. فللدولة سلطة على المواطن حتى لمعاقبته لأنه مواطن، وعملية ربط منزلة المواطن بموقف وأدلجة المواطنة تساوي بين الدولة والنظام، وبين الانتماء للدولة أو"العضوية"فيها إذا صح التعبير والعضوية في النظام أو الانتماء له. بموجب هذه العقلية تتخذ خطوات كثيرة دستورية الطابع، لا يدري النظام في حمى قمعه أنها تمس جوهره وتساوي بينه وبين الدولة، لذلك أيضا ينهار بعض هذه الدول نتيجة لانهيار النظام.
ليست إسرائيل ديكتاتورية من هذا النوع بل هي كيان استعماري في كل ما يتعلق بسلوكها مع العرب، بمن في ذلك مواطنوها الذين تواجدوا على الأرض بعد ان انتهت حرب عام 1948، أي ما تبقى من الأغلبية العربية في هذه البلاد. ويستمد هؤلاء حقهم بالوجود على الأرض من وجودهم الفعلي عليها جيلا بعد جيل، وبهذا المعنى يضاف إليه البعد الثقافي والديني والقومي وغيره، هذا هو وطنهم. والمقصود هو ليس إسرائيل، بل البلد الذي قامت على أنقاضه دولة إسرائيل.
ولكن التناقض يكمن في أن حق الوجود على الأرض بموجب قانون المحتل يستمد من كونهم مواطنين في الدولة التي احتلت أرضهم وليس سكان الوطن الذي تم احتلاله. هكذا تقلب السياقات التاريخية رأسا على عقب. ويصبح المواطن بحاجة الى أن يثبت بالأوراق الإسرائيلية حقه بالوجود في هذه البلاد. من شهادة الولادة وحتى بطاقة الهوية والجواز، وأن يحمل بعضها في جيبه دائما خشية المباغتة البوليسية، ولتمييزه عن سكان المناطق المحتلة عام 1967 الذين يمنع وجودهم في هذا الجزء من الوطن من دون تصريح.
من دون منزلة"مقيم دائم"أو"مواطن"يسمح للعربي في أفضل الحالات أن يبقى سائحا مدة ثلاثة أشهر في وطنه، وذلك في حالة حصوله على تأشيرة دخول. وهي تأشيرة يسعى للحصول عليها الكثيرون، وقسم منهم يعاد من المطار حتى بعد حصوله عليها، مغادرا الوهم أن الجواز الأجنبي سيحوله إلى سائح"عادي"في بلده على الأقل.
وقد سمع القاصي والداني عن هوس سكان القدس العرب في المحافظة، أو الحصول على الهوية الإسرائيلية، وحمى الحكومة الإسرائيلية لإثبات عدم إقامتهم في القدس فرداً فرداً لإسقاطها عنهم، وبالتالي تهجيرهم من المدينة حتى لو كانوا يملكون فيها البيت أباً عن جد. لم تعد الولادة في القدس ولم يعد الانتماء لها كافيا، ناهيك عن كون الإنسان فلسطينيا يود أن يسكن في القدس لا لسبب إلا لأنها جزء من فلسطين، أو من الضفة الغربية على الأقل، ويجب أن يثبت أنه يستحق أوراق إقامة إسرائيلية وان في حوزته"هوية زرقاء"وهو لون بطاقة الهوية مقارنة بالبرتقالية التي يحملها سكان الضفة الغربية تحت السلطة وتصدرها لهم إسرائيل أيضا... وقد أنتج التماهي مع بطاقة الهوية الإسرائيلية لدى قلة من المقدسيين الخائفين عليها من المصادرة هوية مشوهة إذ راحوا يتحدثون عن"أهل الضفة"عند حديثهم عن بقية الفلسطينيين. يحصل هذا الآن، في عصرنا، فكيف نستغرب أن يتعصب عرب لحدود سايكس بيكو إلى درجة صراع الهويات؟
لقد تحولت المواطنة في كيان استعماري إلى أداة تهجير، إلا إذا لعب الفلسطيني اللعبة على ملعب هذا الكيان وبموجب قوانينه لتنجح أقلية فقط في البقاء على الأرض كما يسمح التوازن الديموغرافي، والمحاكم الاسرائيلية، وكذلك القانون، وعليك أن تثبت له أنك"إسرائيلي"، وذلك لكي تبقى في فلسطين لأنك فلسطيني. وكل هذا يهون مقابل مشاعر الرضى والاكتفاء التي ترتسم على وجوههم عندما يشعرون أن هويتهم أو جوازهم أو إقامتهم مرغوبة. إنها عملية تضليل وخداع فريدة ونادرة لا مثيل لها في التاريخ الحديث: احتلوا البلد وطردوا السكان ثم منع من تبقى من الإقامة في البلد من دون بطاقة هوية إسرائيلية أو من دون جنسية، ثم يتظاهرون بالدهشة من جاذبية الجنسية الإسرائيلية للناس ورغبتهم بإقامة دائمة في إسرائيل، ويتظاهر بعض الإسرائيليين أنهم يفهمون من هذا كله أن حياة العرب فيها رائعة إلى درجة التشبث بها. وكأن هذه هي الرغبة وليس البقاء في الوطن، أو على الأقل في"البلد"كما يفهمه الناس. ولا شك أن قسماً من الناس نسي هذا السياق الاستعماري المقلوب للتمسك ببطاقة الهوية أو جواز السفر، وراح يفتخر به كأنه فخر الصناعة الإسرائيلية وكأنه هو فخور بصناعة كهذه.
ونعود إلى اقتراح القانون الجديد، وهو يعني: سحب المواطنة أو الجنسية الإسرائيلية أي الطرد من الوطن كعقوبة لا تسري فقط على الواقعين تحت الاحتلال، بل أيضا على العرب من مواطني الدولة اليهودية الذين حسبوا أنهم باتوا في مأمن من الطرد لأنهم مواطنون. لسان حال التفكير اليميني الجديد في إسرائيل يقول: انس حقك في هذه البلاد كفلسطيني، وحقك أصلاً ليس إيديولوجياً ناجما عن كون الدولة قامت من أجلك، فالمواطنة الإسرائيلية لا ترتبط بك جوهريا كيهودي، ولا تلازمك كصفة من صفاتك، إنما منحت لك هبة لكونك إسرائيلياً بصدفة وجودك هنا عند"قيام الدولة"، أي أن علاقتك بالدولة هي الأساس. وهي علاقة قائمة على الولاء. واقتراح القانون الجديد يغلق الحلقة، فليست بموجبه مواطنة ابن البلد الأصيل في الدولة الاستعمارية الوافدة، هي علة وأساس شرعية وجوده على أرض الوطن فحسب، بل يجب أن يرتبط بها بعلاقة عهد وولاء قد يؤدي الحنث به إلى فقدان المواطنة ومعها الإقامة. أي أن يعامل كمهاجر دخل البلد ولم يلتزم بأصول الضيافة. هذه حالة نادرة أن ينزع المهاجرون المواطنة من السكان الأصليين.
كيف يدافع المرء عن ذاته وعن وجوده عربياً حراً على أرض وطنه ضد قانون كهذا دون أن يظهر كمن يتمسك بالإسرائيلية؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن يبقى في البال عند مقاومة هذا القانون الجديد لمنع التواصل مع الأمة العربية إلا بإذن إسرائيلي.
في أسبوع الإعلان نفسه عن اقتراح هذا القانون الذي يواصل عملية سطو على بلد بالقانون والديموقراطية والتصويت والمحاكم عاشت الشكليات والفوارق الصغيرة بين الطرد بقانون ومن دون قانون، في هذا الأسبوع نفسه الذي شهد عملية إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين المرقعة الرقيعة بالتصوير التلفوني والبث المسرب كما في حال العصابات، وبمقنعين وهمس وهتافات وشتائم متبادلة شخصية هي نقيض مفهوم الدولة، والتي لا تذكر بعمليات الإعدام الصماء التي تعد لها بروفات في الدول لكي لا يحصل فيها خطأ واحد تجسيدا واحتراما لهولها وهول الدولة وهول قيام الدولة بقتل نفس، والتي تذكر بعمليات الخطف والقتل المقنع بالسيف، الضحية سافرة والقتلة مقنعون، في هذا الأسبوع الغزاوي البغدادي نفسه، الذي يذكر الناس الذين فقدوا البوصلة في هذه الفوضى بجاذبية المواطنة الاستعمارية المهينة... قامت إسرائيل بعمل آخر يذكر بـ"علقتنا السوداء"معنويا أيضا معها.
لقد توقف بناء الجدار العنصري الفاصل في المناطق الجنوبية من الضفة الغربية والمكناة"صحراء يهودا"بأمر من وزير الأمن عمير بيرتس بناء على طلب من بعض النواب من اليمين واليسار وحركات الخضر والحركات اليسارية، لان الجدار في تلك المناطق الطبيعية غير المأهولة بكثافة سكانية يمس بالبيئة وحياة فصائل النباتات والحيوانات ودورة حياتها وحرية تنقلها في تلك المناطق الجافة بحثا عن مصادر الغذاء والماء. لا دعابة هنا، فهذا حصل فعلا ولهذه الأسباب. لدينا دولة استعمارية بالشكليات القانونية التي يتم بموجبها قلب الحق في الإقامة إلى ولاء للدولة الغاصبة، وأيضا برومانسيتها الاستعمارية ومودتها للبيئة، التي تحافظ على المكان حتى من أصحاب المكان. ولا شك ان الرومانسية الكولونيالية ترى بحبها للبيئة دليلا على انتمائها الناقص، وهي تعتبر أن أقل الكائنات حقا بالعيش في المكان هم البشر من السكان الأصليين. ولا شك أن دورة حياة السكان في مناطق القدس ورام الله وغيرها حيث اغتصب الجدار البيئة الإنسانية وقطع المجتمع لا تستحق حتى اهتمام حركات الحفاظ على البيئة والرفق بفصائل الحيوانات التي تعيش فيها، ولا تستحق وصفها بتعابير مثل منع تحديد حرية حركتها إلى مصادر وموارد معيشتها النباتية والمائية. فهذه مصطلحات تصح للنبات والحيوان في الحضارة الاستعمارية. إلى هنا وصلنا.