د. عزمي بشارة
لم ينشب خلافٌ على التاريخ واللاهوت. ولا تخاصمْنا على معنى الحياةِ. استعانوا على النهار بالسحبِ. انسلّوا إلى العتمة تحت جنح العتمة. لم يكتفوا بالتآمر مع الريح، بل صنعوا لهم أشرعة. وحوّلوا مجرى الزمان ليحتلّوا المكان. أوقعوا بين الصحراء والكثبان، بين الجبل والبحر.
وتسلّلوا بين أعيننا، تحت عين الشمس.
لم يخطر لنا أن الحقَّ يعني حقَّ تمَلُّكِ الأشياءِ، وأن البلادَ مُلْكٌ لنا، أو أنّنا المالكونَ.
كنّا نعبدُ ربَّنا، والحقُّ من أسمائِه. ننشِدُ حين نزرعُ أرضَنا. صوت المطر يطربنا. وفي الحِدادِ نندبُ. نغنّي وننتحبُ. نعِدُّ شرابًا للولادة. نستبشر ببروز أوّل أسنانِ الوليدِ، فنغلي شرابًا. ونعدُّ آخر للخطوبة والزفاف، وشرابًا للوَفَيَاتِ. وكما عند الأنامِ كذلك عندنا تتنوّع الحلوى، تدورُ مع المواسم؛ وللشتاء وللحصادِ كان يُنشدُ عندنا أيضًا.
وحاجتنا جهِلْناها فكيف ندركُ فقرَنا؟ كنا حين نبردُ نلتقيه. يُحيّينا فنرتعدُ. وكان الفقرُ حين نجوع يخجلُ. لا ينظر في عيون أطفالنا. يراوح حولنا، ليس يبقى، ولا يبتعدُ.
وإذا ذبل قبل التفتّح طفلٌ تقبَّل الفقرُ معَنا التعازي. كنا نَحِدُّ، ولا نفقه لوفاتِه سببًا. والفقر كان من أهل الفقيد. إنّه منّا وفينا.
لم يخطر لنا تبريرنا. لكلِّ حفلِ زفافٍ كان يُدعَى كلُّ من يتحرَّكُ. أجدادُنا يأتون، وجميعُ من فُقدوا. تُوَجَّهُ الدعوةُ للحاضرين. والغائبون لبَّوا بلا دعوة. لم نستصدِرْ تصاريحَ زيارة. للعلاقة مع ربّنا لم نصدر كواشينَ. لم نسجِّل أبناءنا في الدوائر.
لم نكتب بهم قيدًا.
علّمونا في طقس العبورِ إلى البلوغِ أنّ التاريخَ حيلةٌ، والدينَ براهينُ. والحقَّ وسيلةٌ. فلم نفهمِ الدرسَ، لم نستوعبِ العِبرَ.
انسلّوا أثناءَ تأدية الشعائر قبل اختتام الطقسِ. أحصَوا كم فنجان قهوة شربوا. ووثّقوا كلَّ تحية وتداولوا عند التئام المجلس. واقترعوا علينا بالأغلبيّة. هذي المهارات هيهات نتقنها. أفَقْنا خارج البلد. نهضنا نتعثّر بأطرافنا الخدِرَة. وتدافعنا خارجين من المواسم إلى السياسة. تزاحمنا خروجًا من تفاصيل الحياة إلى القضيّة. كنّا بالصناعة معجَبين. زجّ بنا السّجالُ في صناعة الهوية.
كنا نَنْشُدُ الإنشاءَ والعمرانَ، تحوّلْنا لكتابة الإنشاء. انتقلنا من العفويّة للصياغة ومنها للصياغات. وتناقشنا على النقطة والفاصلة. ولم ينته الخصامُ بالحذف والإضافة.
مِن تَلمُّسِ حكمةٍ في الشرعِ أودى السجالُ بنا حُكْمًا إلى الشرعة الدوليّة. عَبَرْنا من الإنشاد للمناشدةِ. تجاوزنا شقاء الحرث والزرع إلى التغنّي بهما. وانتقلنا من قطف البرتقال إلى نظمه ومن عبق الياسمين إلى نثره.
لم نخرج لغزوٍ، ما خرجنا للحصار. لم نخرج لكي نستردَّ عاشقة لمليكها. يخلص عندنا الأزواج والعشاقُّ. ويدفع الأزواج أحيانًا ثمن الإخلاصِ للعشقِ. والعقود تسمّي الإخلاصَ هذا خيانة. لكن الضيف في تاريخنا لا يخطف زوجة مضيفه. لم يوحِّدْنا المنادي للنـزال. ولا تفرّقنا بعد انتصار.
غربتنا لم تكن غربة أوليس. ولم نبحر كيما نعود من البحر. خرجنا إلينا. وفينا اغتربنا وافترقنا.
أغلقت المنافي، وفتح التشتّت أذرع الترحاب. ليته كان شتاتًا.
كان حصان طروادة منا وفينا. لساننا حصاننا كما تقول أمثالنا، لكن لا نحن صنّاه، ولا هو صاننا.
طال الغيابُ بما يكفي لكي يُستنطَقَ الأملُ. يُعصَرُ منه الكلامُ حتى الثرثرة. التقينا مع عذابات الآخرين. بعضهم نجحوا. حتى أشلاؤهم نجحت.
ونحن، غدا صمودنا رمزًا، وجعلناه انتصارًا. وأشغلتنا الأمزجة. تعب الأدب المدلّلُ والمستفيد من القضيّة. والشعر صنع من نفسه أسطورة. واستنتج الياسَمينُ النتائج. و"زعلت" القصّة لم تلقَ المعاملةَ اللائقة. ووجد التمدّن ذاته في لقاءات الحوار.
وحين استسلم الشعرُ لإعجاب السارقين به استقال. والبرتقال صار بذاته يتمتعُّ. طلب الصبر القيادة وقام يفتي ويأمرُ. وكان الغزاة ضربوا حصارًا على من بقوا فوق التراب.
وأغلقوا ما تبقّى من مكان في المكان.سيّجوا ما تشبّث من البحر بالساحل. حاصروا من نجا من حربهم. ومن نجا بكامل عقله من سلمهم(لا غرِقَ فيه ولا عامَ على شبر ماء ولا أبى طرحَ التحيّةِ غاضبًا متجهّمًا متجنّبًا ذكرَ السلام). نعلم أنّ للسطوَ دولةً وللغدر أصلًا دولَ الطوائفِ، وللعدم المماليك والغلمان، وكتبة السلطان والوزراء والحريم والخصيان، والرؤساء وقادة الجند.
الأمسُ فلولُ أمرٍ وكرٌّ وفرّ. واليوم خمر، واليوم دهر. والتسويات التهمت ما تبقّى. لم تترك سوى الصبر. لم يبق سوانا. لم ندّعِ تمثيلَ ملّة. ونستغرب من صراع الحضارات. تتجهم السحنات فنضحك. وحين نسخر يعبسون.
لم نزعم على الغزاة تفوّقًا، ولا أننا الخيّرون. نحن سكان المواسم والبلاد. كنّا أصحابَ الأفقِ ملكنا الفضاءَ الرحبَ. صرنا أصحابَ الحقِّ أبناءَ أصحابِ البلادِ اللاجئين. شتاتنا متساوي الأضلاعِ والخيباتِ. نستجيرُ من الرحيلِ بالازدحامِ، ومن المحيط بذاته.
كنا نقاوم الزمانَ والنسيانَ، والسطوَ المسلّحَ؛ صرنا نغالب الاعتراف بالسطو.
وفي هذه الأثناءِ، بعد أن باعه الشعر للأعداء تماسك الصبّار بثمن الشوك والانطواءِ.
وحدَه الصبّارُ يصمد في هذه الصحراءِ. انقلبَ الصمودُ انكفاءً في الجفافِ. ولّت رومانسيّة الثوّارِ. تبخّرت أحلامُ اقتحامِ السماوات.
وما دامتِ الألوانُ ضدَّ إنصافنا. فلتمتصَّها ثقوبُ الزمان. سيكون الموقفُ في الرمادي. تمترسنا خلف القتامة. وانسحبت الألوان ثم تمترست في الأحلام والفنّ.
نقاوم بما رسب في قعرِ الحصارِ. بعد الإقامة فيه طويلًا.
لا يكترث التعدد إلا لذاته في الحقيقة. فتعدّد الألوان حصريّ إذ ليس لتعدّدِ الألوان من آخرينَ. يعلنُ التعدّدُ فضيلةَ حبِّ الذاتِ. ويتبادل مع ذاته المجاملات.
وتعرضُ الألوانُ ذاتَها في الغبطةِ. وللإثارةِ تحطِّمُ سأَمًا أوِ اثنين على المنصة. وتعرضُ كلَّ شيء. تعرض حتى المعاناة. ها هي قد تعبت وملّت. واستُنـزِفَ أيضا خفيفُ الظلِّ. تعب الذي ناضل مقبلًا على الدنيا. وتعب الذي اعتبر الإقبال عليها نضالًا.
أشهرت الألوانُ إعياءها. وراج أنّ النضال عبثٌ، وأن الحقّ عدمٌ. وبرز الرمادي. صمد إذ كان معتكفًا. أمضى حياةً في الخنادق. وانطلقَ في زمن الأفول. تساءل عن تعب الألوان من الوقوف وهي جالسة. وعن ترويجها للقعود وهي قاعدة.
قالت الألوان: تَعَبُنا الآن منك. فشلنا، وفشل القيامُ. وصحّةُ الجلوسِ أثبتها الزمانُ. نخشى من انعدام اللون فيك. ونخشى على أبنائنا منّا ومنك. وربما نغارُ. بئس الوقتُ هذا. تأكلُ الزهوَ غيرةٌ من الباهتِ. ألواننا فشلت. وصارت تسحرُ أبناءَنا نسختُنا الرمادية.
* مقطع من كتاب "تأملات سابقة" للدكتور عزمي بشارة (غير منشور).