عزمي بشارة
خلال عام واحد صدر عن دار الريس كتابا سيرة ذاتية لرجلين عظيمين وأستاذين وصديقين عزيزين. وكم بودي أن أكتب عن كل منهما على حدة ما يستحقه من مراجعة لمرحلة تاريخية سردت كمعاناة السيرة الذاتية ومأساة المثقف العضوي المشارك في تغيير العالم عبر التورط في قضية مجتمعه، وهو يلخص التفاوت بين الرغبة والأمنية وإرادة التحرر والتحليل العقلاني من جهة، ومجرى الأحداث وصيرورة التاريخ على غير ما أرادها أن تكون من جهة أخرى. إلا أنها على الأقل أتاحت للمناضل والكاتب أن يلخص واقعاً حزيناً أو فرحاً، خائباً أو حالماً لا علاج له، وفي الحالتين دون أوهام.
لكني وجدت من المفيد أن ألفت نظر القارئ قبل أن أجد الوقت لمراجعة مطولة لهذا الوجه المشرق والمضيء لجيل النهضة القومية العربية والوطنية الفلسطينية. كتاب: «أنيس الصايغ عن أنيس الصايغ». وكتاب «من يافا بدأ المشوار» لشفيق الحوت.
أنيس الصايغ مؤرخ يكتب عن طفولته في طبريا وعن فايز ويوسف وتوفيق، وعن قصة علاقته المركّبة المرهفة مع أمه كأنه أديب. يكتب عن البيت والمكتبة ومحورية الثقافة في بيت القس وعن الترتيب الانكليزي. يشرح بدقة دون كلل كأنه ما زال يحاول أن يوضح لبيروقراطيين في جهاز المنظمة من أين تأتي أناقته وجديته ودقة مواعيده واهتمامه بالمستوى الأكاديمي للمادة التي يقوّمها في مركز الأبحاث، كأنها كانت بأعينهم تهم تحتاج الى تبرير. يروي أنيس الصايغ من قومي سوري الى قومي عربي قصة ربط محكم بين المواقف الوطنية والتمسك بالتقدم الحضاري، قصة جيل حاول من الجامعة الاميركية في بيروت وحتى كامبردج ان يبني مجتمعاً أرقى وأفضل دون التفريط بالعدالة والإنصاف.
لمن لا يعرفهما، شفيق الحوت وأنيس الصايغ شخصان مختلفان إلى أقصى درجة يمكن أن تتصور. شفيق الحوت ابن يافا، رجل الساحل السوري، ابن فلسطين وسليل لبنان، حاد حاضر البديهة منطلق جهوري واثق، كأنه ولد لكي يكون قائداً، كاريزما تمشي على رجلين. وأنيس الصايغ مثقف ورجل صلب لكنه خافت هادئ مؤدب إلى درجة الاعتذار.
لكنْ كلاهما يختلف بدرجة أكبر عمّن مثل الفهلوية السياسية والفساد والإفساد وبهدلة المؤسسات في القيادة الفلسطينية. الجمع بين التنور والبحث عن العدالة للشعب الفلسطيني، بين المناقبية والعقلانية، بين بناء المؤسسات والنضال يجمع شفيق وأنيس.
شفيق الحوت يكتب بمهنية وبأسلوب ممتع عن سيرته متحدة مع سيرة حركة التحرر الفلسطينية بعد النكبة. لكن الشخصية القوية الواثقة وروح الدعابة الدائمة تخفي رومانسية وطنية تجعله يرى الإيجابي في ياسر عرفات رغم خلافه معه واختلافه المتطرف عنه، ولا ينطق بكلمة عن سلبيات وإخفاقات جمال عبد الناصر. ورغم الرومانسية فإن التنور والعقلانية النقدية ورفض الإشاعة أو الاعتقاد السائد او الأفكار المسبقة تسري في قلمه. سيرته سيرة فلسطين الشتات وبناء الحركة الوطنية وسيرة لبنان أيضاً.
لسنا أمام سياسيين او رجال أعمال يكتبون مذكرات، بل نحن أمام كاتبين مهنيين، قراءتهما متعة ذهنية. وفيما عدا المتعة الذهنية التي توفرها القراءة فإن أمراً آخر يجعلنا نشكر الرجلين ومَن شجعهما على كتابة سيرة ذاتية، ويقيني انهما واعيان لما سأقول، وإلا لما وصف انيس بدقة المؤرخ سيرة والده ووالدته من سوريا ولبنان، وسيرته هو من فلسطين، ولما وصف شفيق وهو الوطني الفلسطيني سيرة عائلته من بيروت إلى يافا إلى بيروت. إنهما رمز جيل يجسد ليس بالحجة المبرمة ولا بالشعار الثوري، بل بالسيرة الشخصية والعقل والروح والنفس والخلق وحدة سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الاردن، وبطْلان سايكس بيكو. وطنيان فلسطينيان لم يتخلّيا عن القومية العربية. ممثلا جيل يستطيع بسيرته الصادقة أن يفهم جيلًا وُلد في ظل الحدود أنه لا يجوز تصديق ما صنعه الاستعمار، فضلاً عن التعصب لما صنعه. كم يجسد الرجلان ما كان يمكن أن تكون بلادنا عليه.
الأخبار