مهما بالغ المرء بالحديث عن سقوط بغداد فإنه لا يفي الموضوع حقه من الأهمية. وتتعدى المسألة الذهول الذي أصاب من أسطروا السياسات الفردية والكارزماتية وهم يشهدون سقوط نظام دولة بهذه السهولة. فإذا كنا جديين وامتنعنا عن مقارنته بالتصريحات العراقية التي سبقته، نقول أن السقوط لم يكن سهلا. عشر سنوات من الحرب تلتها خمس عشرة سنة من الحصار الفعلي، لا يعتبر "سهولة" بأي مقياس.
ولكن دراسة السقوط مهمة لناحية تجوف النظام الذي يبتعد عن الناس وهمومهم وآرائهم وحقوقهم ويتصورهم في ذهنه مجرد جماهير، ثم يعتقد أن الشعار يكفي بحد ذاته للتعبئة الجماهيرية، كما لو ان الجماهير جسم يتحرك ويأخذ قراراته ويرتب أولوياته.
يعبر التحرك الجماهيري العفوي عن احتجاج أو فرح غضب أو نقمة. وتكمن المهمة في وجود مؤسسة تضع أجندة للاستفادة من هذا التحرك تجييشه توجيهه تهدئته ومأسسته وغير ذلك. أما النظام السياسي القائم فهو عكس العفوية. وهو يحترف الخوف من العفوية أو يحترف احتواءها لتفريغها، ولا يمكنه تحويل التحرك الجماهيري فجأة الى استراتيجة مقاومة، خاصة وأن ما يسميه هو "الجماهير" تفهم المقاومة في ظله كدفاع عنه.
لقد قاومت شعوب الاتحاد السوفييتي الاحتلال النازي في ظل ستالين عندما كان المشروع السوفييتي واعدا، وفي أوجه رغم الاستبداد. وحتى في تلك الحالة لم تكن المقاومة الشعبية وحدها لتكفي في حالة العدوان النازي لمنع سقوط لننغراد وستالينغراد بل خاض المعركة كل من الجيش والدولة، وبقوة. والمسألة هنا ليست مسألة ديمقراطية كما يروج. فالكثير من الدول الديكتاتورية انتصر في حروبه والعديد من الدول الديمقراطية خسر، والعكس صحيح أيضا. المسألة مسألة وجود الدولة وولاء الجيش وميزان القوى القائم والأفق الذي يتيحه. في حالة العراق كان كل من الدولة والجيش في حالة يرثى لها.
وعندما جرى اللجوء الى الجماهير ثبت أن جماهير العالم العربي تحتج عفويا، ولكن ليس في إطار مشروع سياسي بديل مطروح يستغل التحرك الجماهيري لأجندة سياسية، ولذلك تهدأ التحركات الجماهيرية العفوية العريية، وغالبا ما يحتويها النظام القائم فيكسب بعض الشعبية على حسابها، أو يستخدمها للتنفيس إذا لم تكن جزءاً من مشروع سياسي محلي.
في حالة العراق تفجرت الطاقة الجماهيرية الهائلة بعد سقوط النظام. ولم يكن ممكنا أن تتفجر في ظله. ولكن حالما كسرت قيود الدولة بانكسار الأخيرة تفجرت بالاتجاهين، داخليا كقوى اجتماعية متصارعة قمعَ الاستبدادُ صراعها، وكمقاومة للاحتلال.
والاتجاهان يتبادلا التأثير والتأثر طبعا. فمقاومة الاحتلال في ظل صراع سياسي دموي للسيطرة على البلد يتخذ شكل صراع على تفسير ماضي البلد ثم مستقبله وتساهم في تفكيك الهويات القائمة وصناعة هويات جديدة يدخل في تركيبها العنصر الملحمي السياسي الحالي، بما فيه من صور الذات كضحية والآخر الداخلي كتجسيد لمؤامرات مع الاحتلال وغدر وثأر وانتقام. قد تُفشِل هذه القوى المتفجرة الاحتلال وتدميه وتضر به وتلحق به خسائر وهزائم، وهي تفعل ذلك في العراق حاليا، ولكنها لا تطرح مشروعا وطنيا بديلا للعراق الموحد.
ومن ناحية ثانية فإن الصراع الطائفي يتخذ شكل ولاء أو مقاومة للاحتلال، وقد يتخذ في المستقبل شكل تنافس في مقاومة الاحتلال وإحراز هدف التحرير، وربما تقسيم العراق، وهذا ما تقود إليه الديناميكية الحالية.
على كل حال لا بد من دراسة تجربة سقوط بغداد المباشرة من ناحية دور الدولة والجيش، وسرعة سقوطهما. أما من ناحية الوضع الشعبي ومقاومة الاحتلال فقد جاء رد الواقع مبينا عقم الدراسات والتنظيرات التي سبقت الحرب محولا استقبال الجيش الأميركي وتبديد الاستبداد تحت وطأة القصف من البر والبحر والجو وحلول الديمقراطية في مكانه، كأنها تنبت من بين الخرائب، مثل طائر أسطوري ينبعث من رماد الحرائق.
لا تنبعث الديمقراطية من الخراب. هذا أكيد. وهي لا تنبعث من خراب أمة هذا يقين. ولا هي انبعثت في ألمانيا واليابان من تخريب الأمم. هذه أسطورة سخيفة في بلد تميز فيه الاحتلال الأميركي بمطلب توحيد المانيا ضد تقسيمها. فالديمقراطية تعبير عن سيادة الامة وشكل من اشكال ممارستها. ويفترض أن يدعي الديمقراطيون أنها الشكل الأمثل في ممارسة السيادة لأنها الاكثر تعبيرا عن ارادة الشعب. ولا يمكن تطبيق الديمقراطية عبر تقويض السيادة وتفتيت الأمة بالشكل الذي ارتكب في العراق وتم التنظير له أيضا.
لم تسقط بغداد وحدها، ولا حتى للوهلة الأولى. بل سقطت بعد أقل من حين رواية بناء الديمقراطية بمجرد توجيه ضربة للاستبداد من البوارج. هنالك وهم منتشر من اوهام التقليعات ان المجتمع دون دولة هو مجتمع مدني. المجتمع دون دولة هو حرب كل ضد الكل. لقد انفجرت نار "جهنم المجتمع" من تحت انهيار الدولة.
وانهيار بغداد الاستبداد من جهة، وانهيار نظرية تحول الانهيار الى ديمقراطية من جهة أخرى، هما كابوس الحالة القطرية الحالية.
ما يجب أن نبدأ به هو رؤية هذا المفصل العراقي في تاريخ الأمة العربية كمفصل تاريخي، يمد فعل علامة السؤال من مصير الأمة العربية إلى مصير الدولة القطرية بوضعها الحالي، فإما أن تنتقل إلى مستوى أعلى من التنسيق الإقليمي القائم على الهوية العربية، وإما أن يتداعى "البنيان المرصوص" في هويات مذهبية وعشائرية متصارعة تشكل حرب الكل ضد الكل في حالة ما قبل الدولة.
لو كانت عولمة فعلا، وليست أمركة وتهميشاً، فإنها يجب ان تمر بالعروبة والعرب، من الثقافة واللغة أداة الاتصال بين العرب عبر فضائياتهم ووسائل اعلامهم وكتبهم ودراساتهم ومقاهيهم وحيزهم العام وكل ما يوحد الأجندات. فالعولمة اذا لم تمر بالعروبة وتقريب العرب من بعضهم البعضا سوقا اقتصاديا وإعلاميا وهموما وأمنا قوميا لن تعني الا تفتيت كل دولة على حدة لتصل مباشرة بين العشيرة والطائفة وبين الأجندات العالمية الاقتصادية والسياسية.
فالآلية التي أدت إلى عزل العراق عربيا، أولا في عملية صنع القرار في العراق ذاته، وثانيا بانفراد النظام الدولي الأميركي فيه لعزله وحصاره ثم ضربه عسكريا بمبررات كاذبة لا تبرر حربا حتى لو كانت صادقة، وهي ثالثا الآلية التي توصل الى اعتبار الطائفة والعشيرة وحدة سياسية لتجنيد الولاء السياسي للاحتلال في مقابل الولاء لمقاومة الاحتلال. لم تنجح الهويات القطرية المحتلفة بتشكيل قاعدة تضامن أولية لبناء الأمة. ونحن نرى أن بناء الأمة يتم نهاية على أساس المواطنة، ولكن تسبق هذه العملية مرحلة قومية قبل وبعد الاستقلال، تسمى عادة مرحلة حق تقرير المصير للشعوب، وهي تسبق مرحلة التأكيد على المواطنة كحجر الأساس في بناء الأمة. وفي الحالة العربية لم يجر هذا ولا ذاك. أي لا قومية قطرية محلية تصلح هوية تضامينة، ولا مواطنة تؤسس أمة مواطنين هي أقل من الأمة العربية وأكثر من العرب القاطنين في الدولة ذاتها. وما طرح نفسه بقوة كوحدات سياسية وسيطة بين الفرد والاستبداد هو الطائفة والقبيلة والعشيرة.
من جهة الدولة غير القومية وغير المدنية في الوقت ذاته تشكل هذه الوحدات رابطة ولاء في إطار الدولة والجيش في غياب المؤسسات الديمقراطية وفي ظل عدم ثقة الدولة بالولاء الوطني للأفراد. ومن جهة الفرد فإن الذي يحميه من الاستبداد هو هذه الواسطة بينه وبين الدولة هي أيضا الحاجز الحائل بين الفرد والدولة. من يحمي الفرد من الاستبداد في هذه الحالة هو الذي يبرر الاستبداد. فالأخير يبرر ذاته بالحفاظ على وحدة الدولة في ظل وجود هذا الكم من القوى التفتيتية والطاردة عن المركز.
وعند ضرب الدولة وجيشها يحل الصراع بين هذه القوى على وراثة الدولة، هذه القوى التفتيتية تمارس استبدادا وحربا أهلية في الوقت ذاته. ولذلك يشتاق البعض الى الاستبداد وحده.
تكمن المهمة في استخلاص مهمة العمل على منع نشوء حالة مثل حصار العراق والتدخل العسكري الذي حصل هناك. هذا ما يجب ان يستفاد من التجربة. ولذلك ننتظر ان نسمع الأصوات التي دعت إلى هذا التدخل تحت شعارات تبين انها فارغة ومتطرفة أيضا مثل فرض الديمقراطية بالتدخل العسكري الأميركي. ونحن نطلب نقدا ذاتيا ليس من قبل من تبين أنه ليس لديهم حرص خاص على الديمقراطية.
وإذا أضفنا عدم الحرص على الديمقراطية وحقوق المواطن لدى القوى النيو- لبرالية مع الإصرار على رفع شعار الديمقراطية ومنع الاستبداد لتبرير حرب بأثر رجعي بعد أن ثبت كذب المبررات التي سيقت قبل شن الحرب، وتم التواطؤ معها كمبررات، إذا أضفنا هذا للجريمة التي وقعت بحل الدولة العراقية نجد أننا إزاء حالة غير بريئة. فالبريء تراجع وعرف خطأه وقيم السياسة الأميركية كغبية في أفضل الحالات. أما غير البريء فلا يقصد ما يقول ولا يقول ما يقصد. وقد يكرر التنظير لأمر شبيه في مكان آخر في المستقبل. ولا توجد دولة عربية واحدة إلا وتواجه خطر التفتت إذا تعرضت الدولة لدك من نوع ما تعرضت له العراق، إن كانت في هذه المرحلة تهدد أو تتعرض لتهديد.
لا تقوم الأمة القطرية الحالية على القومية العربية، ولا على المواطنة، بل على توازنات تفرضها الدولة بين العشائر والطوائف وغيرها... قلنا تفرضها الدولة، ولكن تغيب هذه التوازنات في غياب الدولة.
الفاسدون ودعاة الخصخصة لغرض الاستملاك ليسوا بالضرورة لبراليين اقتصاديا، فنظام الواسطة والعشيرة والطائفة والفساد الذي ينخره لا يؤسس للبرالية اقتصادية. واللبراليون اقتصاديا ليسوا بالضرورة لبراليين سياسيا. لقد نمت في ظل التدخل الأميركي في المنطقة والاستزلام له قوى تدعي التغيير ولكنها جشعة للسلطة والنفوذ والسطوة، وليست حساسة لقضية الحريات وحقوق المواطن. وأثبتت الحالة العربية انه يمكن ان يكون وراء اللبرالي اقتصاديا من لا تهمه حقوق المواطن ولا الحريات الفردية، كما يفترض ان تهم اللبرالي...ثم ما لبث أن تبين انه حتى ليس لبرالي اقتصاديا بل يخلط بين السطوة والنفوذ السياسي والاقتصادي.
سقطت بغداد، هذا صحيح، ولكن سقطت ايضا كافة الأوهام التي بنيت على سقوطها. وهذا ما يحتاج ايضا الى تقييم مكثف.