ما زلنا نواجه أرقاماً متفاوتة عن عدد ضحايا الزلزال الذي هز جنوب شرق إيران ودمّر مدينة بَم التاريخية (بالباء وليس بالـ P الانكليزية كما لفظها البعض خشية اتهامه بالتخلف). وما أهمية الرقم ما دام الضحايا مجهولين, مجرد معلومة عن حجم الكارثة؟ وما أهمية الرقم اذا لم يكونوا مجهولين لو كانوا عشرين أم ثلاثين ألفاً؟ فكل انسان عالم قائم بذاته بالنسبة الى ذاته ومحيطه الذي يعرفه. ربما يسعف الناس ان مصيبتهم بين آلاف المصائب ليست متميزة او استثنائية. اشك بذلك. الفرق انه في الكوارث التي تعلن كارثة وطنية يضيق متسع الحزن الفردي الصغير, فيتوهم الناس ان التضييق عليه مواساة, في حين لا يوجد أصلاً حزن حقيقي غيره.
والأرقام التي قرأتها لا تتفاوت فقط بالنسبة الى ما جرى قبل يومين, أي قبل نهاية أعمال البحث والتنقيب والدفن, وبعد ان صدر ذلك الاعلان "الشبولني" الحتمي الناجم عن فشل الانسان في السباق الابدي مع الزمن: "تتضاءل فرصة العثور على أحياء تحت الانقاض" أو "فقد الأمل بالعثور على احياء تحت الأنقاض", بل تتفاوت الأرقام عند الحديث أيضاً عن الزلزال الكبير الذي هزّ شمال إيران عام 1990, فبعض المصادر يقول 40 ألف قتيلاً وأخرى تقدرهم بخمسين ألف. ولذلك أيضاً لا أفهم كيف تقدر المصادر التي راجعتها عدد ضحايا الزلازل التي وقعت قبل ألف عام وأكثر بعد ان تدوَّر الارقام" وما معنى هذه الارقام؟
هل تذكرون زلزال تموز 1976 في الصين؟ لم يحدث قبل فترة طويلة: 255 الف قتيل في يوم واحد, في دقائق ربما, مع انهيار مدينة تانجشان. وفي ديسمبر عام 1988 في أرمينيا 25 الف قتيل, وفي سبتمبر 1923 في اليابان 142.8 الف قتيل, وفي المكسيك أيلول 1985 10 ألف قتيل, وفي تركيا أب 1999 17 ألف, وفي الهند كانون الثاني 2001 في منطقة جوغرات قتل 20 الف وتضرر 10 مليون شخص وهدمت 7904 قرية.
تبادرت الى الاذهان المنشغلة المهووسة بأحاديث السياسة والتقدم والتطور والديموقراطية والتشكي والتذمر من الحالة, المقارنة بين زلزال وقع قبل زلزال بَم بأربعة أيام في كاليفورنيا شمال كامبريا بقوة 6.5 درجة على سلم ريختر وأدى الى سقوط 3 قتلى (فقط!), في حين ان قوة زلزال بَم 6.3 درجة وأدى الى مقتل 20 -30 ألف مواطن, و100 ألف ضحية بين جريح ومشرد فقد المأوى. ولكن التدقيق وراء الصحافة يوصلنا الى ان زلزال بَم كان بقوة 6.6 أي أقوى من زلزال كليفورنيا. هكذا على الأقل يخبرنا موقع أكبر مؤسسة رصد أميركية, وأن مركز الزلزال منطقة مأهولة في حالة بَم. وقع زلزال 22 كانون الاول في كاليفورنيا يوم رفعت حال التأهب ضد الارهاب في الولايات المتحدة الى اقصى درجاتها, واعصاب الناس مشدودة تتوقع عملية ارهابية. والحمد لله ان احداً من التنظيمات لم يعلن مسؤوليته عن الزلزال, ولم تلقَ خطبة عن حلوله كلعنة الهية على اميركا.
ومع ذلك لا يمكن تجاهل الفرق في الاستعداد, في اليابان كانت قوة الهزة الأرضية التي ضربت عام 1995 مدينة كوبيه 7.2 درجة على سلم ريختر, وعلى رغم انها ضربت مدينة مأهولة إلا أنها أودت بحياة 6430 انسان )فقط! مقارنة ببَم).
ليس الانسان بحاجة حتى ان يعرف ماذا يعني سلم ريختر ليدرك ان الزلزال عديم المعنى والغاية والهدف, إلا اذا كان اختبارا الهياً لايمان الناس او لصبرهم, كما يؤمن البعض ان العناية الألهية تمضي الوقت بمثل هذه الاختبارات. وقد اعتقد الناس انه تعبير عن غضب الهي كما حل على مدينة نينوى التوراتية ألفي عام قبل الميلاد. وهكذا اعتبر اليسوعيون زلزال لشبونة يوم عيد جميع القديسين الأول من تشرين الاول عام 1755 الذي اودى بحياة 30 الف انسان في ستة دقائق. وكان فولتير حسم الموضوع رافضاً هذا التفسير متسائلاً في قصيدة "كارثة لشبونة" بماذا يفضل اهالي باريس اهالي لشبونة عند الله هؤلاء تحت الأنقاض واولئك يرقصون. كان الزلزال من الشر والعبثية بنظر فولتير الى حدّ انه أسس عليه اخلاقيات "كنديد" المتشائمة من وجود خطة وغاية الهية خيرة وراء كل شيء. وانتهى فولتير في "كنديد" ازاء عبثية الشر في العالم ان على الانسان ان يزرع حديقته الخاصة. أغنت العلوم معلوماتنا حول اسباب الزلزال, لكنها لو تزدنا حكمة بخصوص معناه وغايته.
خلافا للفيضان والبركان والصاعقة وغيرها من صنوف الكوارث الطبيعية, او الاختبارات الالهية, لا يقتل الزلزال الانسان مباشرة. وما يقتل الانسان هو أولاً, ما يبنيه فوق رأسه ليأوي إليه, وثانياً, نمط ما يبنيه. وحتى هذه المقولة البسيطة ليست جديدة فقد توصل روسو الى نتائج شبيهة بها في نقاشه ضد فولتير رافضاً اتهام الطبيعة, او ما وراءها, مفضلاً اتهام المجتمع والحضارة.
هنالك مناطق معرضة للزلازل أكثر من غيرها ومن ضمنها ايران وكاليفورنيا ومناطق أخرى في الولايات المتحدة واليابان وغيرها. ولا بد أن يتم البناء في هذه المناطق بموجب أصول هندسية محددة تقلل من احتمال انهيار البناء الذي يتحول من مأوى وملجأ الى سلاح ابادة شاملة. لكن الزلزال زلزل مدينة بَم التي يقف قسم من ابنيتها في مكانه منذ ألفي عام (يقدر قيام المدينة بين الأعوام 250 ق.م. و224 ميلادياً). وفي عصرها الذهبي عاش فيها 11 ألف مواطن في 400 مبنى ما زالت قائمة داخل اسوار المدينة. ولا يمكن ان يلام أحد على وجودها وتخطيطها بهذا الشكل من دون أخذ امكانية الزلزال في الاعتبار, فقد وقف البناء الفي عام, أي من فترة لم يخطط فيها للزلازل في بلاد معرضة للزلازل. زلزال واحد ليس كل بضعة أعوام كما في اليابان وكاليفورنيا, بل زلزال كبير واحد ووحيد في تاريخها هدمها تماماً.
ولكن هل تجوز محاسبة من رخَّص البناء الجديد الذي بني على القديم والى جانبه لاستيعاب الطفرة السكانية بحجارة طوب من الأجر والطين المحروق والرمل. والمعايير في العامل الثالث قائمة في العواصم والمدن الكبرى, وقد لا تراعى فيها ايضاً, أما خارج العواصم والمدن الكبرى فلا معايير لتخرق اصلاً.
وحول ايران وفي المنطقة برمتها حتى أقصى شمال افريقيا مدن كبرى يجب ان تتكلم فيها الناس بصوت منخفض حتى لا تسقط بنايات الاسكان الشعبية من ارتفاع الصوت في مشادة كلامية او من ردات ارتجاجية لزلزال وقع في قبرص. ومن حق الناس ان تثير مسألة الرشاوى للمسؤولين والفساد الذي يسخف المعايير في البناء وغير البناء ويسخر منها. ومن حق الناس ان تطالب بمحاسبة المسؤولين عن سقوط طائرة, طارت بعد ان دكت بالحمولة مثل "باص البلد", والناس فيها وقوف. المهم في البناء, وفي كل شيء, هو الربح السريع من دون معايير مفروضة بالقانون, ومن دون ان تردع عن ذلك معايير اخلاقية. وفضائيات تلك البلاد لا توقف حتى برامجها الراقصة ليلة سقوط الطائرة لتخبر الناس ما يجري, او لتحترم مشاعرهم. وفي اليوم التالي حداد وحزن وألم ومشهد اعلامي متأخر, وحزن ادرك أنه وجب. وقطار يقوم فيه مسافرو الدرجات الشعبية باشعال النار داخل عرباته اثناء السفر لغرض الطبخ فيحترق بمن فيه, ولا يحاسب المسؤولون بشكل جدي عن التهاون في تطبيق الانظمة وعن الاهمال الاجرامي. لا تتابع اخبار الكوارث وضحاياها وما حلّ بهم, ولا تتابع عملية المحاسبة في الاعلام, إلا في تقرير جدي نادر عن وجود مواطنين من دون مأوى بعد مرور عام على الزلزال. ويبقى الاعتماد على وجود مؤسسات حقيقية في دول مؤسسات لا يعتمد عملها ولا يتوقف اهتمامها على الايقاع الاعلامي.
في الكوارث الطبيعية جانب غير طبيعي من فعل الانسان )او امتناعه عن فعل), ناهيك عن الكوارث غير الطبيعية مثل الحرائق وحوادث القطارات والطائرات وغيرها.
وكما لا تخلو الكوارث الطبيعية من سياسات الفساد والاهمال في التخطيط والاثراء السريع وغياب المؤسسات ومطاطية حكم القانون, كذلك هنالك سياسة في معالجة نتائجها وفي الاغاثة. ويقول تقرير الاتحاد الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر حول الاخلاقيات الانسانية في الكوارث والحروب ان معدل الدعم الدولي للمصابين في الكوارث والحروب قد تتفاوت من 10 دولار للشخص في اوغندا, و185 دولار للفرد في مناطق جنوب شرق اوروبا. وانه بعد سقوط صدام حسين جمع خلال اسابيع 1.8 مليارد دولار معونات انسانية للعراق في حين جمع نصف هذا المبلغ لـ 40 مليون جائع في افريقيا خلال سنة. لقد طغت الاجندة السياسية على الاغاثة. ويقول تقرير الاتحاد ان المؤسسات الانسانية باتت هي أيضاً تصمم طلباتها بناء على ما يقبل او يطلب في "سوق" الدول المانحة وليس بموجب الحاجات الفعلية.
لا تقتصر القضايا الاخلاقية التي تثيرها الكوارث على المسائل الوجودية والبحث العبثي عن معنى الزلزال, وانما تثار ايضاً اخلاقية متعلقة بحياة الناجين بعد الكارثة مثلاً, والقضايا التي تثيرها مسألة الدعم الانساني العالمي والتبرع, ووجود أجندات سياسية في الدعم الدولي.
خذ مثلاً الضجة الاعلامية الكبرى التي ثارت مع الزلزال الذي ضرب تركيا في العام 1999. لقد تبين في وقت لاحق ان 98 في المئة من الـ50 الف انسان الذين انتشلوا احياء من تحت الانقاض تم انتشالهم بأيدي متطوعين محليين. وتضع هذه الحقيقة الدراما الاعلامية الرهيبة حول المعونات العالمية في ضوء آخر. فقد بقي التلفزيون الاسرائيلي يصور بعثة دولته الطبية الى هناك ساعة انطلاقها وساعة وصول "أبطالها" ارض المطار كأنه وصول المنقذ أو الابطال السبعة او التسعة او الاحد عشر في فيلم هوليوودي قديم في الوقت المناسب لانقاذ صاحبة البطل. ثم كان على المشاهد مستهلك الكارثة ان يتابع كلامهم المقتضب, والتظاهر بالاقلال من الكلام لأنهم لم يأتوا للكلام بل للعمل, وكل ذلك, الكلام وقلته, امام الكاميرا. وبقي التلفزيون الاسرائيلي يرافق عملية انتشال طفلة طيلة يوم كامل بواسطة الطاقم الذي يتصرف "بشكل طبيعي" والكاميرات من حوله. هذا هو الانطباع الذي بقي في أذهان الناس عن زلزال راح ضحيته أكثر من 17 ألف انسان, وانقذ فيه خمسون الف بأيدٍ محلية.
وحتى هذه الواقعة الأخيرة لم تنج من التنظير السياسي فقد انتشرت في أوروبا أدبيات سياسية عن دور المجتمع المدني التركي في عمليات الانقاذ مقابل عجز الدولة وآثار ذلك على عملية الاصلاح السياسي الديموقراطي في تركيا, وهو الاصلاح المطلوب لغرض انضمامها للاتحاد الاوروبي.
لا حدود لعدد الاحكام الاخلاقية التي يحتاج اليها ايضاً العاملون في مجال الانقاذ... الى اين يوجه المال, والى اين يوجه الجهد, وحياة من تفضل على حياة من اذ كانت الطاقات والموارد محدودة؟
طالما أن هناك حياة, فإن هناك احكاماً اخلاقية ومعايير. وهذه لا يمكن أن تكون اذا لم تكن للحياة غاية ومعنى تشتق منها هذه المعايير. للحياة الانسانية وليس للزلزال معنى, هذا ما يجب ان يفترضه الانسان ليعيش كأنسان ازاء احداث مثل الزلزال. الاخلاق غير ممكنة من دون حرية اختيار, لكنها لا تقتصر على حرية الارادة. ففي النهاية يبقى السؤال حرية الارادة بإختيار ماذا؟ أي قيمة وأي معنى وأي حياة نختار, وأي مقاييس ومعايير أخلاقية؟ هل تشتق هذه من مجرد حرية الارادة ام توجد اخلاقيات موضوعية وصفات حسنة, من نوع التضامن الانساني ومساعدة الآخرين, والتضحية, والكرم (الذي يعني الكرم المادي والمعنوي) واعتبار حق الانسان بالحياة قيمة؟
ومن المسائل التي تسخف قصر الاخلاق على حرية الارادة, امكانية الفرد اتخاذ خيار حر باعتبار الكارثة مناسبة للسرقة والنهب او لتأجيج الغضب الاحتجاج, لأنها مناسبة لتحويل الغضب بشكل رخيص بإتجاه معين, أو استغلال الكارثة من أجل مشهد اعلامي رخيص حول انسانية الولايات المتحدة او رغبة اسرائيل في المساعدة.
لا يستطيع الانسان ان يمنع نفسه عن "الصفنة", التأمل في الغيب, بعد كارثة من نوع الزلزال الذي حل على مدينة بَم وسكانها المنكوبين. فحتى توقيته, الساعة الخامسة والنصف صباحاً, جاء مفارقة مأساويةً ليكونوا جميعاً في البيوت حينما تقع السقوف على الناس, حتى التوقيت يصلح خاتمة لعام من الكوارث في هذه المنطقة. وهذه استعارة أدبية فحسب, فلا غاية من توقيت الكارثة الطبيعية.
يقزم الزلزال والموت الجماعي وروتين صور الجثث المعجونة بالاتربة كل شيء, النقاش السياسي ومعنى الحياة, والامر الذي اغضبك قبل ساعتين وما أثار حفيظتك بالأمس, وما تنتظره بفارغ الصبر غداً, والمشادة التلفزيونية الكلامية المفتعلة. كل شيء يتضاءل أمام حجم الزلزال كظاهرة والدمار الذي تخلفه. تماماً مثل الشعور الذي ينتاب المرء بعد قراءة كتاب أو مقال علمي حول الأجرام السماوية والافلاك واصلها ومآلها وموقع الانسان في الكون وانعدام معنى وجود معنى, أو معنى عدم وجود معنى لحياته واخلاقه وخياراته واهدافه. قد تنتهي الهواجس التي تثيرها الكارثة بالصمت او بممارسة الحياة كالعادة في اليوم التالي او بتعميق لا اخلاقية اعمال الانسان.
ولكن لماذا نبتعد كثيراً؟ فإن التأمل بولادة وموت فرد, وليس بنهاية ثلاثين ألف فرد كافية لتثير هذه الهواجس. ولادة الانسان ومماته (قلت ولادة الانسان وليس انجابه ومماته وليس قتله او انتحاره) هي افعال لا ارادية, لا حرية فيهما. أهم حدثين, بداية الحياة الفردية ونهايتها, يقعان خارج نطاق التأمل الأخلاقي, وخارج نطاق البحث عن معنى للحياة الفردية. ويتم البحث عن معنى فردي لتلك الحياة الواقعة بين الولادة والموت وفي اطارها. هناك نؤكد حرية الارادة لإتخاذ قرار أخلاقي ليكون هناك معنى لحياتنا, لكي نعيش بمعنى وهدف وغاية تجعل الحياة بين الولادة والموت وإزاء خبر الزلزال والاعصار تستحق ان تعاش. ويبقى فيها معنى لمعارضة الحروب والظلم والكذب والنفاق وتفضيل الاثراء السريع على حياة الناس وغيرها.
في هذا الاطار فقط, اطار وجود معى للحياة اضافة لحرية الارادة في اختيار المعنى, يصحّ أن نفكر بالزلزال وهل كان ممكناً ان يكون عدد الضحايا أقل؟ ومن المسؤول؟ في هذا الاطار يحق لنا ان نشمئز ممن يستخدمون معاناة الناس لغرض الشهرة الاعلامية او لغرض جذب عدد اكبر من المشاهدين في التنافس مع محطة تلفزيوينة اخرى. يحق لنا ان ننفر وان نستفز مع معرفتنا اننا لن نستطيع تغيير قانون السوق في الاعلام بواسطة هذا الاشمئزاز. فالرفض والنفور من شر ليس مشتقاً من قدرتنا على تغييره, وانما من طبيعة الاخلاق التي اخترناها ومعنى المعنى والهدف والغاية التي وجدناها لحياتنا الفردية كبشر بين الولادة والموت والتي لا تفقدنا صورة الانسان حتى في مقابل صور الموت الجماعي.