فلسطينيا: طالما كان الصراع الجاري في السياسة الفلسطينية تعبيراً عن مواقف، وربما مصالح، متباينة من سلوك “الرباعية” تجاه حكومة فلسطينية منتخبة، ومن اعتراف هذه الحكومة بالاتفاقيات التي وقعتها م. ت.ف والحكومات السابقة، شق حتى على الانتهازي التهرب من اتخاذ موقف.
فحتى لو كان المرء مؤيدا للمفاوضات “الإسرائيلية” الفلسطينية ومتفائلا خيرا بانتخاب أولمرت رئيسا للوزراء وجب عليه أن يحترم خيار أغلبية هذا الجزء من الشعب الفلسطيني في الانتخابات.
وحتى لو كان المرء مؤيدا لحركة حماس وغيرها من فصائل المقاومة ضد التنازلات عن الحقوق المتوقع أن يكفلها اتفاق تسوية في ظروف الإجماع “الإسرائيلي” الحالي، إلا أنه كان عليه أن ينتقد موقف حماس من الإصرار على إدارة سلطة ليست ذات سيادة وخاضعة لاتفاقيات مع “إسرائيل”، وهي الدولة التي تقوم الحركة على اعتبارها ليس مجرد احتلال بل هو عدو وجودي.
وفي السطر الأخير، وحتى وقوع الصدامات العنيفة، كان من الصعب العسير التهرب من اتخاذ موقف من حصار يفرض من اللحظة الأولى على حكومة منتخبة لتغيير برنامجها السياسي الذي انتخبت على أساسه، ومن سلوك قوى سياسية تستغل هذا الحصار لإثبات فشل هذه الحكومة، أو تستغل الحصار لتقنع شعبها أنه لا مفر من قبول الشروط “الإسرائيلية”.
ولكن الصورة تغيرت منذ أن اتخذ الصراع شكل صدام دموي. ويتألف هذا الصراع الدموي من جولات متتالية من المناوشات العقيمة والعديمة المعنى والمثيرة للاستهجان، والخطف المتبادل في داخل أحياء يختلط فيها حابل الفقر بنابل البؤس، ولا وجود فيها لخطوط تماس ومناطق طائفية الطابع. ف”طائفتا” الفقراء والبؤساء تقطنان في نفس الأحياء، وأحيانا في نفس البيوت.
وتتخذ الجولات طابعا ثأريا عشائريا، ويسقط أطفال “تصادف وجودهم” في منازل وحارات. ويعقب المناوشات وقف إطلاق نار، وتصريحات وبيانات وناطقون، وما أكثرهم، وصرخات قلوب كسيرة للتوقف. وتتدخل دول منها من يتدخل لأن غيره فعل، وهو ليس أقل من غيره، ومنها من يريد أن يصلح ذات البين فعلا، ومنها من يريد دورا، ومنها من يستغل الوضع لبيان صحة ما ذهب إليه من ضرورة قبول الشروط الدولية لرفع الحصار. منذ تلك المرحلة أصبح تجنب اتخاذ الموقف سهلا غير ممتنع. وتيسرت لكل انتهازي السبل لإلقاء الموعظة الحسنة، وبات كل شقي مثير للشقاق والخصومة مصلحاً.
دخلنا في “سندروم” “الطوشة العمومية” العربي أو الشرقي المرعب رغم كونه مألوفا: وهو مألوف غير ممل بغض النظر عما إذا كان مصدر “الطوشة” من طَوَش فهو عند ابن الأَعرابي: خفَّة العقل. وطَوَّش إذا مَطَل غريمَه، أو إذا كانت من طيش: والطيش خفَّة العقل.. النَّزَقُ والخفَّة، وقد طاشَ يَطِيش طَيْشاً، وطاش الرجلُ بعد رَزانتِهِ.. طَيْشُ العقل ذهابُه حتى يجهل صاحبُه ما يُحاوِلُ، وطَيْشُ الحِلْم خفَّته، وطَيْشُ السهم جَوْرُه عن سَنَنِه؛ (عن لسان العرب).
يتخاصم شخصان أو أكثر، ويتطور الخصام إلى “طوشة”، هستيريا عنف جماعي، يقع فيها ضحايا، قتلى وجرحى، لا يعرف بعدها من ضرب من ولماذا.. فتتنازل الدولة عن لوائح الاتهام، ليس لقلة الأدلة، بل لكثرتها وتناقضها. وروايات المشاركين وشهود العيان تتناقض وتختلف جذريا، ويتطور هذا الاختلاف بسرعة فائقة إلى درجة أنه بفاصل دقائق وعلى بعد شارع أو شارعين من مكان وقوع “الطوشة” يصبح بالإمكان سماع روايات متناقضة تماما عما حصل.
ويحتاج الأمر إلى عقود من الزمن حتى يأتي مؤرخ أو صحفي، أجنبي مثلا، ليستجلي الحقيقة ويقص لنا “تاريخنا”. يفتح سياق الفوضى هذا المجال ليس فقط لهواة الثرثرة والإشاعات لممارسة هواياتهم، أولئك الذين تحل في أيامنا الإثارة الإعلامية مكانهم، بل أيضا لكافة أنواع الانتهازيين الذين تورطوا في الماضي ب”طوشات” للظهور بمظهر المصلحين، بما في ذلك من فرص نادرة لوعظ أخلاقي، وبما في ذلك من ترفع على أطراف النزاع، خاصة وأن السياق يبرر عدم اتخاذ موقف.
وفي الحالة الفلسطينية فسح المجال لكل من تجنب حتى الآن أي عمل تضامني فعلي مع الفلسطينيين تحت الحصار أن يبرر تخاذله علنا بالإعلان أن الفلسطينيين لا يستحقون تضامنه، أو حتى لا يستحقون انسحابا “إسرائيليا” وكأنه دعاية “إسرائيلية” متجولة على قدمين.
كما فسح المجال لكل من لم يتخذ خطوة ضد الحصار على الشعب الفلسطيني الذي أوصله إلى الخلاف بهذا الشكل البائس على سبل رفع الحصار، أن يتحدث عن “مسؤولية الطرفين”، وأن يتخذ موقفا يحمل فتح وحماس المسؤولية بنفس الدرجة.
وتفسح وسائل الإعلام المجال لأي مواطن لا نعرف شيئا عن أخلاقه أن يعظ الطرفين وعظا أخلاقيا من دون أن يعرف شيئا عما يدور من دون أن يطلب منه اتخاذ موقف مما يدور.
ويكثر في هذه المراحل أولئك الذين يدعون أنهم يقفون على نفس المسافة من “الطرفين”. أما طرف الصراع الحقيقي، وهو الحصار والاحتلال، الذي يحتاج إلى تحديد موقف منه فيبقى خارج الصورة. والوعظ والدعوة إلى الوحدة لا تحتاج إلى جرأة خاصة. لا أسهل من التظاهر بالوداعة والسماحة ودعوة الطرفين إلى الوحدة والحوار.
وللتذكير أيضا نقول انه يسهل دائما ترديد المقولة أن الخلاف هو على وظائف ووزارات، وكأنه تنافس شخصي داخل نفس الحركة على المناصب الوزارية. وما أن يفشل الحوار في كل مرة على برنامج سياسي ونقطة سياسية متعلقة ب”الالتزام بالاتفاقيات الموقعة” أو الاعتراف ب”إسرائيل” حتى يلتزم الواعظون الصمت.
الخلاف ليس على مناصب إذا، والأمر ليس بهذه السهولة، ومن لديه عظة حول الموضوع فليطوها ويضعها في جيب سترته الداخلي. وليترو المصلحون الذين لا تهمهم المناصب كما نفهم من استعجالهم الوعظ والنصيحة.
كل من لم يفقد ماء وجهه يدرك أنه لا يجوز، لا أخلاقيا، ولا سياسيا ولا حضاريا ولا إنسانيا أن تدفع قيادات سياسية قواعدها في ظل الاحتلال إلى استخدام العنف ضد خصومها السياسيين. هؤلاء الشباب “من الطرفين” هم ضحايا الاحتلال والوضع الاجتماعي والتنشئة الفصائلية والجيتو والعشيرة والعنف الداخلي. هذا أمر واضح إلى درجة الألم، ولا يحتاج إلى وعظ. وألمه لا ينسينا:
* أولا، يشبه الصدام على الساحة الفلسطينية في بؤسه ووحشيته صداما بين سجناء داخل سجن، أو بين سكان الجيتو داخل المعازل، ولا يجوز استثناء السجان والسجن وعنفه عند الحديث عن العنف الذي استبطنه السجناء وتذوقوه.. يجب ألا ننسى ذلك خاصة أن السجناء يتنافسون على وهم إدارة ذات سيادة للسجن.
* ثانيا، يدور الصدام بسبب حالة الحصار على فشل أو نجاح الحكومة الفلسطينية بالتغلب على الحصار، فهل يجوز أن نتحدث عن الصدام الجاري حاليا دون اتخاذ موقف من الحصار المفروض على حكومة منتخبة ديمقراطيا، والذي يختلف الفلسطينيون بين سلطة ومعارضة على المسؤولية عنه وكيفية إفشاله.
* ثالثا، أن هنالك فرقا بين من يمارَس الضغط عليه بواسطة الحصار ومن يستغل الحصار لكي يثبت فشل الآخر. وهنالك فرق بين من يراهن على الحصار وبين من يراهن على ضربه بواسطة الحصار. لا يفترض أن ننسى السياق بالهرب إلى “طوشة عمومية” لا نعرف بدايتها من نهايتها. فالحصار “إسرائيلي” أمريكي، وطرف فاز وآخر لم يقبل الخسارة فراهن على الحصار. هكذا نجح الحصار في جر الشعب الفلسطيني إلى الصدام.
* رابعا، أن بين الفرقاء خلافا ونقاشا سياسيا فعلي يجب ألا يحسم لصالح طرف ضد آخر بفعل الحصار نفسه.
* خامسا، ان عدم حسم النقاش السياسي يعني أن السعي إلى الوحدة كما يليق بحركة تحرر تحت الاحتلال، أو على الأقل إلى التعايش كما يليق بجيران وأخوة وأبناء نفس الشعب تحت الاحتلال، يجب أن يتم من دون شروط سياسية. نقول ذلك أيضا لأسباب عملية، منها أن هذا وحده كفيل بكسر الحصار، وأن “إسرائيل” لا تقبل على كل حال بالقاسم المشترك الفلسطيني الذي يمكن التوصل إليه في ظل الشروط الدولية، كما لا تعرض من جانبها ما يمكن ان يقبله أي طرف فلسطيني.
في هذه الظروف الحالكة يجب أن نذكر ذلك.. وليس فقط مبدئيا، بل لكي يكون الاتفاق ممكنا، فهو لن يتم بالوعظ والمناشدة. ومن دون تذكر هذه العناصر والاقتناع بها لن يصمد اتفاق لأكثر من أيام.
في لبنان: يطالب طرف أساسي في المجتمع اللبناني بحقه في صنع القرار، وكان قد ساهم في تشكيل الحكومة الحالية، وكان جزءاً من التحالف المنتصر في الانتخابات، فهو لم يخرج من الانتخابات كأقلية ديمقراطية كما يقال، وهو يقول عمليا ان من يريد أن يحوله إلى أقلية ديمقراطية تقبل بقرارات أغلبية ديمقراطية عليه أن يوافق على انتخابات جديدة وأن يرضى بنتائجها. وهو يرفض أن يقبل بموقع أقلية لسبب بسيط هو أن التحالف الذي شارك فيه قد حرر نفسه من شروط التحالف. وبات يعتبر نفسه طرفا في الصراع الدولي والإقليمي ضد المقاومة المجيدة، وهي مجيدة فعلا، ثم قولا أيضا، ولا بأس من القول.
وبغض النظر عن موقف المراقب منه فإنه مضطر لأن يعترف أن هذا الطرف الذي يحتج على استثنائه من الوفاق اللازم لصنع القرار في مثل هذا الظرف هو الأقوى والأكثر تنظيما ليس فقط في الصراع ضد “إسرائيل”، بل أيضا في الدفع بالجماهير لصناديق الاقتراع وللشارع، وفي ضبط وتطوير وتصعيد احتجاج سلمي. لا وجود لقوة عربية جماهيرية عربية في أيامنا على هذه الدرجة من التنظيم، ولا تصاب بالوهن بعد كل ما تعرضت له من قصف وتدمير تتفكك تحت وقعه أوصال دول. وعلى من يختلف وينتمي إلى المجتمعات العربية التي تعاني من عكس ما تجسده هذه الظاهرة أن يقدرها حق قدرها. وبغض النظر عن الموقف، وفقط تقديرا للاستمرار والمثابرة والقدرة والتخطيط والتنظيم بعد مثل هذا التدمير تستحق مثل هذه القوة في بلاد أخرى أن تحكم لا أن تشارك في حكم.
يكفي أن نتخيل كيف كانت سوف تتصرف قوى أخرى في نفس البلد في صراع داخلي لو توفرت لها نفس القوة التنظيمية الشعبية والعسكرية. تصعب المقارنة هنا بين الحس العالي بالمسؤولية وضبط النفس الذي يبديه حزب الله في صراع مصيري بالنسبة له على صنع القرار في البلد، وذلك دون بحث عن مناصب، وبين التمسك بالمناصب إلى درجة التخلي عن قرار الوحدة اللازم لصالح التحالف مع محور خارجي، وإلى درجة التصعيد العنيف خوفا من الحسم الجماهيري السلمي. والجميع يعرف كيف تتصرف قوى تتوفر لديها نصف قوة حزب الله في الوطن العربي إذا كان هدفها الوصول إلى السلطة.
من لديه نية في لعب دور غير المنحاز المترفع على الموقف والواعظ المصلح
لا يتمكن من لعب مثل هذا الدور في لبنان. وما عليه ان يبحث عن ساحة أخرى يعظ فيها. وحتى من يرد أن يتقمص دور المصلح وأن يدفع باتجاه الوحدة الوطنية فسوف يجد نفسه منحازا إلى موقف يطالب بالوحدة الوطنية.
وضوح المواقف لا يسهل على أحد لعب دور الواعظ أو المصلح. وفقط التقسيم الطائفي يشوش المواقف فيغلب انتماء البعض على قناعاته. ومن يريد أن يلعب دورا لا بد له إما أن ينحاز إلى طرف ويؤثر من هناك، أو أن يدفع لحوار إقليمي يقرب من وجهات النظر ويستحضر آليات تطمئن الخائف على مصير البلد.