تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

خطاب بوش... حالة إستعصاء

2005-10-12

من الأمور التي استعصت على الفهم مع بدء الهجوم الأميركي على المنطقة يتقدمه حملة بيارق الديمقراطية من المحافظين الجدد، أن هؤلاء لم يتعبوا من التأكيد على عالمية الديمقراطية والحرية ورفعوها إلى درجة الخطة الكونية الإلهية للعالم على لسان بوش (مثلا في خطابه قبل عامين أمام " الصندوق القومي للديموقراطية: يوم 6 اكتوبر 2003). ولا شك أن هذه النظرة الميتافيزيقية للحرية التي تذكر بماركس الشاب وبالهيجليين الجدد عموما بعد موجة الديمقراطية الأولى وربيع الشعوب في العام 1848، تحمل معانٍ ثورية أهمها رفض الصيغة العنصرية القائلة بعدم تلاؤم الحضارة الإسلامية أو غيرها مع الديمقراطية. إنهم يعتقدون أن مبادئ الديمقراطية صالحة لكل زمان ومكان، وفي كل دولة. ويؤكد ذلك جورج بوش في خطاباته المتكررة وآخرها خطابه أمام "الصندوق القومي للديمقراطية" من يوم 6 أكتوبر 2005..
 

ما المستعصي على الفهم هنا؟ لا، ليس تروتسكاوية المحافظين الجدد المقلوبة ولا ثورتهم الدائمة ورغبتهم في تصدير الديمقراطية، ولا شغفهم بالأيديولوجية والتبريرات الفكرية النخبوية الطابع، بل وجودهم في نفس المعسكر في السياسة الخارجية مع مدارس تبدو وكأنها في الجانب الآخر من المتراس نظرياً، ولكنها على نفس الجانب من المتراس في السياسة الخارجية. فان مراجعة لكتابات صموئيل هنتنجنتون عن صراع الحضارات منذ مقالاته في مجلة "فورين أفيرز" من العام 1993 وطيلة العقد الأخير من القرن العشرين حتى يومنا، وكتابات برنارد لويس من قبله، نجد أن الحضارة الإسلامية، وفي مركزها الثقافة الإسلامية، وفي مركزها منظومة قيم إسلامية غير ودودة للقيم الديمقراطية. نحن أمام نظرة جوهرانية للحضارة، لا شك في ذلك. وفي تلخيصه للقيم الإسلامية المدعاة اعتمد هنتنجتون على تنظير برنارد لويس. يفترض طبعاً أن هذه الأفكار مضادة تماما لما يقوله المحافظون الجدد، فلماذا لا نسمع منهم إنتقاداً واحداً ضد هؤلاء؟ بالعكس تماما إننا نجدهم يتقاطعون في نفس الأوساط، وفي نفس مراكز البحث والأوساط السياسية.
 

والحقيقة أن التدقيق في التصورات النظرية يعمي الأبصار عن الصورة السياسية الشاملة. فكلا التيارين هما تيار واحد في السياسة الخارجية. ويبدو أن الموقف المحافظ من عدم تقبل الإسلام للديمقراطية وصراع الحضارات الأبدي يعبئ للحرب والكراهية، وأن التيار الثاني يضع ذرائع هذه الحرب. فالديمقراطية لديه تفرض فرضا بقوة السلاح مما يؤكد المقولة النظرية الأولى أن الإسلام بذاته لا يتقبل الديمقراطية. العلاقة بين التيارين أوثق إذا مما يتصور الشباب المحافظون الجدد والأساتذة الجامعيون من المحافظين الشيوخ.
 

في التطبيق طرح تصدير الديمقراطية كذريعة بعد أن ثبت بطلان ذرائع أخرى من نوع مكافحة أسلحة الدمار الشامل ومحاربة الإرهاب بثبوت عدم وجود أسلحة دمار شامل ونفي العلاقة بين العراق وهجمات الحادي عشر من سبتمبر. هنا تثبت واقعية التعامل الأميركي معها كأداة وليس كنسق قيمي جاهز للتصدير. وعندما يضاف إلى ذلك التمييز بين الأنظمة في العالم العربي ليس بموجب المعيار الديمقراطي، بل بموجب الفرق بين أنظمة صديقة وغير صديقة، وأنظمة معتدلة وأخرى راديكالية، بما في ذلك في خطاب بوش الأخير، يثبت أنه في سياسات القوة والمصالح الأميركية ليس المعيار هو الديمقراطية ولا الالتزام بها. ويبدو أنه في حالة الصراع ينشأ ميل لتهميش هذه المسائل الفكرية لصالح المصالح والتحالفات وسياسات القوة.
 

كان هذا سائدا في فترة الحرب الباردة وغير الباردة مع الإتحاد السوفييتي التي درج المحافظون الجدد على الإعتذار للعرب عن سياسة بلادهم إبانها لأنها لم تدقق في شكل وممارسات وجوهر الأنظمة الحليفة في هذا الصراع مضحية بذلك بالقوى الديمقراطية أو المناضلة من أجل حقوق ديمقراطية. لم تسمح لها إذا ضرورات المواجهة مع شر كبير كالإتحاد السوفييتي برفاهية النظر إلى مثل هذه التفاصيل مثل خرق حقوق الإنسان أو الدكتاتوريات.
 

ولكن السياسة التي تدعي تصدير الديمقراطية على النطاق العالمي بشكل عام، والعربي بشكل خاص خلقت لنفسها فكرياً صورة عدو شمولي جديد، كما وسعت على أرض الواقع حلبة نشاطه. حرب جديدة تحت شعار الديمقراطية قد تحتم ضرورات جديدة لتحالفات تهمل الديمقراطية ذاتها. وأي مقارنة بين خطاب بوش المنطلق المتفائل الحماسي في نفس المناسبة قبل عامين وقد خصص لنشر الديمقراطية وتقديمها كأننا نقرأ من جديد مقال هنتنجتنون عن موجات الديمقراطية الثلاث من جهة، وخطابه الأخير المخصص للعدو الجديد ألا وهو "الإرهاب الإسلامي" أو "الفاشية الإسلامية" وطرق مكافحته وضرورة الإنتصار عليه من جهة أخرى، تثبت أننا أمام مرحلة جديدة في تشخيص العدو.
 

فالسلام نفسه بات يعني " الإنتصار على هذا العدو وسوف ننتصر" (لا يفوت بوش على طول الخطاب طبعاً أن يميز بين الإسلام وبين هذا العدو الذي يستغل الإسلام). ما يهمنا هنا هو تولد عدو جديد يقارنه بوش صراحة في خطابه مع هتلر وستالين وبول بوت وغيرهم من الأنظمة الشمولية. ويتهمه بوش بمحاولة إقامة إمبراطورية إسلامية شمولية تمتد من إسبانيا وحتى أندونيسيا. وهو يقوم بهذه المقارنة جدياً إلى درجة أنه يقتبس جملاً من الزرقاوي وبن لادن.
 

يعتبر بوش " الإرهاب الإسلامي" "الخطر والخصم الأول في القرن الواحد والعشرين". تخيل عزيزي القارئ مثل هذا القول من قبل رئيس الإمبراطورية الوحيدة والإنطباع الذي يتركه!! ويعظم ويضخم بوش هذا العدو الجديد إلى درجة لا بد أنها ستثير إعجاب بعض من يكرهون أمريكا إلى درجة اعتبار هذا الخصم هو البديل التاريخي المطروح لأميركا. هذا هو الخطر الأول الذي يستدل عليه من خطاب بوش الأخير. أما الخطر الثاني فيكمن في تعظيم هذا العدو إلى مستوى المواجهات الكبرى مع الفاشية والشيوعية، أي إلى تبرير التحالف مع قوى غير ديموقراطية ضده. فأين وصلنا؟ عدنا إلى المربع الأول. حرب تشن من أجل الديمقراطية وتؤمن أن الإستبداد ينتج إرهاباً وأن الديمقراطية من وسائل مكافحة الإرهاب إلى أن يصل بواسطة الحرب والإحتلال إلى المساهمة في توسيع نطاق عمل الإرهاب وتهويل شأنه كعدو إلى درجة التحالف من جديد مع قوى غير ديمقراطية من أجل هزيمته. فماذا جلب المحافظون الجدد من بيت أهلهم كما يقال؟
 

يشكل خطاب الرئيس الأمريكي الأخير أمام مؤسسة "الصندوق القومي للديمقراطية" مرة أخرى وثيقة حقيقية حول الأيديولوجية وخطاب الإدارة الأميركية في الشؤون الخارجية. ويبدو بعد إعصار كاترينا والمصاعب التي يواجهها بوش اثر تعيين محاميته الشخصية كقاضية في المحكمة العليا، وخيبة أمل المحافظين الجدد حتى من سياسته الداخلية ( أنظر رد فعل وليم كريستول، محرر الويكلي ستنادرد مجلة المحافظين الجدد، على هذا التعيين الأخير) إن هذا الخطاب السياسي هو أداة للهيمنة الأيديولوجية داخلياً أيضا، خاصة وأنه يساير ويعيد إنتاج أفكار مسبقة حول الإسلام لا بد أنها منتشرة في وسائل الإعلام الشعبية، ويقدمها كتبة بوش كخطاب سياسي يحكمه نسق ويقدم للجمهور بصلصة، آسف بسلطة رئيس الدولة العظمى الوحيدة في العالم.
 

ولكن أي مقارنة بخطابات سابقة في هذا المكان وفي هذه المناسبة تلاحظ في خطاب بوش الكثير حول الإرهاب، والقليل حول الديمقراطية. لقد تبددت أوهام كثيرة في العامين الماضيين. واحتل موضوع تشخيص العدو وسبل مكافحته حيزاً أساسياً من الخطاب. كما وجد بوش نفسه مضطرا أن يأخذ الجمهور الأميركي في رحلة شرح بعيداً عن توحيل سياسته في العراق، وعن ازدياد عدد الضحايا الأميركان وخلاف ذلك. وقد اتبع كتبة الخطاب في ذلك الأدوات التالية:
 

1. اعتبار الإرهاب شراً أعظم كما أسلفنا إلى درجة وضع الدول التي ترعاه في الظل. فالإرهاب هو محور الشر في أيام تلعفر والفلوجة والحديثة وغيرها. وهو صانع حقب تاريخية كما بدا من هذا الخطاب.

2. إنه شر مطلق أصم بلا سبب واضح بالإمكان التعامل معه أو معالجته، ولا مطالب واضحة يمكن تلبيتها. فهدفه هو التدمير ونفي الآخر، والآخر هو أميركا، أو نمط الحياة الغربي، أو الديمقراطية، أو التقدم والحرية، أي شيء.

3. الإرهاب هو حركة أقلية نخبوية تفرض رأيها على الجماهير، كما في حالة أنماط الإستبداد الشمولية الأخرى.

4. يراهن الإرهاب على "ضعفنا" ويروج "أننا جبناء". هنا يقوم بوش باستثارة الحمية باقتباس الزرقاوي مباشرة الذي يدعي حسب بوش أن الأميركيين هم أجبن خلق الله.

5. الإرهاب ينتشر في العراق حالياً بهدف إحباط محاولة تحول ديمقراطي. وهو يشتد مع ازدياد تصميم أميركا على إجراء هذا التحول، رغم أن الطريق صعبة وشاقة. ويحضر بوش الرأي العام إلى صعوبتها ولتقبل حجم وعدد الضحايا التي سوف تسقط، ولكن ليس بسبب الإحتلال بل بسبب الشر.

6. إذا هربت أميركا الآن من العراق كما هربت من الصومال ولبنان فسوف يحكم العراق الزرقاوي وبن لادن... عدنا إلى هنتنجتون. هنا يتبين مرة أخرى أن تفسير المحافظين الجدد يتلاءم مع هنتنجتون فإذا كان الإسلام لا يتقبل الديمقراطية، فيمكن إدعاء العكس ثم فرض ما يدعى أنه ديمقراطية بالقوة.
 

للتذكير فقط: لم يكن في العراق لا زرقاوي ولا بن لادن قبل الإحتلال الأمريكي!
 

علينا كما يبدو أن نترجم فقرات كاملة لتصوير حجم الديماجوجيا التي تجاوزت كل حد يفصل الواقع عن الخيال. خذ مثلاً كيف يقلب بوش إدعاء المعادين للحرب حول وجود خلفية إجتماعية لتطور العنف الإرهابي وكيف يستخدمه في صالحه دون أي معالجة للخلفية الإجتماعية نفسها: " إلحاق الهزيمة بالشبكات المتطرفة مهمة صعبة. لأنها تزدهر مثل الطفيليات على معاناة وإحباط الآخرين. ويستغل المتطرفون الصراعات المحلية لبناء ثقافة الضحية والتي بموجبها يجب لوم طرف آخر دائماً، والعنف دائما هو الحل. إنهم يستغلون الشباب اليائسين الذين يشعرون بالمرارة ويجندونهم كأداة طيعة للإرهاب من خلال المساجد المتطرفة." إنهم مثل الطفيليات على معاناة الآخرين." ولكن ماذا بالنسبة لمعاناة الآخرين ذاتها؟ لا جواب. "إنهم يستغلون صراعات محلية"...هكذا يسمي بوش الإحتلال الإسرائيلي مثلاً..."لغرض تشكيل ثقافة الضحية ولوم الآخرين. والعنف دائماً هو الوسيلة"...هكذا تصور مقاومة الإحتلال وليس الإحتلال ذاته، كأحد مصادر الإرهاب.
 

وتصل قمة الديماجوحيا في فقرات من النوع التالي: " إدعى البعض أن عمليات إئتلافنا في العراق قد قوت التطرف، باعتبار أن وجودنا في ذلك البلد قد فجر غضب الراديكاليين. أود أن أذكرهم أننا لم نكن في العراق يوم 11 سبتمبر 2001، وقد هاجمتنا القاعدة على أي حال. كان عنف المتطرفين قائماً قبل أن يكون العراق موضوعا، وسوف يكون موجوداً بعد أن يتوقف العراق عن أن يكون تبريراً. لم تدعم حكومة روسيا عملية الحرية للعراق ومع ذلك قتل المتطرفون 180 تلميذ مدرسة في بيسلان". لم يدع أحد لا من المتعاطفين ولا المناهضين للعملية الإجرامية يوم 11 سبتمبر ضد المدنيين الأميركيين أن السبب هو الوجود الأميركي في العراق. هذا ادعاء لا يستحق نعت ديماجوحيا. وبالعكس كانت المشكلة إدعاء أميركا وجود العراق في العملية كتبرير لشن الحرب على العراق.

وأذكر أن ريتشارد كلارك منسق مكافحة الإرهاب في الإدارة في حينه قال في شهادته أمام الكونجرس انه أحس بألم جسدي عندما أدرك أن رامسفيلد ووولفوفتس يحاولان إستغلال العملية من اللحظة الأولى للدفع باتجاه الحرب على العراق. ويستطيع أي عراقي أن يقول: "ليس هدف أميركا مكافحة الإرهاب، فقد تم شن الحرب على العراق واحتلاله رغم تفنيد وجود علاقه له مع الإرهاب". وسوف يكون بقوله هذا أقل ديماجوجية بكثير من الرئيس الأميركي. أما بالنسبة للعملية الوحشية والإجرامية والبربرية التي لا مبرر لها في مدرسة بيسلان، ناهيك عن التقليد الروسي البوتني في التصدي للعمليات كأنها لعبة كارتيه، فليست خلفيتها عدم دعم روسيا لأميركا في العراق بل قضية الشيشان...لا حدود لديماجوجية كتَّاب خطابات جورح بوش. وإضافة لكل شيء يقدم هؤلاء نموذجا تربويا سيئا لاستخدام الكذب والإستنتاجات غير المنطقية في الوقت ذاته للمجتمع الأميركي.
 

ما لبث كاتب الخطاب أن عاد إلى مبررات الوجود الأمريكي في المملكة السعودية والإحتلال في فلسطين في موضع آخر: "لقد استخدم المتطرفون عبر السنين تشكيلة من التبريرات للإرهاب..الوجود الإسرائيلي في الضفة الغربية الوجود الأمريكي في السعودية ...وفي الواقع نحن لا نواجه سلسلة من أعمال الظلم يمكن معالجتها...." الإحتلال الإسرائيلي ليس واقعاً من الضيم، بل هو مجرد تبرير لأعمال إرهابية، وبما أنه تبرير فلا يصح إذاً إلا اقتلاعه كوهم من الأذهان ورؤية عملية إستغلاله فقط من قبل الشر المطلق. أما رؤيته هو فعمل ليس ذا صلة بمعركة القرن الواحد والعشرين.
 

ذكر بوش في خطابه من يوم 6 أكتوبر 2003 أنه كما تعود جذور الديمقراطية الأميركية إلى البرلمان الإنجليزي كذلك تعود جذور مهام "الصندوق" وسياسته هو في هذه المناسبة إلى خطاب رونالد ريجان في وست منستر التي أعلن فيها نهاية التعايش مع الاتحاد السوفييتي كشر أعظم. هنا بجل كتاب خطاب بوش وعظموا من شأن السذاجة والمباشرة والعفوية والبساطة التي تميز بها ريجان برأيهم وأثارت غضب الأوروبيين مؤكدين أن رئيساً قد يبدو بسيطاً وساذجاً وربما أحمق وهو يقرأ الخطاب الذي كتب له قد يؤدي دوراً تاريخياً عظيماً في التعامل مع شر لا يفهم إلا لغة القوة. ويكرر بوش في خطابه الأخير القول: "لقد تعامل بعض النقاد بازدراء مع خطاب الرئيس ذاك. وبموجب مقال في جريدة التايم آنذاك من الصعب أن تكون أوروبيا مركب الشخصية وأن تكون معجباً برونالد ريجان (ضحك). إعتبر بعض المراقبين على جانبي الأطلسي الخطاب تبسيطياً وخطيراً وساذجاً. وفي الحقيقة كانت كلمات ريجان شجاعة ومتفائلة وصحيحة. (تصفيق)" ورد التصفيق والضحك بين أقواس هكذا في البروتوكول. وعلى كل حال يقول بوش: قد تعتبرونني تبسيطياً وأحمق وسوف يتضح في الواقع أن ما أقوله هو كلام نبوءة تماماً مثل الرئيس الأحمق الذي سبقني رونالد ريجان. لا بد أنه خداع العقل في التاريخ. 
 

في هذه الأيام يبدو أن الطبيعة ذاتها لا تحتمل ما عليها من بشر من المسيسبي وحتى الهملايا مرورا بجواتيمالا، ولذلك يبدو كل شيء نسبياً. بما في ذلك إلقاء خطاب، ناهيك عن كتابة مقال.