تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

حول فوز حماس وفعل التحدي

2006-01-06

يجري التنافس في الانتخابات الإسرائيلية بين الأحزاب الصهيونية تحت سقف الحفاظ على يهودية الدولة والتسوية على أساس الفصل الديموغرافي بين إسرائيل والفلسطينيين، بحيث يقوم كيان فلسطيني في المناطق المكتظة بالسكان في الضفة الغربية وقطاع غزة ويضم الباقي بما فيه الكتل الاستيطانية الكبرى إلى إسرائيل. 
 

ويمكن برأيي اختزال النقاش بين هذه الأحزاب في الشأن الفلسطيني إلى تمييز بين موقف حزب العمل الذي يدعو الى أن يتم ذلك في إطار اتفاق سلام وبين موقف شارون- كديما الذي لا يستبعد أن يتم تعيين الحدود من طرف واحد بفك ارتباط يأخذ بعين الاعتبار المصالح الإسرائيلية فقط. وحزب «كديما» مثل مؤسسه شارون يهدد بفك ارتباط وتعيين الحدود الدائمة من طرف واحد في الضفة إذا لم تسلك السلطة الفلسطينية أمنيا كما يرغب.
 

لا جديد في الانتخابات الإسرائيلية سوى أنها تجري على الحلبة التي أنشأها شارون بدعم من بوش في خطة فك الارتباط في قطع غزة. أما الجديد في الانتخابات الفلسطينية الأولى التي تستحق تسمية انتخابات أنها أولا، تتم على خلفية تجربة السلطة التي استمرت عشر سنوات، وتشمل وتحمل القوى المشاركة فيها بالتالي بُعدا نقديا لهذه التجربة، وثانيا أنها تتم بمشاركة القوى الفلسطينية الأساسية. 
 

لم يتوفر هذان العنصران في تجربة انتخابات عام 1996. فقد أسست تلك الانتخابات بتفاؤل للسلطة ذاتها، وخاضتها قوة سياسية واحدة فعلية، وفضلت بقية القوى العيش في ظل الاستنباط المنطقي أو القياس الشكلي على نمط: «نحن ضد أوسلو، الانتخابات التشريعية إفراز من إفرازات أوسلو، إذًا نحن ضد انتخابات المجلس التشريعي». وكما يبدو ساعد الظرف الدولي وواقع بنى المجتمع والسلطة على الأرض هذه القوى أن تنتقل من الاستنباط الرياضي غير الملوث بواقعة أو حادثة واحدة وغير المسيس في الواقع إلى الاستقراء، من اشتقاق مقولة يقينية أو خاطئة من أخرى إلى اشتقاق العموميات غير اليقينية من جزئيات الواقع بفعل العلاقة المباشرة الترابية مع واقع السلطة الفلسطينية. 
 

وكشف الواقع الانتخابي الحالي المعاش لهذه القوى أنها مضطرة الى حث المجتمع المقدسي على التصويت في الانتخابات للمجلس التشريعي، وأن تقاعسه عنها لا يعود إلى موقف رفض من منطلق ممانع مقاوم كما كانت تتمنى، بل هو ناجم إما عن تهميش للذات عن المجتمع الفلسطيني وإما عن لامبالاة بواقع السلطة أو خوفا من خسارة «امتيازات» اكتسبها بفعل الإقامة في منطقة ضمت لإسرائيل. 
 

لقد كشف الواقع أن الانتخاب قد يكون فعل ضم عرب القدس إلى السلطة الفلسطينية. ومع أن إسرائيل تفسر سماحها لهم بالمشاركة على أنه ضم للقدس دون سكانها، أو على الأقل دون حقوق سياسية إسرائيلية لسكانها العرب، إلا أنها تتمنى ان يأخذ العرب هذا الحق بالتصويت للمجلس التشريعي كبديل عن ضمهم بالتصويت للكنيست، وألا يستخدموه في الوقت ذاته، أي أن يتم تهميش المجتمع العربي في القدس عن عمقه الفلسطيني والعربي كمقدمة لانحلاله التام. وتكشف الانتخابات الفلسطينية في القدس حدود ممارسة السيادة الفلسطينية إذا كانت ديموغرافية فقط.
 

لا توجد سيادة لا تمارس على الأرض. ومن يفقد السيادة على الأرض يفقدها على السكان أيضا. ولا يهم إسرائيل لو صوت كل فلسطينيي العالم لمجلس تشريعي يمارس سيادة فقط على غزة ونابلس وطولكرم ورام الله، هذا إذا مارسها هناك. أما في القدس فهي لا تفضل حتى حصول ذلك، فغاية مناها في القدس مجتمع فلسطيني محطم يتحول إلى أحياء فقر محاطة بالمستوطنات والأحياء اليهودية المتوسعة باستمرار.
 

تتضمن كل انتخابات سياسية عنصراً من عناصر السيادة لأنها تعبر عن إرادة شعب. ولكن إرادة الشعب الفلسطيني في هذه الحالة تتناقض مع صاحب السيادة الفعلية على الأرض ألا وهو الاحتلال الإسرائيلي. لقد عبر الاحتلال عن ذاته في الانتخابات بفرض إيقاعها السياسي، وأفقها البرنامجي، وبتقييد حركة المرشحين، وبالاغتيالات وغير ذلك. ولكنه مارس أيضا سيادةً تذكِّر بسقف هذه الانتخابات في قضايا أكثر أهمية وأعظم أثرا من نوع الاستمرار في بناء الجدار وتوسيع المستوطنات والتحكم بحركة ومصائر الناس والبضائع طيلة فترة الانتخابات... ومن نافل القول أن هذا السياق يجعل الانتخابات مسألة صراع مع الاحتلال لأنها تعبير عن سيادة مقيدة في صراع مع من يقيد هذه السيادة فيجعلها تناقض ذاتها لأن الاحتلال نقيض السيادة.
 

بالامكان إذاً تحويل الانتخابات روحاً ونتائج وبرامج إلى شكل من أشكال مقاومة الاحتلال، هذا بشرط أن يقوم ذلك على إدراك أنها تجري تحت سقف النضال ضد الاحتلال وبناء لأرضية مشتركة هي ارضية مقاومة الاحتلال. الموقف بحد ذاته ضد الاحتلال ليس ممارسة للسيادة. ومن الأفضل أن يكون نضالا على أن يكون تظاهرا بممارسة السيادة. وبالتداعي نقول: لا يكمن الادعاء بأن الفرق بين المجلس الوطني الفلسطيني، مجلس منظمة التحرير غير المنتخب، والمجلس التشريعي بأن الأول لا يمارس سيادة في حين أن الثاني يمارس سيادة من خلال عملية تشكل دولة. وقد يكمن الفرق على مستويات أخرى بين المجلس التشريعي الفلسطيني الذي يجري انتخابه وبين المجلس الوطني الفلسطيني، مثلا أن الأول محصور في تمثيل فلسطينيي الضفة وقطاع غزة فيما يمثل الثاني الشعب الفلسطيني في «كافة أماكن تواجده». ويكمن الفرق بين المجلس التشريعي الفلسطيني والمجلس الوطني في أن الأول المنتخب أمس سوف يشمل كافة القوى السياسية الهامة على الساحة الفلسطينية، بما فيها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، فيما الثاني لا يشملها. ولكن الفرق لا ينحصر في ما ذكرت بل يتجاوز ذلك إلى وجود ميثاق وطني ولو كان معدلاً يلتزم به المجلس الوطني الفلسطيني ويشكل أساسا لحركة تحرر وطني، بينما يمكن اعتبار المجلس التشريعي حالة تعددية لا تجمعها أيديولوجية تحرر وطني، رغم أنها تشمل تنوعا أكبر، بما فيها قوى أكثر راديكالية.
 

قلنا إن المجلس التشريعي الفلسطيني جزئي في تعبيره عن الشعب الفلسطيني مقصور على الضفة الغربية وقطاع غزة، لكنه أوسع من المجلس الوطني الفلسطيني في التعبير عن القوى السياسية، في حين أن المجلس التشريعي الفلسطيني هو إطار شمولي من ناحية المناطق الجغرافية بين الشتات والوطن ومحصور من حيث القوى السياسية بالقوى التي أسست منظمة التحرير الفلسطينية. لكن قلنا ان الأهم من ذلك هو أن المجلس الوطني الفلسطيني لم يعبر عن تعددية ديموقراطية بقدر ما اخضع هذه التعددية لأساس إقامة هذا المجلس ألا وهو أيديولوجية التحرير، في حين أن المجلس التشريعي الفلسطيني الذي قام بموجب اتفاقيات أوسلو بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية محصور في هدفه وصلاحياته ومنطق إقامته وغاياته... ومن زاوية النظر الإسرائيلية الحالية ينحصر وظيفيا وبنيويا في إدارة عملية الفصل الديموغرافي. أما تعدديته الداخلية فتحاول ان تكسر هذا السقف وهذا هو بالضبط فخ الانتخابات الفلسطينية بالنسبة للإجماع الإسرائيلي. فمشاركة حماس وغيرها قد تعني بالنسبة لمشجعي هذه المشاركة من بعض الأوروبيين وبالنسبة لبعض الأوساط في الإدارة الأميركية إخضاع حماس وغيرها من فصائل المقاومة لسقف ومنطق وسياق إقامة المجلس التشريعي الفلسطيني، في حين قد تفسرها حركة حماس وتقنع ذاتها وجمهورها أن المشاركة هي في النهاية كسر جدلي (ديالكتيكي) بالحركة، بالصيرورة لسكون اتفاقيات اوسلو وجمودها: الصيرورة ضد البنية، الحركة ضد الكينونة... حفر تحت أساس أوسلو بالمشاركة في مؤسساته.
 

كل شيء يتدفق، كل شيء يتحرك: لا يمكنك أن تقفز في نفس النهر مرتين قال الفيلسوف اليوناني هرقليط. وحماس تقول كل شيء يتدفق كل شيء يتحرك ولا يمكنك ان تشارك في انتخابات المجلس التشريعي مرتين. وانتخابات 2006 ليست كانتخابات 1996، وهذا ليس نفس المجلس التشريعي وهذه ليست نفس الانتخابات، وهذا يتطلب تغيير الموقف. ومع أنه كانت هنالك أسباب وجيهة للمشاركة في حينه أيضا نقول أن معهم حقا في تغيير موقفهم وموقف بقية فصائل المقاومة التي قاطعت في حينه وتشارك الآن. ولكن...
 

نقول "ولكن" لأن للقوى المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي اهدافاً عملية تتجاوز مسألة الجدلية والحركة والتدفق واختراق سقف أوسلو وحقن هذه المؤسسات بدم ومضمون جديدين. وتتلخص الأهداف العملية بضرورة خلق عنوان سياسي شرعي دولياً لحركات المقاومة الفلسطينية بعد 11 أيلول و»حمى مكافحة الإرهاب». وما هو الأكثر شرعية من كتلة برلمانية منتخبة في مجلس تشريعي في إطار اتفاق قام بناء على اتفاق دولي؟
 

وتأسست هذه الحاجة العملية لخلق عنوان سياسي شرعي وعملي ليس فقط على اختلاف مفاهيم الشرعية الدولية بعد 11 ايلول وإنما أيضاً نتيجة لإدراك القوى السياسية الفلسطينية الممانعة أن مركز ثقل الحياة السياسية الفلسطينية قد انتقل إلى الداخل بفعل أوسلو وانتقال قيادة حركة فتح وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية ومنصب الرئاسة الفلسطيني وغيره وتهميش مؤسسات منظمة التحرير الفلسطيني في الخارج. ولا شك ان هذا نتيجة لذاك. ولا يستطيع المشارك في الانتخابات الفلسطينية ان يتجاهل هذا الدافع.
 

نحن نعتقد أن تجاهل هذا الدافع ليس من الواقعية في شيء، وأن المشاركة في الانتخابات التشريعية الفلسطينية مرغوبة ومطلوبة لخلق عنوان سياسي نقيض لأوسلو، وكان هذا رأينا منذ البداية رغم رفضنا لأوسلو.
 

لكن نخشى ان يتضمن هذا الاعتراف بالواقع تسليماً به وتأكيداً على موقف من يعتقدون ان المشاركة في الانتخابات هي عبارة عن عملية احتواء للمقاومة. إذ قد تتضمن الحياة السياسية خيارين من نوع اختيار مقاومة الواقع المفروض أو الاستسلام لموازين القوى، هذه خيارات. وهنالك لحظات سياسية يصح فيها القول انك تستطيع أن تختار واحداً من هذين الخيارين إما... أو. ولكن قرار المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني هو ليس إما... أو، إما المقاومة أو الاحتواء، بل هو ولوج في ساحة عمل مركبة ومعقدة ستغير واقع العمل السياسي الفلسطيني. ويصح أن نقول أنه ولوج لمجتمع سياسي فلسطيني جديد لن يوفر على القوى التي شاركت في الانتخابات مواجهة عملية اتخاذ القرار كل مرة عندما يطرح السؤال. فهي ستواجه هذه الخيارات، هذه ال «إما... أو» عند كل منعطف وعند كل مفصل، من مسألة شروط المساعدات الأجنبية وحتى الاتفاقيات الأمنية مع إسرائيل. وسيكون هنالك فرق بين اتخاذ قرار بمقاومة الاحتلال وجعل المجلس التشريعي الفلسطيني هدفا قائما بذاته، بين تحويله إلى مؤسسة تشكل إطاراً لصراعات النفوذ بين الفصائل المختلفة على العلاقة مع السلطة وتوزيع امتيازاتها أو منصة لتوجيه المطالب للغرب وإسرائيل في قضايا حقوق الإنسان الفلسطيني، نوع من هيئة غير حكومية تناشد وتطالب متوجهة إلى صاحب السيادة الحقيقي في البلد، وبين تحويله إلى منصة لرفض أي مشروع لتنازلات مقابل تسوية غير عادلة بدل أن يكون ختما مطاطيا لها.