بدأت إسرائيل بقصف محطات كهرباء وخط مياه رئيسي في غزة وشوارع تربط أجزاء القطاع، وإذا كان مجتمع المدنيين في غزة هم مصدر الإرهاب، فهذه بنيته التحتية. وليعرف القاصي والداني ماذا تعني "البنية التحتية للإرهاب" في مجموعة أحياء الفقر المسماة قطاع غزة.
إن الاحتلال الإسرائيلي والسياسة الإسرائيلية هي البنية التحتية للإرهاب.
ولا يتم العدوان الإسرائيلي الحالي على القطاع من أجل إنقاذ الجندي الإسرائيلي فالعدوان يجازف بحياة هذا الجندي. وقد سبق أن اعتبرت إسرائيل شدة ردها على عمليات فلسطينية بعد فك الارتباط في غزة جزءاً من الخطة. وسبق أن سربت إسرائيل عبر الإعلام طيلة الأسبوعين الماضيين نبأ إعدادها لعملية واسعة النطاق ردا على قذائف القسام التي لم تصب أحدا في بلدة سديروت الجنوبية وغيرها. وكان من المثير للأعصاب رؤية نتائج الغارات الإسرائيلية الدموية على القطاع، وتوقع الإعلام العربي لعدوان إسرائيلي أوسع بعد كل عملية بدل توقع رد فلسطيني. كانت أسابيع المجازر تلك مؤلمة وكانت التعليقات عبثية إلى أن قطعت عملية الأنفاق قول كل خطيب.
وتعتبر إسرائيل سلوكها الحالي مبررا دوليا بسبب فك الارتباط، فهي تعتبر نفسها غير موجودة في القطاع، ومع ذلك تهاجم من داخله. والنموذج الإسرائيلي الذي بلورته إسرائيل لقطاع غزة، وتعده حاليا لقطاعات الضفة هو نموذج الفلسطينيين المتزاحمين وراء الجدران، تحرسهم قوات أمنية في الداخل وجيشها من الخارج. وترد هي باجتياح سريع وصارم ومبرر لمعسكر الاعتقال هذا بعد كل عملية تصدر عنه كي تذكر إسرائيل أن مشاكل الفلسطينيين لم تحل بالخروج من المناطق المكتظة بالسكان وتحويلها إلى سجن. فأي عملية من داخله تعتبر غريبة ومستغربة خاصة وأن إسرائيل "تحررت" من الإشراف المباشر على السجن.
لقد تم التواطؤ الدولي والعربي مع هذا النموذج بتفسير فك الارتباط وكأنه انسحاب إلى الحدود الدولية، وكأن غزة هي منطقة محتلة قائمة بذاتها وانتهى احتلالها بفك الارتباط، وكأنها ليست جزءاً من الأراضي المحتلة عام 1967. ولذلك ساهم جميع المحتفلين بفك الارتباط في تهيئة الذرائع الإسرائيلية لشن أي عدوان.
ولذلك عندما نقول إن الرد الإسرائيلي العدواني على قطاع غزة لا يتناسب مع حجم عملية المقاومة الجريئة التي نفذت يوم الاثنين ضد الإرهاب الإسرائيلي، فإن ذلك لا يعود إلى أهمية الجندي الإسرائيلي الأسير، كما تدعي إسرائيل ويردد بعض العرب كالببغاوات، بل بسبب هذا النموذج الإسرائيلي المسمى فك الارتباط والذي أعد له دوليا. فالرد الإسرائيلي العنيف على كل ما يبدر من المناطق التي تم "الانسحاب" هو جزء من الصفقة التي صفقوا لها!
وثانيا، ليس الموضوع تفوق قيمة الإنسان الإسرائيلي بقدر ما هي التفوق الإسرائيلي ذاته، الذي يجلب معه وهم تفوق قيمة الإنسان، والذي يرد بشدة مبررة والحالة هذه، على كل ما يعتبره سابقة لا يريدها أن تتكرر. وسبق أن قلنا أنه وخلافا لما يعتقد عادة ترى إسرائيل خطورة أكبر في الهجوم على العسكريين من العمليات التي تستهدف المدنيين، وهي ترد عليها بشدة، ولا تريدها أن تتحول إلى سوابق فتتفاقم، وهي تعلق أهمية كبرى على نوع ردها وعلى كيفية التعامل العربي معه. ربما كان الموضوع إذا تفوق قيمة الجندي على قيمة الإنسان. ولا نريد أن نسهب هنا في المقالة لئلا ننزلق إلى تعقيد الموضوع.
فإسرائيل تعلم انه إذا تحولت مواجهة الجيش إلى نهج فسوف تؤثر على وحدة المجتمع الإسرائيلي الذي يوحده المس بالمدنيين مؤكدا نظرية ألـ"لا مفر" والـ"لا مخرج": "فهم يستهدفون اليهود كيهود"، و"لا مناص من المواجهة"، و"الحرب ليست اختيارية". في حين أن مواجهة العسكريين هي مواجهة لسياسة الاحتلال، ولمن يجسد هذه السياسة. والسياسة اختيارية بالنسبة لدولة خلافا لركوب الحافلة أو دخول مطعم. والجندي الذي يقتل لا يقتل غيلة مثل مدني قتل في تفجير في مطعم، بل "يسقط في ساعة أدائه للواجب"، هكذا تصفه لغة الجيش الإسرائيلي نفسه. كما تعلم المؤسسة الصهيونية أن الجيش والأمن والأسطورة العسكرية هي أسس مصداقية الصهيونية وهيبتها كحل تاريخي. ولا شك أن لمواجهة العسكريين أثرها المعنوي أيضا في رؤية صورة الواقع تحت الاحتلال كند وكجريء ومخطط وصاحب أجندة يختار أسلوب المواجهة، وليس مجرد متسلل يضع متفجرات في سوق أو استشهادي يضحى به لغرض المس بأكبر عدد من المدنيين. هكذا صنعت الصورة، وهم يخشون من اهتزاز هذا التصور المرسوم بعناية للآخر الفلسطيني بحيث يتحول إلى طرف شرعي في صراع تحرري.
لا يعرف الإسرائيليون إذا كانت عملية المقاومة الفلسطينية الأخيرة تشكل منعطفا أم لا، وهي بالتأكيد لا تريدها أن تشكل منعطفا في نهج المقاومة. وفيما عدا القمع الإسرائيلي الموجه لقمع المقاومة وضربها وتكليف المجتمع الفلسطيني ثمنا باهظا لها، فإن العائق الرئيسي أمام تحول عملية المقاومة إلى منعطف هو التعددية غير المحتملة للجهات التي تنفذ وتخطط وتنطق فلسطينيا، ناهيك عن عدم وحدة قيادة المقاومة خلف قيادة سياسية واحدة، بحيث يصعب الحديث عن منعطف إلى نهج جديد. فالنهج هو مثابرة ووحدة في التوجه إلى الوسائل التي تقود نحو الأهداف، ولا يوجد نهج دون قيادة موحدة تصر عليه ودون أجندة موحدة تفرض وحدة. فالمقاومة ليست عملية واحدة صائبة، ولا هي مجموعة عمليات. بل هي مشروع ونهج وتوقيت يحكم عمليات المقاومة إضافة إلى صفات الإبداع والجرأة والإقدام التي لا بديل لها في الكلام مهما كان ذكيا وحكيما. وأحيانا تكون علمية مقاومة صائبة ومبررة أخلاقيا ولكنها خاطئة سياسيا لأنها لا تخدم أجندة أو مشروع مقاومة يسعى لتحقيق هدف. ولكي تشكل العملية الأخيرة منعطفا فعلا لا بد من حسم هذه القضايا.
من ناحية أخرى، يفترض أن يرسم التعامل العربي والدولي خطا فارقا بين عملية الأنفاق ضد الموقع العسكري الإسرائيلي وغيرها من العمليات التي تستهدف المدنيين معاكسا للتمييز الإسرائيلي. ولكن دوليا وعربيا تكرس على المستوى الرسمي قلب تام للمفاهيم بشأن القضية الفلسطينية وإسرائيل، شهدنا بوادره على جرعات في العامين الأخيرين.
فقد تم التعامل مع الجندي الإسرائيلي كأنه رهينة مختطفة، ومع الموقع العسكري الإسرائيلي كأنه مقهى "طنطات" (عمات) وادع، ومع الدبابة كأنها حافلة تقل مدنيين. وتنافس العرب والغرب في توجيه "النداءات للمختطفين" لإطلاق سراح الجندي، ولم توجه نداءات جدية إلى إسرائيل للتعامل مع مطالب من يحتجزه للإفراج عن النساء والصبية الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية. وهذا بمثابة إعلان عن تبن دولي للادعاءات والدعاية الإسرائيلية.
لا يجوز هنا التراجع، لا يجوز استرخاص الألم الفلسطيني والعربي إلى هذا الحد، ولا يجوز التقليل من شأن البطولة إلى هذه الدرجة، بل يجب الإصرار على الفرق بين المقاومة الفلسطينية والإرهاب الإسرائيلي في هذه الحالة.
لقد اختار من اختار أن يرد على قتل المدنيين الفلسطينيين بمهاجمة موقع عسكري إسرائيلي. اختار الخيار الصعب، واختار المركب الوعر. ويفترض أن من لم يتكلف ركوب هذا المركب، ولا تقديم هذه التضحية ولا عناء هذه الجرأة ولا خفقات تلك القلوب الزاحفة في الظلمة تحت الأرض أن تخفف العملية الفلسطينية على الأقل من حرجه في مسألة الإرهاب، وهو الرقيق الحساس إلا تجاه آلام شعبه. فهي ليست عملية إرهابية بأي معيار. ويجب تحذير إسرائيل والولايات المتحدة من مغبة التعامل معها على هذا الأساس، ويجب رفض التساوق مع اعتبار دمشق مثلا مركزا لها، كما في كاريكاتير إسرائيلي سخيف ومرفوض ومردود على أصحابه عن التعامل الأميركي مع بن لادن ومكان تواجده بعد 11 أيلول.
ولكن عند مراقبة ما يجري على الساحة الفلسطينية والعربية تلح على البال فكرة، لا يجرؤ الناس على نصها وصياغتها لكي لا يتحملوا تبعة النتائج: مهما طرحت من أفكار ومخارج وتحليلات للسلوك الإسرائيلي، لا علاج ولا بديل للنوايا الحسنة.
وهذه الأخيرة لا تخفى لفترة طويلة، وإن لم يكشف عنها السلوك فسوف يفضحها المزاج والتوجه والنفسية.
يقال في السياسة أن النوايا غير مهمة، المهم هو الأفعال ونتائجها. وهذا القول يندرج ضمن مدرسة مجموعة اقتباسات تبدو حكيمة ولا تحسب حسابا إلا للنتائج. ولكن ليس هنالك أكثر مخادعة، وأكثر غباء في الوقت ذاته من هذه المقولة. فالنوايا هي كلمة أخرى للغايات مأخوذة من منطلقاتها. والغايات تحدد أفعال العاقلين إلى درجة كبيرة. لا معنى إذا للتصريح بأن النوايا غير مهمة.
النوايا غير مهمة إذا كانت نتائج الأفعال تتناقض مع النوايا، أو مخالفة لها لأسباب خارجة عن إرادة الأفراد، أو إذا كانت المصالح تقضي بإخفاء النوايا، ولكنها في هذه الحالة الأخيرة لا تلبث أن تفضح النوايا بعد تحقيق المصالح.
وغالبا ما تفصح النوايا عن ذاتها في مزاج يصعب إخفاؤه.
معانقة أولمرت، في ظل مذبحة جارية في غزة، وفي ظل إصراره أن المذبحة سوف تستمر، هي تعبير عن مزاج. نحن نتحدث عن دولة يلغي زعماؤها ووزراؤها زيارات في حالة مقتل أحد مواطنيهم كنتيجة للصراع. وللتذكير لم يعقد اجتماع مع أولمرت مبررا بمنطق التسوية، أو للبحث في قضايا تشمل سلوك إسرائيل في غزة، بل كانت مناسبة اللقاء احتفالية وغير رسمية حتى لو تمت دون عناق. فاللقاء بموجب هذا المزاج، أي قبول أولمرت اللقاء هو انجاز.
والخلفية مجموعة من النرجسيين حملة جائزة نوبل للسلام، لم يقدموا للإنسانية خدمة واحدة، لا اكتشفوا الأنسولين ولا اخترعوا الأسبرين ولا أنتجوا أدبا راقيا، ولم يصنعوا سلاما في أي مكان، ومنهم من سبب حروبا، مشغولين بأنفسهم، وبصناعة وصقل وتلميع صورتهم، وعلى رأسهم في حالة المنتدى عنصري نرجسي حوَّل كارثة إنسانية حقيقية ومحرقة لملايين اليهود في أوروبا إلى دكان بيع الكراهية للعرب إسمه إيلي فيزل، وآخرهم أنجز للإنسانية بدء سباق التسلح النووي في المنطقة ،وعدة مذابح أشهرها قانا اللبنانية وهو شمعون بيرس. وهو الذي يقود حاليا الحملة ضد دمشق بعد العملية ويقرع طبول حرب جديدة.
مؤخرا تم قبول إسرائيل عضوا في الصليب الأحمر بعد ستين عاما من المقاطعة وفقط بضوء أخضر فلسطيني، مقابل اعتراف إسرائيلي بالهلال الأحمر الفلسطيني. ومؤخرا حاول اتحاد العمال الكندي بدء حملة مقاطعة إسرائيل فواجه معارضة فلسطينية، ما لبثت أن تراجعت والحمد لله.
لماذا تكافأ إسرائيل على مجازرها وعلى تعنتها السياسي؟
لا يهم إسرائيل نوع الجواب على هذا السؤال، وهي لا تنتظره لكي تستغل هذه المكافآت لكي تمعن في سياستها القمعية في ظل صمت دولي يصل حد التشجيع. كيف يمكن التعامل مع العدوان الإسرائيلي الحالي دوليا، ومع قادته كمجرمين في ظل هذا السلوك العربي؟ ولكي لا ينتصر الانقلاب الجاري في المفاهيم لا بد أن تقول القوى الديمقراطية والمجتمعات العربية كلمتها في هذه المرحلة.