وجهت سبعون شخصية إسرائيلية رسالة مفتوحة إلى أولمرت تطالبه بطرق كل باب للتفاوض، بما في ذلك مع سوريا والحكومة الفلسطينية (حماس)، للخروج من المأزق الحالي الذي قد يؤدي إلى حرب أخرى. تأتي هذه الرسالة كتحرك إسرائيلي أولي لنقد الحكومة الإسرائيلية ولاستخلاص نتائج الحرب من طرف إسرائيلي كان مؤيدا للحرب، غير اليمين المتطرف. وهي تشبه في صياغتها رسالة ضباط الاحتياط إلى مناحيم بيغين عام 77 التي طالبته بعدم تفويت فرصة السلام مع مصر بعد زيارة السادات. في حينه تبلورت عن موقّعي تلك الرسالة حركة سميت في ما بعد حركة "السلام الآن". وقد عبرت هذه الحركة عن ثلاثة استنتاجات واضحة ومستترة لدى الرأي العام الإسرائيلي في أعقاب حرب 1973:
- أولا: إن عصر الانتصارات الإسرائيلية في الشكل الذي تم عام 67 قد ولى، وان إسرائيل لن تخوض في المستقبل حروباً بهذه السهولة. ولكن من ناحية أخرى بالإمكان تحقيق انجازات عسكرية تكتيكية مؤقتة ضد العرب تحتاج إسرائيل إلى دفع ثمن باهظ للحفاظ عليها، والسؤال هو درجة الاستعداد لدفع هذا الثمن في مقابل استعداد العرب. من الناحية العربية يعني هذا إمكانية تحقيق إنجازات عسكرية ضد إسرائيل حتى لو جاءت من دون هزيمتها بشكل كامل بحيث تضطر إلى تقديم تنازلات في تسوية.
- ثانياً: إن إخراج مصر، الدولة العربية الكبرى، من ساحة المواجهة يستحق إعادة سيناء كلها إلى مصر.
- ثالثاً: انه لا يجوز تفويت فرصة اتفاقيات السلام المنفرد التي سنحت مع زيارة السادات، فهي الوحيدة القادرة على كسر مقولة "الصراع العربي الإسرائيلي" وتفتيتها إلى ما سمي "مسارات" تفاوضية.
وفعلاً لم تشبه أي من حروب إسرائيل التي تلت حرب 73 واصطدمت جميعها بمقاومة وليس بجيوش نظامية، حرب الأيام الستة. كانت حرب الأيام الستة هي النزهة الأولى والأخيرة لإسرائيل، ولكن جيلا عربيا بأكمله يرفض التحرر من أسر تلك الهزيمة النكراء.
وكان من أولى نتائج السلام المنفرد مع مصر أن إسرائيل لن تعتبر هذا الاتفاق نموذجاً للتطبيق على الجبهات كافة، وإنما استغلت خروج الدولة العربية الكبرى من ساحة المواجهة لتقنع نفسها أنه لم يعد ثمة سبب لدفع الثمن نفسه على جبهات أخرى، أصبحت أضعف بطبيعة الحال، بسبب هذا الصلح المنفرد ذاته، الذي يمنع دولا عربية أخرى من شن حروب منفردة على إسرائيل. وهذا هو الوجه الآخر للسلام المنفرد. وحتى عندما كانت القيادة الإسرائيلية مستعدة لدفع هذا الثمن، كان واضحاً لها أن رأيها العام ليس مستعداً بالدرجة ذاتها، ولا يرى الحاجة إلى ذلك. وكانت نتيجة كامب ديفيد المباشرة محاولة تصفية م.ت.ف بالقوة عبر حرب لبنان 1982، ثم وصلت الوقاحة بإسرائيل حد ضم الجولان بقانون سن في الكنيست في خطوة استفزازية. وللتذكير، لم يمنع سن القانون إسرائيل في ما بعد من التفاوض مع سوريا على سلام بثمن إعادة الجولان، ولذلك فإن تصريحات أولمرت الحالية عن بقاء الجولان جزء من إسرائيل طالما بقي هو رئيس حكومة لا تترك انطباعا خاصا. وكان الأجدر به أن يقول: "طالما بقي بوش رئيسا للولايات المتحدة".
لم تهدف فكرة التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل إلى استعادة الجولان بسلام منفرد. ولكن بعد التحول السوري عن فكرة التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، ومعها النظام العربي القديم في حرب الخليج الثانية (حرب الكويت)، وبعد اتفاقيات أوسلو كان واضحاً للقيادات الإسرائيلية المتعاقبة أن ثمن السلام مع سوريا هو عودة الأراضي التي احتلتها عام 67 كاملة غير منقوصة، ومن دون تفاوض ذي طابع عقاري.
لم يطرح الجولان للتفاوض بتاتا خلافا لما هو معتقد، لا قبل ولا بعد اتفاقيات أوسلو، بل طرحت قضايا مثل توقيت الانسحاب من الجولان وعلاقته بالعلاقات الثنائية، نوع العلاقات، نزع السلاح على جانبي الحدود... ولم توافق سوريا على طرح رابين للتوازي بين عمق العلاقات وعمق الانسحاب من ناحية بحيث يتم تدريجيا، كما لم تتبع الأسلوب الساداتي الدرامي، ولم تسلب لب الرأي العام الإسرائيلي باندفاع ينم عن تغير أيديولوجي ما. كما أنها لم تكن في الطرف المهزوم بعد حرب الخليج الثانية وازداد نفوذها الاستراتيجي بعد خروج أميركا وفرنسا من لبنان بعد عام 1984 ومع تصاعد قوة المقاومة اللبنانية. ولكن بعد أن أودع رابين موافقته على إعادة الجولان كاملا مقابل السلام مع سوريا، اختار رابين، بتأثير من لوبي شمعون بيرس في حزب العمل والمسارات التي فتحها في أوسلو، الصفقة التاريخية التي بدت له أسهل من عودة الجولان كاملا إلى سوريا، وتشمل اعترافا فلسطينيا بإسرائيل في لحظة ضعف م.ت.ف. وعندما عاد باراك عام 1999 إلى المسار نفسه بعد مرحلة نتانياهو تراجع في اللحظة الأخيرة، ولم يجد هذه المرة اتفاقاً فلسطينياً يعوض هذه الخسارة فانهارت المفاوضات على كافة المسارات.
كانت النتيجة هي بدء فكرة الانسحاب من طرف واحد في لبنان تحت وطأة ضربات المقاومة ثم غزة. وانتهت إلى العودة إلى اجتياح غزة والحرب على لبنان. في هذه الأثناء كان كل تذكير سوري بالمواقف، ولو كإجابة على سؤال، يفسَّر على أنه مبادرة سورية للسلام مع إسرائيل من طرف واحد ناجمة عن ضعف النظام السوري بعد وفاة حافظ الأسد، وبعد 11 أيلول بشكل خاص. وعندما تذكّر سوريا الرأي العام بأنها لا تدعو لعودة إلى المفاوضات من نقطة الصفر، بل لمواصلتها من حيث انتهت، يعتبر الأمر شرطا سورياًً للتفاوض.
وفي هذه الأثناء تبنت الإدارة الأميركية سياسة التدخل العسكري المباشر في أفغانستان والعراق، وحولت الحرب ضد الإرهاب إلى عقيدة سياسية عسكرية كونية، وأخضعت التعامل مع سوريا إلى ضرورات حربها الكونية هذه، وباتت تعتبر التفاوض على الجولان ولبنان نوعاً من "تسهيل ظروف المعيشة" لسوريا، أو مبادرة حسن نية مشروطة بقبول سوريا إملاءات أميركية متعلقة بسياساتها في العراق ولبنان وفلسطين.
وكان هذا يعني مصادرة ملف المفاوضات مع سوريا من أيدي إسرائيل لأول مرة منذ أن انطلقت، وتحول الصراع العربي الإسرائيلي إلى صراع فلسطيني لبناني سوري من جهة وإسرائيلي من جهة أخرى، وكأنما يجري البت فيه في دائرة واحدة مفترضة في الخارجية أو البنتاجون أو البيت الأبيض هي "دائرة مكافحة الإرهاب".
وجرت محاولات متكررة لتفتيت هذا الصراع المتبقي من جديد، ولكن مشكلة إسرائيل لم تكن هذه المرة محاولات سوريا السيطرة على القرار الفلسطيني، بل عدم استعدادها هي لتقديم تنازلات ترضي أنصار التسوية فلسطينيا، واستمرار التعامل الإسرائيلي مع لبنان من طرف واحد، واستمرار المقاومة اللبنانية ليس فقط في المعركة لتحرير مزارع شبعا والتصدي للخروقات الإسرائيلية اليومية للسيادة اللبنانية، بل في رفض الخيار الإسرائيلي للبنان، مما يدفعها إلى تجاوز منطق التسوية برمته- حتى السوري منه.
كان بالإمكان مقارنة رسالة سبعين مثقفا وضابط احتياط إسرائيلي إلى الحكومة الإسرائيلية، وتصريح وزيرة التربية والتعليم عن ضرورة إجراء اتصالات مع سوريا ( يوم 25/9/06 موقع يديعوت أحرونوت الالكتروني) "رغم الحظر الأميركي"، على حد تعبير الوزيرة، مع الرسالة التي أدت إلى نشوء حركة "السلام الآن". ولكن السياق التاريخي مختلف تماما. في حينه كان صراع القطبين يدفع الولايات المتحدة إلى كسب مصر إلى جانبها، ومارست إدارة كارتر ضغطا يوازي ضغط الرأي العام الإسرائيلي إلى نفس العنوان، إلى القيادة التاريخية لليمين الإسرائيلي لكي تفهم أهمية السلام الإسرائيلي المصري، والتغيير الذي يتركه على خارطة المنطقة الجيو-استراتيجية، وربما حتى على الصراع العالمي برمته. أما في حالة هذه الرسالة ففقط المنطلق المحلي هو ذاته. وهذا يعني أن هنالك فئات في المجتمع الإسرائيلي تدرك أن جذور الفشل الذي حصل في لبنان ضاربة في تفويت فرصة السلام مع سوريا في الأعوام 99-2000، وان الحل الوحيد هو التفاوض مع سوريا على هذا المسار. كانت هذه هي القوى التي دعت إلى الانتصار في الحرب على المقاومة. وهي تحاول أن تميز نفسها حاليا ضمن نفس الائتلاف الحاكم. وإذا كان استنتاج اليمين هو الاستعداد بشكل أفضل للحرب المقبلة التي سوف يخوضها ليبرمان ويعالون ونتتياهو كما يعدون، فإن استنتاج هذه القوى هو العودة إلى المفاوضات.
الفرق أن الولايات المتحدة هذه المرة تضغط في اتجاه معاكس لضغط هؤلاء، وان الوضع العربي كان يرفض فكرة السلام المنفرد، ويطالب في مرحلة كامب ديفيد المصري بأكثر مما طالبت به مصر في خطاب السادات في الكنيست، يفعل العكس حاليا إذ يجمّل الصورة لإسرائيل ويوهمها انه بالإمكان التوصل إلى تسوية وإرضاء العرب بأقل مما تطالب به سوريا، خاصة وان خيار الحرب غير مطروح. وهي الحالة العربية نفسها التي تساهم في محاصرة الحكومة الفلسطينية المنتخبة من دون ذنب اقترفته سوى أنها انتخبت بطريقة ديمقراطية، وتحاول أن تفرض عليها شروطا مثل الالتزام بمبادرات واتفاقيات ترفضها إسرائيل، وهي نفس الحالة العربية التي تعتبر نصر المقاومة في لبنان هزيمة لها. من الصعب إدراك عمق هذا التحول حتى بالنسبة للشخصيات الإسرائيلية السبعين التي وقعت على العريضة.
ولا اعتقد أن الشخصيات التي وقعت على العريضة، نتيجة تشابه بنيوي محلي بين نتائج حرب أكتوبر ونتائج حرب لبنان، تدرك عمق هذا التحول الذي يجري الآن تنفيذه عربيا بمحاصرة حكومة فلسطينية منتخبة، وبتقزيم انتصار المقاومة اللبنانية وشعور البعض أن انتصارها هزيمة له. ومع ذلك سيكون لهذا التحرك الإسرائيلي تأثير آخر في مكان آخر لا بد أن يفاجئ من يعتمد على الولايات المتحدة من دون أن يعرفها. واقصد تأثير بداية الصحوة في حلبة الصراع القادمة وهي الحلبة السياسية الأميركية التي ستحسم في العامين القادمين فشل سياسة بوش الخارجية برمتها بعد أن حسمت عملياً مسألة فشل سياسة المحافظين الجدد في إدارتهم.
سوف يكون مهما أن يسمع الرأي العام الأميركي مواقف ضباط احتياط وكتاب إسرائيليين يدعون عملياً أن الاستقرار والسلام بلغتهم، وهي نفس اللغة الأميركية، لا ينجزان بالرهان على الحروب الأهلية في دول ومناطق تقع على حدود إسرائيل، وان محاولة إعادة تفصيل المنطقة على مقاس إسرائيل بحيث تفتت دولها وتبقى هي موحدة، هي مجازفات خطيرة، هذا بلغتهم، وانه لا بد من طرق باب الحوار مع خصوم "عربهم" وسياستهم.
ربما لا تريد الأم الأميركية أو الإسرائيلية أن ترسل ابنها للموت ضد عرب ومن أجل عرب آخرين لا يريدون أن يحاربوا، ولا يدعى أحد حتى أنهم يريدون بناء الديمقراطية، وللأخيرة كما هو معلوم صرح عظيم في العراق. فظيع أن نتكلم هكذا، ولكن لم يطرح السؤال بهذا الشكل الفظيع والمؤسف على الأم الإسرائيلية أو الأميركية. سوف يكون على الرأي العام الأميركي والإسرائيلي التحرر من نصائح بعض العرب...أين وصلنا؟!
في ظل هذا التطور للتحرر من كوارث سياسة المحافظين الجدد، ومن بلير ومن الإدارة الأميركية الحالية، وفي ظل هذه التصريحات الإسرائيلية المشابهة لما بعد حرب أكتوبر 1973، وبعد الانتخابات في إسبانيا وإيطاليا ضد التورط العسكري في العراق، يصبح أي تواطؤ عربي مع الولايات المتحدة وإسرائيل للاستمرار في محاصرة نهج المقاومة في فلسطين ولبنان وفي فتح مسار لمبادرات جديدة تتضمن أقل من الحقوق الفلسطينية والسورية واللبنانية معرقلاً حتى لتحركات إسرائيلية من هذا النوع. وهي لن تؤثر على قرار الحكومة الإسرائيلية، ولكن لديها فرصة أكبر للتأثير في عقلنة الرأي العام الأميركي حتى من منطلق ما يعتبرونه مصلحة إسرائيلية.