بحسب منطق وزارتي الخارجية الأميركية والإسرائيلية (حسب صحيفة «هآرتس» في 18 آذار/ مارس) فإن مبادرة السلام العربية هي عبارة عن موقف عربي غير ملزم. وبما أنه غير ملزم فهو يستحق التشجيع من جهة والتعديل من جهة أخرى. منطلق التشجيع نفسه إذاً هو ما يفقدها تميزها كمبادرة سلام.
ولا ترغب الحكومة الاسرائيلية أن تدرك أن التاريخ بدأ قبل الانتخابات الأخيرة في بلدها. وبعد فشل السياسة الأميركية من مدرسة المحافظين الجدد عربيا، وبعد ضياع خريطة الطريق في متاهة لا تتوفر خريطة طريق لتخرجها منها، أصبحت المرونة الأميركية - الإسرائيلية الجديدة تقضي بأن مبادرة السلام العربية هي ببساطة موقف عربي، وهو موقف غير ناجز. هكذا وجدوه.
وربما يجب أن تحصل مبادرة جديدة كي تستحق هذه التسمية في نظر الاسرائيليين. وربما أفضل ما يمكن أن يحصل هو أن يتقدم العرب بمبادرة إرضائية لمبعوثين أميركيين جدد كل ثلاث إلى أربع سنوات تعدل بموجبها «المواقف» التي كانت في الماضي مبادرات سلام عن طريق طرح مبادرات جديدة. وهكذا خلال عشرين عاما، وفي غضون ولاية أربع أو خمس حكومات أميركية وإسرائيلية، سيوافق العرب على ضم جزء كبير مما احتل عام 1967، وسوف يشعرون بالامتنان أن إسرائيل لا تطالبهم بالاعتراف ليس بإسرائيل «حاف»، بل بإسرائيل كدولة يهودية وديموقراطية، أي ببند (7 أ) من قانون أساس الكنيست الذي يخول قائمة بخوض الانتخابات للبرلمان الاسرائيلي، كشرط لاعتراف إسرائيل بهم، وليس اعترافهم هم بإسرائيل. وسوف يوجد بين العرب من يحاجج أنه «من الأفضل أن نقبل بما هو مقترح قبل أن نضطر لقبول ما هو أسوأ».
هذا هو مصير مبادرة السلام إذا جاءت ضمن ديناميكية ضعف. فهي تعني، إن لم ترافقها القدرة على فرضها نتيجة الانتصار، أو نتيجة تغير طرأ على موازين القوى، بالنسبة الى الطرف الذي يرى نفسه كخصم على الأقل، تنازلاً أو تراجعاً في موقف صاحب المبادرة. ولذلك فإن من يتقدم بمبادرة سلام هو إما طرف محايد يرغب بالتوسط بمبادرة يحافظ إزاءها كل طرف على موقفه إلى أن يتفقا، أو طرف منتصر كجزء من ترجمة انتصاره سياسيا، أو طرف قادر على فرضها. أما من يتقدم بها نظريا، فلا بد أن تفسر كتغير في الموقف يفتح الشهية لتغيرات أخرى. فالحياة الواقعية ليست لعبة سيناريوهات ممكنة في مركز أبحاث يعتاش على الحوار بين العرب والإسرائيليين.
أما إذا جاءت المبادرة لإرضاء أو تهدئة روع الخصم وحلفائه ففي مثل هذه الحالة يستمد منطق المبادرة العربية ومن ينصحون بمثل هذه المبادرات عادة من «أصدقاء العرب» ومستشاريهم «الراغبين بمصلحتهم» من اليسار الصهيوني (الأميركي أو الإسرائيلي). وبموجبه فإن إسرائيل غير معارضة لحل عادل، بل هي ببساطة خائفة من أن يدمرها العرب، ويلقوا بسكانها في البحر. والإسرائيليون ليسوا عنصريين بل قلقون. ولذلك تكمن المهمة في تهدئة روعهم بإرضائهم. ومع أن التعارف سنّة إلا أنه لا حاجة للتعارف، ويبدو لنا أنه سبق أن قابلنا هذا الخوف نفسه. إنه نفسه الذي أدى إلى رمي الفلسطينيين في الصحارى، وإلى إلقاء القنابل العنقودية على قرى الجنوب والبقاع وجبل عامل. خوف مخيف فعلا. وطبعا جاء الآن دور الخوف الإسرائيلي المفهوم من حق العودة، يتلوه الخوف الإسرائيلي من إعادة القدس، أو الانسحاب إلى خطوط الرابع من حزيران، وقد يلي ذلك الخوف على الوحدة الوطنية الإسرائيلية من التصدع. ويهرع بعض العرب لتهدئة روع إسرائيل. وهذا ما طالبت به الخارجية الإسرائيلية في مؤتمر «إيباك» أخيراً، إذ وجهت الوزيرة المعتدلة شكلاً تسيبي ليفني كلاما للعرب يخجل أن يقوله حتى نتانياهو: أن تبدأ الدول العربية بالتطبيع مع إسرائيل لتهدئة المخاوف والطمأنة ثم تنتظر تغيرا إسرائيليا تدريجيا... وربما في النهاية تعترف إسرائيل مثلا بحكومة الوحدة الوطنية، أو بالعرب مثلا. فهلموا إلى المبادرة، إلى التغيير في المبادرة، أين راحت روح المبادرة؟
انقلب المنطق نتيجة هذه الاجتهادات العربية المتنافسة منذ المبادرة مرورا بخريطة الطريق وصولا الى اعتبار شارون رجل سلام رغما عن أنفه، وإجباره أن يستمع مبتسما باسما في شرم الشيخ إلى تفسير عربي يعتبر خطته في فك الارتباط مع غزة رغما عنه تطبيقا لخريطة الطريق.
وحتى مبادرة السلام العربية وجدت من ينافسها في روح المبادرة، وهي قيمة إيجابية عموما، خصوصاً في المجتمعات الرأسمالية، وهي مشتقة من بادر يبادر، وهو فعل مضاد للخمول والجمود وغيرها من صفات قلة المبادرة التي يُتهم بها الشرقيون. روح المبادرة هذه قائمة لا تحتاج إلى تشجيع خصوصاً إذا كانت المبادرة إلى إرضاء الأميركيين، بتخفيض سقف مبادرة السلام العربية إلى خريطة طريق مثلا.
يفترض أن الموقف العربي، خلافا لموقف الدول العربية التي لديها علاقات سلام مع إسرائيل، لا يعترف بإسرائيل ويعتبر القضية الفلسطينية قضية اللاجئين وكل فلسطين منذ العام 1948، أما قرارات مجلس الأمن التي يوافق عليها العرب فهي قرارات دولية. وهي تفرض على إسرائيل الانسحاب إلى حدود 1967 من دون أن يفرض ذلك موافقة عربية على اتفاقيات سلام معها. أما مبادرة السلام العربية فهي مبادرة للتوصل إلى تسوية بين الموقف العربي والموقف الإسرائيلي. فإذا رفضتها إسرائيل يفترض العودة إلى الموقف العربي الأصلي، وليس تحويل المبادرة إلى موقف عربي جديد ينتظر مبادرة سلام تجسر بينه وبين الموقف الإسرائيلي.
وما دامت إسرائيل قد رفضت مبادرة السلام العربية حتى كأساس للتفاوض، وتعتبرها مجرد موقف عربي تنتقي منه انتقاء ما يستحق الإطراء، فعلى الرسميين العرب أن يكرروا موقفهم الأصلي كبديل لقبول المبادرة، وليس تعديل مبادرتهم، أو أن تتقدم إسرائيل من جانبها بمبادرات سلام. أما وقد قُبلت المبادرة العربية بالإجماع، فما تنتظره هو موافقة إسرائيلية، وليس إعادة بحث عربية. هذا هو الأصل.
وإذا كانت إسرائيل خائفة وتسعى إلى اعتراف عربي وأمن وأمان وغيره فلا بد أن السلام مصلحة إسرائيلية أساسا. فلتتقدم إسرائيل إذا بمبادرات سلام، وليعدها العرب أنه كلما تقدمت بمبادرة سوف يعتبرونها خطوة إيجابية تحتاج إلى تشجيع وأنهم سوف يردفون هذه العبارة بأنه ينبغي أن تبذل المزيد من الجهد لطمأنتهم. ولدى إسرائيل ساحات اختبار عديدة لا تحصى تستطيع أن تثبت فيها حسن نياتها: أن تتوقف مثلا عن الاستيطان، وأن تزيل المستوطنات التي وعدت بإزالتها، وأن تتوقف عن الاغتيالات، وأن تلتزم بقرار محكمة لاهاي بشأن الجدار، وأن تعلن نيتها الانسحاب إلى حدود عام 1967 مقابل السلام، وان تلغي قوانين ضم الجولان والقدس... هذه كلها خطوات مشجعة قد تطمئن العرب أن لدى اسرائيل فعلاً رغبة في السلام.
هكذا يكون منطق الدول، فقط إذا كانت دولاً ذات سيادة، وذلك بغض النظر عن تقسيمات الاعتدال والتطرف.
وبهذا المنطق نفسه ليس هنالك ما يتم التفاوض بشأنه بين استعمار وشعب واقع تحت الاحتلال. وإذا جرى تفاوض، فمجرد أن يجري التفاوض قبل إعلان دولة الاحتلال الاستعداد للانسحاب الكامل والاعتراف بحق تقرير المصير يفقد الشعب الواقع تحت الاحتلال هذه الصفة ويصبح «طرفا» في مفاوضات غير متكافئة «بين طرفين». ولذلك تعلن حركات التحرر أنها تقاوم، ولا تفاوض دولة الاحتلال، وأنها تعيش بموجب قدرتها على الملاءمة بين العيش والمقاومة إلى أن تعلن دولة الاحتلال عن استعدادها لتصفية الاحتلال، وعندها يصبح بالإمكان التفاوض حول كيفية التنفيذ.
في فلسطين أصبح حلم حركة التحرر هو أن يعترف الاحتلال بها. وما أن حققت هذا الحلم حتى تحولت إلى طرف بين طرفين، أحدهما افتراضي، وبعثرتها هذه اللعبة بين كيان سياسي افتراضي يفتقر الى السيادة وشظايا وبقايا حركة تحرر.
وعندما أتيحت فرصة الانتخابات انتخبت حكومة فلسطينية ترفض هذا النموذج، ولكنها لا تمنع من ممارسة الحكم لأسباب انتخابها نفسها، أي لأنها حركة مقاومة تحت احتلال. وهي تعارض التفاوض، ولكنها لكي تتمكن من الحكم انتدبت للتفاوض من تعارض خطه السياسي ممن بعثروا حركة التحرر وتزعموا الكيان الافتراضي، من دون أن تجد آلية فعلية تلزمه فعلاً. لا هي فاوضت، ولا حولت رفض التفاوض إلى موقف ملزم. سمحت بالتفاوض ولم تضمن ألا يتم التفاوض على حساب الثوابت الوطنية. وربما تصحو فترى أن الحكومة لغرض التفاوض بالنسبة الى اسرائيل وأميركا هي الرئيس ومستشاروه. وهذا موضوع آخر لمقال آخر.