تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

حدود التدهور

2009-04-28

عزمي بشارة

لم تتضح بعد حدود مسار التدهور القائم بشأن فلسطين، فالنظام الرسمي العربي الذي أكد منذ العام 1974 على مقولة "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني" لكي يحرر نفسه باسم الأمة من مهمة محاربة إسرائيل، بدأ مسيرة الفصل هذه بأن المقاومة شأن الفلسطينيين الذي يجب دعمه عربيا.

 

وهو خلافا لما يعتقد نقاش عربي قديم، فبعد قرار التقسيم عام 1947 أثار أمثال النقراشي باشا نقاشا عنيفا في مصر بتصريحه بعدم التدخل وضرورة تجنيب الدولة الصراع مع إسرائيل، في حين أن غالبية الشعب المصري وأحزابه وقواه السياسية بما فيها الليبرالية، رأى في قضية فلسطين قضيته، وقضية العرب أجمعين.

 

وقد استمر هذا النقاش على الجبهات كافة وفي المفاصل التاريخية جميعها. ولكن ذلك الرأي الانعزالي شكل أقلية في كل الدول العربية.

 

ما لبثت هذه الدول التي وافقت بسرور على مقولة "الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني" وعلى ضرورة دعمه كيانا سياسيا على الساحة الدولية وقوة مقاومة محليا، ما لبثت أن انخرطت في عملية سلام وتسوية مع إسرائيل لاسترداد أراضيها التي احتلت في حرب حزيران.

 

ولكن "أراضيها" كدول قطرية لم تكن محتلة من العام 1948 حتى 1967، وهي لم تحارب إسرائيل طيلة تلك الفترة من أجل هذه الأراضي. فقط في هذا العام الأخير احتلت تلك الأراضي. والسلام مع إسرائيل بثمن استرجاعها دون استعادة فلسطين وتفكيك العنصرية الصهيونية هو ترجمة وتطبيق لانتصار إسرائيل في حرب 1967.

 

فقد كانت العقيدة الرسمية السائدة في المؤسسة الحاكمة الإسرائيلية (دعك من قطعان المستوطنين الهستيريين!!) هي احتلال الأرض لمبادلتها بالاعتراف والسلام على أساس قبول إسرائيل في المنطقة. ولذلك فإن استرجاع الأرض التي احتلت عام 1967 مقابل السلام هو انتصار لإسرائيل واعتراف بالهزيمة. وهو أكثر من ذلك مأسسة لتلك الهزيمة.

 

لقد تمت مأسسة وأدلجة الهزيمة بالادعاء بأن الدول أنجزت استعادة أرضها المحتلة عام 1967، وأن ما تبقى هو قضية الفلسطينيين.. ولا بد أن يرافق هذا التنصل تنصلا من الجامع الذي يفرض المعركة وهو الانتماء للوطن العربي المهدد وإلى أمة واحدة. لا بد أن يرافقها التأكيد على الدولة القطرية و"س أولا"، أو "ص أولا"... وهي تعبيرات عن انتصار إسرائيلي آخر أعمق، فقد ادعت الأخيرة دائما أنه لا توجد أمة عربية بل أمم وشعوب وقبائل، وأن الأمة الوحيدة في هذا الصراع هي الأمة اليهودية. صدق أو لا تصدق!!

 

ثم تبين أن المقاومة تشكل عقبة أمام "عملية السلام" أو أمام العلاقات المنفردة مع إسرائيل، أو تؤدي إلى توريط في نزاعات لا تنتهي معها، فتحولت هذه الدول إلى منع المقاومة أو حتى محاربة المقاومة. لقد وصل هذا النوع من التفكير إلى "لا نريد أن نحارب، ولا نريدكم أن تقاوموا". فمنعت المقاومة بداية من الانطلاق من الدول العربية المحيطة بإسرائيل الواحدة تلو الأخرى. وتبين في الحرب الأخيرة على غزة أن هذا التفكير يقود إلى منع المقاومة داخل الأراضي العربية المحتلة عام 1967 نفسها. ولا يكتفي بمنعها من الدول المحيطة بإسرائيل، التي كانت تسمى دول المواجهة.

 

فقد قام بعد اتفاقيات أوسلو محور عربي-فلسطيني (تعزز بعد اغتيال عرفات) يحاول أن يمنع مقاومة الاحتلال الإسرائيلي من خارج ومن داخل المناطق المحتلة عام 1967، لأن الإستراتيجية الوحيدة المسموح بها حتى على الساحة الفلسطينية هي إستراتيجية المفاوضات. أما "حق الشعوب في مقاومة الاحتلال" فهي مقولة نظرية مهما كانت صحيحة.

 

وتروج منذ مدة تفسيرات مقلوبة لمفهوم "الحق" الذي تناضل الشعوب من أجله في نفس هذه الأوساط. فحق العودة، برأيهم حق، ولكن ليس ضروريا أن يمارس، بل وذهبوا لحد المطالبة بالاعتراف بالحق نظريا دون السماح بممارسته، فكيف يكون الحق بالعودة دون السماح بالعودة؟!

 

والكاريكاتور أكثر تشويها في حالة حق الشعوب في مقاومة الاحتلال. إذ يعترف به نظريا، أما عمليا فمن حق من يرى أن ممارسته تسبب ضررا أن يحارب من يمارسه، وكل هذا تحت الاحتلال. 

 

والحقيقة أنه برأينا آن أوان تغيير هذه المقولات، لا بد من القول إنه "من واجب الشعوب مقاومة ودعم مقاومة الاحتلال". وعندما يعترف بهذا الواجب يسمح بالنقاش حول تنظيمه وكيفية ممارسته بحيث لا يصبح فوضى تضر بالهدف، ولكن لا يجوز مناقشة حق المقاومة وأساليبها من منطلق رفضها، فمن يرفض المقاومة مبدئيا لا يفترض أن يهمه نوعها، ولا كيفية إدارتها... اللهم إلا لغرض السجال.

 

الدول العربية التي دعمت حربا على إيران طيلة ثماني سنوات وسقط فيها مئات الآلاف أعلنت أنها لا تريد محاربة إسرائيل. ولم تعاود طرح هذا السؤال: لماذا لا تريد الدول العربية محاربة إسرائيل؟ هل فعلا إسرائيل دولة لا تحارب؟ هنالك امتناع عن مناقشة هذا الموقف وكأنه مسلمة، وهو ليس بمسلمة.

 

لم تكترث نفس الأنظمة لمقتل مئات الآلاف في حرب ضارية مع إيران استمرت ثمانية أعوام (وهي الحرب الكبيرة الحقيقية الوحيدة التي خاضها العرب في القرن العشرين، وتليها حرب أكتوبر بالحجم والشدة). ولم تتهم هذه الدول المبادرة إلى هذه الحرب بالتسبب بكارثة وبالتوريط والتدمير. ولكنها تعد سقوط المئات شهداء نتيجة لعدوان إسرائيلي "إبادة شعب"، وتنشر الرعب والخوف من إسرائيل وتتهم المقاومة بالمسؤولية عن الدمار.

 

لا يريدون أن يحاربوا ولا يريدون دعم المقاومة، والنتيجة لا يمكن حتى تحقيق تقدم في التفاوض مع إسرائيل. هكذا سدت هذه الأنظمة في وجه شعوبها الخيارات التاريخية الثلاثة: الحرب والمقاومة والمفاوضات.. ولذلك تعيش المنطقة العربية مخاضا حول السؤال ماذا بعد؟

 

أثبتت هذه السياسات أنها غير قادرة على تحقيق إنجازات في المفاوضات، لقد وصل هذا التفكير إلى مفترق طرق: لا حرب، ولا مقاومة، ولا إنجازات في المفاوضات باتجاه حل عادل. هنا تصبح عملية السلام هدفا قائما بذاته... لأنه لا عودة منها إلى الحرب ولا تقدم منها إلى حلول عادلة.

 

وفي هذه الأثناء تراهن بعض الدول العربية على عملية السلام كآلية اتصال وتواصل مع الولايات المتحدة، وكآلية لتحسين الوضع الإستراتيجي لهذا النظام أو ذاك في منظومة الاهتمامات الأميركية خاصة فيما يتعلق بأوضاعه الداخلية، إضافةً للعلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة. ولكن سرعان ما يتبين مدى صغر هذا المشروع. فكما تحولت "عملية السلام" إلى دائرة علاقات عامة لدى الولايات المتحدة، كذلك تحولت بالنسبة لدول عربية في علاقاتها بالولايات المتحدة.

 

فمثلا خاصمت السياسة الرسمية المصرية رأيها العام ودولا كثيرة، عربية وغير عربية، مؤخرا لكي تمسك بـ"ملف غزة" بما يضمن تصوير أهميتها الإستراتيجية للغرب. فتمنع تعزيز قوة المقاومة في غزة، وتضغط على حماس لقبول شروط الرباعية. كما أصرت ألا يتدخل أحد من الدول العربية في الحوار الفلسطيني الفلسطيني لتحقيق الوحدة.

 

وقد أبلغت مصر مثلا أن أميركا تصر على شروط الرباعية بشأن الحوار الفلسطيني الفلسطيني، وأنه لن تكون لديها أفكار ومبادرات في الشأن الفلسطيني في الأشهر الستة الأولى، ولذلك ما عليهم إلا مد وتمديد الحوار الفلسطيني الفلسطيني في ظروف استمرار الحصار ومنع إعادة البناء بعد كل هذا الدمار في غزة.

 

سوف تشغل الولايات المتحدة العرب بمفاوضات جديدة. وربما يستعاد فيها ما طرح من قِبَل أولمرت وليفني والحكومة الإسرائيلية السابقة كأنه حل الدولتين (أقصد دون حق العودة ودون الانسحاب الكامل لحدود الرابع من يونيو/ حزيران ودون القدس الشرقية عاصمة لفلسطين). وستبدو المحاولة الأميركية إنجازا يحتاج إلى ضغط على حكومة نتنياهو لكي يتحقق. وهذه كما يعلم القارئ عملية لا تنتهي.

 

ملاحظة راهنة: في هذه الأثناء أخذ الشعب الفلسطيني رهينة الحوار الدخلي وشروط الرباعية والمفاوضات، لقد جرى بقدرة الحصار بعد العدوان ربط إعادة الإعمار في القطاع مع نجاح الحوار. وتم ربط نجاح الحوار بقبول حماس لشروط الرباعية.

 

طبعا لن نثير هنا السؤال لماذا سارت حماس نحو هذا الفخ بعد الحرب؟ ولماذا أصبح يمشي كالديك كل من كان أثناء العدوان خجلا مطأطأ الرأس؟ ليس هذا هو المكان لطرح هذه التساؤلات، فقد كان الضغط بعد العدوان شديدا ناهيك عن سحر طلب الوحدة من قبل من كان يرفض حتى محاورة حماس دون شروط. وقد ضاعت بوصلة المقاومة لفترة. إن أخطر ما يمكن أن يجري للمقاومة هو دخولها في مسار الاعتراف بها دوليا وعربيا، ودفع ثمن هذا الاعتراف. لدى المواطن الفلسطيني شعور أنه حضر هذا الفيلم.

 

ولا بأس. ما جرى جرى. ولكن المقاومة سايرت، ودفعت ثمنا، وأفاد المحرجون أثناء العدوان من هذه المسايرة بعده. ولكن المهمة انتهت. اتضحت شروط نجاح الحوار ورفع الحصار التي يتمسك بها المحور الرافض للمقاومة.. إنها نفس شروط الرباعية. وسوف يستمر الحوار لفترة طويلة والحصار مفروض ومستمر ومنع إعادة البناء أيضا.

 

وقد آن الأوان أن يقَال ما يفهم: إن شرط الاستمرار بالحوار هو السماح بإعادة الإعمار. ولا يمكن أن يقبل الاستمرار بالربط المعاكس، فمقولة إن النجاح بالحوار وقبول شروط الرباعية هو شرط رفع الحصار وإعادة الإعمار هي مقولة تنفيذ النصر لإسرائيل من العدوان. ويجب بأسرع وقت ممكن أن يقال العكس، رفع الحصار والسماح بإعادة الإعمار هو شرط الاستمرار بهذه العملية التي لا تنتهي، فلماذا يجب أن يأخذ هذا الشعب رهينة العدوان ورهينة شروط الرباعية بعد صموده في الحرب؟

 

هكذا تقلب الطاولة، وليس بتبريرات مثل شرعية الرئيس وغيرها من التبريرات، بل لسبب مصيري متعلق بمصلحة الشعب الفلسطيني ومصلحة المقاومة.