لم يقع في إسرائيل زلزال سياسي بإقامة حزب شارون الجديد. فإقامته تعبير عن مزاج وموقف سياسي قائم في اليمين منذ الانتفاضة الاولى. لقد وصلت أوساط واسعة من اليمين الإسرائيلي إلى قناعة مفادها أن إسرائيل بحاجة الى قيام كيان فلسطيني دون أن تصل الى قناعة موازية ان إقامته تتطلب الانسحاب الى حدود الرابع من حزيران او إزالة المستوطنات "حتى آخر مستوطنة"(هكذا يقولونها بالعبرية)، ناهيك عن حق العودة. والحزب الجديد هو تعبير عن هذه القناعة المنسجمة مع الإدارة الأمريكية أصفى من الليكود بتشكلاته الأخيرة التي تشمل عناصر من عتاة المستوطنين مثل موشيه فايجلين كما تشمل أدلجة لا بد منها لصراعات حزبية داخلية من نوع صراع نتنياهو الحزبي مع شارون.
تشكيل حزب في مثل هذه الحالة وذلك عشية انتخابات، وبعد نقاش سنوات وتبين خلافات كشفتها خطة فك الارتباط هو أمر شرعي من منظور السياسة الحزبية البرلمانية. ولكن ما هو غير شرعي هو الإستنتاج من ذلك ان شارون قد تغير أو ان هنالك تحول نحو الحل والسلام العادل في السياسة الإسرائيلية. ما هو غير شرعي هو أدلجة العجز العربي بواسطة الادعاء ان هنالك تغير لدى شارون يمنح العرب فرصة يجب الا يفوتوها. وحسب هذه التقليعة فإن العائلة الحاكمة في المملكة السعودية كما يبدو من بعض التصريحات و"الاجتهادات" في الإعلام منقسمة بين "تيارين"، أحدهما يراهن على التغييرات لدى شارون الذي يجب "ان يمنحه العرب فرصة" (كأن هنالك من يمنعه أصلا). و"تيار" آخر يرى ان عمير بيرتس هو تجسيد للأمل. ولا حول ولا قوة الا بالله. ولكن هذا نقاش آخر لنا معه مواعيد أخرى متعددة.
فلنمحور نقاشنا حول ما هو غير شرعي من منظور نظرية الديمقراطية، فهذا أسلم. ما هو غير شرعي فيما يجري في الخارطة السياسية الإسرائيلية هو ظاهرة الانحلال الحزبي لصالح شخصنة السياسة، بحيث تتجسد في فعل كل ما يلزم لكي يحافظ السياسي على موقعه او يتقدم نحو المشاركة في عملية صنع القرار بغض النظر عن الحدود الحزبية والبرامج السياسية والمواقف الأصلية التي على أساسها انتخب السياسي للبرلمان.
والمقصود بشخصنة السياسة هنا هو ليس موضعتها في أشخاص أفذاذ، أو شخصيات عظيمة، أو قادة أحزاب كارزماتيين، بل المقصود هو العكس تماما. الظاهرة المقصودة في هذه المقالة هي تحول الطموحات الشخصية والنزوات المحسوبة عند السياسي العادي المتوسط الوصولي المهني المحترف، وهي نقيض الكاريزما والزعامة، إلى بوصلة العمل السياسي وذاته الفاعلة الأكثر أهمية والعابرة للأحزاب.
يتحول الصحافيون في هذه الحالة الى مجرد راصدين لحركة السياسي هل يترك حزبه أم لا؟ ومع من التقى مؤخرا؟ وهل يستوعبه الحزب الفلاني في قائمته؟ وكأن وظيفة السياسي ليست تمثيل جمهور بعينه ولا برنامج سياسي ينتخبه هذا الجمهور ويتوقع بموجبه مواقف هذا السياسي، بل وظيفته هي تحقيق هدفه الشخصي. وهدفه هو الوصول الى عملية صنع القرار بغض النظر بأي برنامج، وعلى قائمة أي حزب، ما دام هذا الحزب يضمن له الوصول على قائمته.
تتحول هذه التحركات الى "خبز الصحافة اليومي" في تفاصيل درامية مملة. والدراما المملة من الفنون النادرة التي يحملها إلينا حلول موسم الانتخابات. ينام الناس ليلا على "خارطة سياسية" ويستيقظون على سياسي في برنامج تلفزيوني صباحي، تغطي المساحيق قلة نومه ونوم مذيعي الصباح، يصرح أنه قرر الانتقال إلى هذا الحزب أو ذاك. ويتظاهر المشاهدون أنهم يعرفون في أي حزب كان الرجل أصلا. ويحاول المذيعون احراجه أو إحراجها، في حالة داليا ايتسك الفذة مثلا، لكي يتبين أن الهدف من الإنتقال ليس مبدئيا كما يتم الإدعاء ولا للمشاركة في صنع السلام، ولا لأن حزب العمل ذهب يسارا أكثر مما ينبغي، ولا لأن الليكود ذهب يمينا أكثر مما ينبغي، بل لأنه يريد ضمان عودته\ها إلى البرلمان شخصيا، لأن البرلمان لا ينفع بدونه\ها. (أو هو لا ينفع بدون البرلمان، اما البرلمان فلا ينفع بوجوده ووجود أمثاله الى آخر هذه التركيبات).
وأخيرا ينفضح السياسي في هذه الجلسة الصباحية، ولكن لا أحد يتأثر. والفضيحة أقل أثرا من فنجان القهوة الذي برد في هذه الأثناء. فالسياسي يعرف والصحافيون (الأقل مبدئية من السياسيين بسعيهم لاختلاق أخبار من هذا النوع حيث لا توجد) يعرفون أن الخبر ليس خبرا وأن طموح السياسي للعودة إلى البرلمان بغض النظر عن الوسيلة ليس خبرا. وأن كل هذه الإستثناءات أصبحت في عرف السياسة الاسرائيلية الجديدة عرفا وعادة وقاعدة.
في حينه أثار انسحاب موشي ديان بعد انتخابات عام 1977 بقليل من العمل إلى الليكود ليتبوأ منصب وزير خارجية مناحم بيجن عاصفة كبرى وحتى مظاهرات لم تهدأ إلا بعد شهور. ولكن يبدو أن موشيه ديان كان طليعيا على أكثر من صعيد. واليوم تشكل ظاهرة الإنتقال من حزب لآخر دون إعادة الكرسي البرلماني للحزب الأصلي عرفا وعادة جديدين لا يعبران برأيي عن أخلاق جديدة بل عن إنحلال سياسي وأخلاقي أيضا.
تقوم الديمقراطية البرلمانية، من بين مكونات عديدة أخرى، على برامج وأفكار مختلفة متعددة ومتصارعة احيانا تعبر عنها أحزاب تتنافس في الانتخابات وغيرها من أجل الوصول إلى أغلبية المقاعد البرلمانية من أجل تشكيل الحكومة والمساهمة في عملية صنع القرار. السياسيون في مثل هذه الحالة هو ممثلو الأحزاب التي انتخبتهم لإشغال منصب ممثل للحزب في البرلمان. وتتعامل البرلمانات بتفاوت بالطبع مع أعضائها كممثلين لأحزاب هي عبارة عن كتل برلمانية في ذلك المبنى، وليس النائب مجرد عضو برلمان يتصرف على هواه بل هو عضو كتلة، وله مرجعية، وتحدد أوقات مساهماته وكلامه وحصته من الإقتراحات وحتى مكان جلوسه بموجب عضويته في الكتلة. وكذلك تحدد البرلمانات من قدرة نائب على الإنشقاق عن كتلته البرلمانية وإقامة كتلة جديدة بعد انتخابه وتضع لذلك شروطا.
ولكنها تفترض حرية إرادة بشأن عضويته في الحزب، فهو قد يترك حزبا من الأحزاب بتغير في موقفه. ولكن ليس هذا ما يحصل، إذ لا يتم ترك حزب لتغير في موقف، وهذا أمر شرعي. إذا تغير موقف عضو في حزب بشكل جذري فمن حقه بل من واجبه أن يترك هذا الحزب. فلا معنى للحزب دون قناعة بمواقفه وبرامجه. ولكن المقعد البرلماني ليس ملك الشخص بل هو ملك الحزب الذي أوكل إليه هذه المهمة. يصح هذا حتى في الإنتخابات المناطقية التي يلعب فيها الشخص واسمه دورا كبيرا، ويصح ذلك بدرجة أكبر في حالة الإنتخابات القطرية النسبية حيث التنافس هو بين قوائم تعبر عنها حروف الأبجدية وليس بين أسماء مرشحين.
إذا اضفنا الى هذا كله إستيراد نجوم وشخصيات الى الأحزاب من خارجها، أي من الجيش ومن تفهاء أساتذة الجامعات الكثيري التصريحات والقليلي الإنتاج الأكاديمي، ومن الصحافة ومجال الأعمال، فإن هذا الأمر يفاقم من أزمة الأحزاب. فاستيراد نجوم بنزواتهم وتفاهتهم يعني ضمنا أن الأحزاب لا تنبت شخصيات، وأنها تقتصر على نشطاء ومقاولي لا مستقبل لهم في قيادة الدولة. وهذا عكس ما كان سائدا، اذا كان كبار المثقفين والكتاب والسياسيسن يلتزمون حزبيا ببرنامج. وكانوا يتقدمون الى تمثيل الحزب برلمانيا من خلال مؤسسات الحزب. ولم يكن يتم استيرادهم في نوع من المصلحة المشتركة لإغناء القائمة الانتخابية ولإشباع حب الظهور لديهم. فيتحولون من إدعاء كاذب أنهم غير حزبيين، وفوق الأحزاب، إلى حزبيين بأسوأ معاني الكلمة، أي يستخدمون حزبا لا فضل لهم فيه لإشباع نزوات شخصية أهمها حب الظهور.
وما يجري في إسرائيل هو إنحلال للحياة الحزبية لا يبرره ويخفف وطأته على "الديمقراطية اليهودية" إلا الشعور بأن الإنتقالات والتنقلات تتم في إطار نفس القبيلة وفي إطار نفس المسلمات الصهيونية. فإما أن هذه ليست دولة ديمقراطية برلمانية حزبية بل كيان آخر، وإما أن هنالك أيديولوجية سائدة تسمح بالحركة في إطارها، وكصمغ لاصق تمنع الانهيار. وهي حالة نادرة حاليا بين الدول الديمقراطية. وفي الحالتين يسهل ما يجري على من يريدون أن يطرحوا في المستقبل مسألة النظام الرئاسي الذي لا تلعب فيها الحياة الحزبية دورا رئيسيا، وأن يطرحوا الانتخابات المناطقية للبرلمان التي يلعب فيها شخص المرشح للبرلمان دورا أكبر. وهذه كلها في الحالة الإسرائيلية خيارات داخل القبيلة، أما العرب فهم مقصون تماما من هذه اللعبة. والأحزاب هي تنظيماتهم الوطنية القطرية التي لا بديل عنها وتجمعهم كأقلية قومية