منذ فك الحصار عن مكتب الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات يدور في المجتمع الفلسطيني نقاش حي يُتوقع من شعب حي، وقد انتشرت حالة النقاش انتشار النار في الهشيم فلم تترك حارة ولا منتدى ولا صحيفة الا وتملّكتها. هنالك حمّى من النقاش والنقد والنقد الذاتي تذكّر بما بعد أيلول 1970 وما بعد لبنان 1982 وما بعد اوسلو. فهل نحن امام “ما بعد” اخرى لا يأتي بعدها جديد؟ وهل تستطيع القوى القائمة ان تأتي بجديد.
ولأن النقاش يدور في حلقات متوازية أشبه بثقافات فرعية subcultures وجماعات منفصلة اجتماعياً وسياسياً، فلا يبدو ان هنالك حواراً اجتماعياً شاملاً تستفىد منه قيادة موحدة لحركة تحرر وطني، بل وتبادر اليه في المنعطفات التاريخية الحادة. ولا أدري اذا كان النقاش الدائر في رفح ذا علاقة بالنقاش الدائر في رام الله، واذا كان النقاش الدائر داخل حركة “فتح” مرتبطا بشكل من الأشكال بالحوارات الدائرة في الفصائل الاخرى او في الشتات. وقد لمست جانباً هاماً من النقاشات الدائرة والأسئلة المتطايرة من والى كافة الاتجاهات من خلال الاحتكاك مع القوى الفاعلة والناس في الداخل وفي الشتات والعالم العربي وطبعاً في المناطق المحتلة عام 67. وفي لقاءات مفتوحة مع جماهير واسعة عُقدت مؤخراً معي في الناصرة والقدس المحتلة ثم في دولة الامارات العربية المتحدة وفي شيكاغو وفيلادلفيا، لمست نوع الاسئلة نفسه الذي يقلق الجمهور العربي. وهو وإن طُرح بصياغات متشابهة من قبل قيادات أيضاً في الصحافة وغيرها إلا انه يُخفي دوافع ونوايا مختلفة.
لقد فرض المد الجماهيري الفلسطيني صياغة كافة الأسئلة بلغة متشابهة ألا وهي لغة ضرورة “الاصلاح”. ولكن لغة الاصلاح تُخفي نوايا ودوافع سياسية مختلفة. فمن دعاة الاصلاح مَن يعتقد انه كان على القيادة الفلسطينية قبول ما طُرح في كامب ديفيد وتجنُّب الانتفاضة. ومن دعاة الاصلاح أيضاً مَن يرى ان الطريق لتحقيق الأهداف الوطنية بعد املاءات كامب ديفيد تمر عبر المقاومة، ولكه يسأل أية مقاومة، وكيف؟
لم يعد بالإمكان إذاً الاكتفاء بكلمات وصياغات مثل ضرورة الاصلاح. لقد طُرحت هذه الصياغات والتعابير بعد أيلول 1970 وبعد اجتياح 1982 وبعد حرب الخليج الثانية وبعد اوسلو وأثناء عمل السلطة الفلسطينية في السنوات الثماني الأخيرة، وكان الاصلاح ينتهي عادة بتصليح وضع دعاة الاصلاح على مستوى البعد أو القرب من عملية صنع القرار.
ولا شك في ان الحاجة ملحة لترتيب مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية وان الحاجة ماسة أيضاً لترتيب عملية اتخاذ القرار بشكل أكثر ديموقراطية، وان تتضح فيه أهمية الوزير مقابل غير الوزير وأهمية مؤسسة مثل اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وغيرها في عملية صنع القرار والاتصالات الدولية والمحلية، وقيمة ووزن حركة “فتح” كتنظيم سياسي في السلطة، ثم اهمية غيرها من الحركات السياسية ووزنها في عملية صنع القرار أو أخذ معارضتها بعين الاعتبار ضمن إجماع وطني على ثوابت لا تطالها هذه المعارضة... هذه الأسئلة مصيرية، ولكن يجب أن تُطرح في السياق السياسي القائم حالياً، وإلا فقدت معناها بالنسبة للجمهور الواسع. فالشعب الفلسطيني يسأل حالياً أسئلة سياسية متعلقة بمصير المواجهة مع الاحتلال، والحل السياسي للأزمة، ويتساءل عن البرنامج السياسي لدى قادته.
لا شك في انه في مراحل اليأس والاحباط تنتشر نظرية المؤامرة ويتبعها التخوين. ولكن دور المثقف المسيَّس في قيادة النقاش حالياً يشمل تجنيب الجمهور نظرية المؤامرة والخيانة، كما يشمل قيادة الحوار باتجاه طرح القضايا المحورية والمصيرية.
تبدأ الاستفادة السياسية من ترتيب محاور النقاش بصياغة السؤال التالي:
1) هل الحركة الوطنية الفلسطينية هي حركة تحرر وطني أم دولة قيد التكوين؟ يجب ان يُحسم هذا السؤال من أجل اقرار نمط العمل والسلوك السياسيين. لقد بقي هذا السؤال معلَّقاً منذ بداية الثمانينيات، ولكنه اكتسب أهمية خاصة مع قيام سلطة فلسطينية مرتبطة باتفاقيات من ضمنها اتفاقيات أمنية. تُشتق من حسم هذا السؤال على هذا النحو أو ذاك، توجهات مختلفة تماماً في التعامل مع مفاهيم ووقائع مثل: “سلطة ومعارضة”، “وحدة وطنية”، “تنسيق أمني”. حسْم السؤال باتجاه حركة التحرر الوطني المناضلة من أجل الاستقلال عبر خيار مقاومة الاحتلال، يطرح مسألة استراتيجية المقاومة. ولكن من دون حسم هذا السؤال لا توجد استراتيجية مقاومة، بل توجد “عملية سياسية” من ناحية و”عمليات مقاومة” من ناحية أخرى لا تربطهما إلا علاقة التعارض أو الازعاج المتبادل أو التواطؤ غير المتجانس في بعض الحالات. أما إذا حُسم السؤال باتجاه الدولة قيد التكوين فهذا يعني الاعتقاد ان العملية السياسية التدريجية الجارية والمنطلقة من كيان سياسي فلسطيني قائم ومعترف به على الساحة الدولية “يحترم تعهداته واتفاقياته”، ستؤدي الى قيام دولة فلسطينية مستقلة على خطوط قريبة مما طُرح في كامب ديفيد، أو ما بين كامب ديفيد والمبادرة السعودية. ويُفترض ان تكون واقعيةُ هذا المنطلق بدون مقاومة بحد ذاتها موضعَ نقاش.
ومن غير المعقول القبول لا دولياً ولا فلسطينياً بحالة من التواطؤ ذي الحبل القصير المصداقية بين الطريقتين. والمقصود هو استنكار العمليات واستخدامها في الوقت ذاته سياسياً وإثبات فشل سياسة اسرائيل الأمنية. في هذه الحالة تخسر السياسة العالمين، عالم المقاومة وعالم الصالونات الدبلوماسية. كما انه من غير الممكن القبول فلسطينياً بحالة الصراع على الوراثة كأن الدولة قد تكوّنت، أو ان انتشار الفساد البيروقراطي في هذه المرحلة من التحرر الوطني ترافقه كليشيهات التحرر الوطني والمبالغة باستخدام الرموز حول الدولة والكيان كتعويض عن النقص في الواقع. كما ان المجتمع الفلسطيني لم يعد يقبل بالتنافس بين الفصائل على تبني “عملية”، خاصة ان جدواها السياسية غير ثابتة لأنها لا توضع ضمن تصور شامل للنضال الفلسطيني يشمل العلاقة الجدلية بين الوسيلة والهدف.
وقد أعربنا عدة مرات عن رأينا في ان الحسم يجب ان يتجه باتجاه استراتيجية حركة التحرر الوطني ضد حالة كولونيالية استعمارية أصبحت أكثر وضوحاً للعالم بعد العدوان الأخير. فقد أزال هذا العدوان آخر الأوهام حول وجود كيان فلسطيني سياسي ولو بنصف سيادة في علاقة تكافؤ من أي نوع مع اسرائيل. ولكن مسألة حركة التحرر الوطني تطرح السؤال الثاني:
2) ما هي استراتيجية حركة التحرر الوطني الفلسطيني في المرحلة الراهنة؟
يجب أن تجمع حركة التحرر الوطني بين العمل السياسي والمقاومة المشروعة ضد الاحتلال بحيث يحكم النشاطان الهدف السياسي وطبيعة الأدوات المتوفرة والأهمية المتفاوتة لساحات العمل المختلفة. يهدف العمل السياسي إلى تعبئة الرأي العام الفلسطيني والعربي للتأثير على الرأي العام الأميركي والأوروبي والإسرائيلي، ويجب ان يتلاءم عمله مع استراتيجية المقاومة. ولا تتألف المقاومة من مجموعة “عمليات” تقيم كل واحدة بشكل منفرد، بل هي استمرارية، عملية، صيرورة تحكمها الغاية، والغاية هي تحقيق الهدف السياسي، والتقدم نحوه هو الحكم الوحيد في اختيار هذه الأداة أو تلك.
3) ولكن هل يمكن تحقيق ذلك من دون وجود قيادة سياسية موحدة؟
لا يمكن انتقاء الأدوات النضالية بشكل موضوعي ومحاكمة جدواها ونجاعتها بمدى تقريبها لمجمل الحركة الوطنية من الهدف. كما ويستحيل الانسحاب التكتيكي والمناورة وغيرهما إذا كان هنالك تنافس ومزاودة على مستوى قيادة حركة التحرر الوطني؛ أي إذا لم تتوفر قيادة مركزية قادرة على صنع القرار وفرضه، ان كان هجومياً أو تراجعياً. ولا يمكن أن يتم ذلك على المستوى الفلسطيني بعد كل هذه التجربة الطويلة إلا بالحوار والقيادة الموحدة. كل أسلوب آخر يؤدي إلى مجابهات ومواجهات أهلية.
“يلف” النقاش الشعبي حالياً و”يدور” حول هذه القضايا ولكنه لا يلامسها ولا يجابهها. ويبدو لي أن القوى المساهمة في النقاش على مستوى القيادة، ترغب بالابتعاد عن هذه القضايا إلى نقاشات على مستوى صراعات النفوذ تحت شعارات الإصلاح. ولا بأس بصراعات النفود لو كانت تمثل وجهات نظر متباينة. والسياسة مستمرة بقوة القصور الذاتي. ولا يبدو الفرق واضحاً بين الحصار وفك الحصار. وإن القيادة الفلسطينية في حالة إدارة أزمات. والمبادرة ما زالت إما بيد شاب فجّر نفسه في عملية استشهادية، أو بيد شارون، أو حكومة الولايات المتحدة. ولا يمكن أن تكون القيادة الفلسطينية فاعلة بالأساليب القديمة وما دامت تتجنب الأسئلة الثلاثة أعلاه.