رغم فشل الدول العربية في عملية بناء الأمة على أساس المواطنة أو على الأقل على أساس هوية محلية يستمر اتهام دعاة القومية العربية بانشغالات رومانسية. وهو الفشل البادي من انهيار الدولة مع انهيار النظام في العراق، والخوف من تحول الخلاف السياسي في كل دولة عربية إلى احتراب طائفي أو الخوف المعاكس من تسييس الانتماءات الطائفية وتحولها إلى مصالح طائفية يتماهي معها الأفراد ويتبنوها كأنها مصالحهم فعلا كـ"أبناء طائفة". ومؤخرا تحول الخوف من الحرب الخارجية إلى خوف أن تؤدي إلى احتراب داخلي. لا يمكن الإدعاء أن هذه الوقائع دليل على نجاح في تثبيت وطنية القطرية.
لقد تحولت الأمة التي يفترض أن تبنى على أساس الاقتصاد المشترك والتجربة المشتركة والدولة وبرامج التدريس الرسمية وإعادة كتابة التاريخ كتاريخ مشترك وغيرها إلى هوية قطرية فولكلورية ورومانسية إلى حد بعيد، بما فيها من محاولات لمهرجانات بابلية وفنيقية وكنعانية وفرعونية بودر اليها من أعلى لتنفيذ مآرب سياسية وإعادة تشكيل الإنتماء والولاءات على أساسها.
ولو نجحت الدولة القطرية في تشكيل أمة مدنية على أساس الانخراط في مواطنة حقوقية هي الضمان ضد الاستبداد وليس العشيرة أو الطائفة، لكان ربما قد وقع فصل محمود مهما بدا غريبا بين قومية عربية ثقافية ينتمي إليها غالبية المواطنين في الدول العربية من جهة، وأمة سياسية قائمة على المواطنة في الدولة القطرية من جهة أخرى: هي مجتمع مدني نحو الداخل وأمة نحو الخارج.
ولكن هذا لم يحصل. وأحد الأسباب برأينا هو وجود المسألة العربية غير محلولة. وبقيت الاحتمالات قائمة بين قومية عربية ثقافية وسياسية في آن معا، وبين انتماءات سياسية عشائرية وطائفية بعضها عابر وبعضها غير عابر لحدود الدول.
في مثل هذا الظرف لم يعد ممكنا التعاطي مع القومية العربية كرومانسية إلا كسوء نية سياسي يعبر عن موقف.
فالقومية العربية قبل مرحلة بناء أمة المواطنين هي حاجة عملية لتوحيد غالبية الشعب حتى في الدولة القطرية لكي لا ينهار إلى طوائف، وهي ليست مجرد "إثنية" مختلقة مركبة بل جامع ثقافي من الدرجة الأولى يقوم على اللغة المشتركة، وجامع سياسي وتعبير عن تطلعات سياسية لها تاريخ حديث وقديم.
ليست القومية العربية حالة رومانسية إذا بل حاجة عملية ماسة وبراغماتية في الوصول ليس فقط إلى مجتمع حديث قائم على الانتماء الفردي، بل أيضا لتزويد المواطن بهوية ثقافية جامعة تحيد غالبية الطوائف والعشائر، العربية على الأقل، عن التحكم بانتماء الفرد السياسي.
وحتى لو لم تقم على أساسها دولة عربية واحدة في المرحلة الراهنة، فإن الدول العربية القطرية لا تستطيع الاستغناء عنها في عملية بناء أمة مواطنية للعرب وغير العرب. كما أنها تشكل أساسا لتعاون ووحدة دول عربية في المستقبل على نمط الاتحاد الأوروبي. وبين دولها من المشترك والموحد أكثر بكثير مما بين دوله التي لا تجمعها لغة ولا قومية ووقعت بينها في الماضي غير البعيد حروب دينية وحروب قومية وحروب عالمية.
كما أن وجود تيار عروبي فاعل يطرح المشترك ويلح عليه ويعارض التجزئة الطائفية ويطرح بدائل ديمقراطية ويندمج في الحركة الثقافية والجماهيرية في كل بلد على حدة هو ضمانة أكيدة ضد هيمنة الفكرة الطائفية أو الانتماءات التجزيئية الأخرى للأمة.
من أين يأتي انطباع الرومانسية هذا عن القومية والذي يجتره السطحيون من حلفاء المرحلة الأميركية ويبصقونه بعدمية باتجاه القوميين وغيرهم من نقاد المرحلة؟ ونقول "العدميين" لأنهم يعجبون بالتطرف القومي والرومانسية القومية إذا تجلت على نمط خطب بوش في كتدارئية في واشنطن، أو إذا كررها اليسار الإسرائيلي في صراعه ضد حق العودة الفلسطيني ومع قانون العودة الإسرائيلي ومع يهودية الدولة بنبرة قومية لافتة يحترمها العدميون العرب، ولا يعتبرونها رومانسية. وفي الواقع لا تخلو الطقوس والخطب الاميركية والإسرائيلية الرسمية من رومنسيات وأساطير قومية ودينية، بل تعج بها.
هم لا يدرون شيئا عن جذور هذا الانطباع عن القومية، ولكننا ندري. ويجب أن ندري إذا أردنا أن نقيم تاريخ الفكر القومي العربي وغير العربي تقييما نقديا. فالقومية كتجاوز الانتماء إلى إيديولوجية رئيسية، وكتيار مركزي في المجتمع نشأت في الدول التي تأخرت في التطور الرأسمالي، وغالبا ما جاءها كتحديث قسري من أعلى. وحلت فيها القومية كرد فعل رومانسي على انحلال الجماعة العضوية ومحاولة إعادة تأليفها كـ"جماعة متخيلة" ضد الفردية و"الانحلال" التي ميزت المجتمعات الرأسمالية المتقدمة وذلك في القومية القائمة على الثقافة أو الانتماء الإثني.
ومع هذه الرومانسية نشأت في الإيديولجيات القومية مظاهر تقديسية للانتماء وللوطن وللجماعة، ثم للانضباط والطاعة والتنشئة على قيم قومية والرغبة في تنظيم التحول الاجتماعي بشكل شبه عسكري للتعويض عن التخلف والتأخر في التطور الرأسمالي وللتعويض عن ضعف قيم الحداثة في المجتمع بالتخطيط الصارم والهندسة الاجتماعية. وقد ولدت هذه الأفكار ما ولدت من عمليات تحديث في إيطاليا وألمانيا وبولندا وروسيا، ولكنها أنجبت أيضا أنظمة شمولية من أسوأ نوع.
لم تسنح الفرص للقومية العربية للوصول إلى هذه المراحل، ولكن لوحظ عند مفكريها الرومانسييين مثل زكي الأرسوزي وحتى المحدثين والحداثيين بينهم من أمثال قسطنطين زريق وساطع الحصري تأثر شديد بالرومانسية القومية الألمانية والإيطالية. وقد اختلط في هذا التأثر الإعجاب بسرعة التوحيد التنظيم والتحديث والضبط ونشر العلم والتصنيع في مجتمعات كانت حتى مرحلة قريبة مجزأة إلى أمارات ومتخلفة، اختلط مع العداء للمستعمر الإنجليزي والفرنسي فيما بعد.
ولكن برأينا يجب عدم الخلط بين هذه الميول التي بقيت إيديولوجية وبين تشديد القوميين الأوائل على التربية والنهضة بالشباب والتثقيف القيمي والأخلاقي ومنح الشباب حلما وقيما ومعنى. فهذه ليست بالضرورة رومانسيات، وحتى لو تضمنت بعض الرومانسية الا أنها عبرت عن حاجة ماسة. ولذلك تولت عملية إعداد البرامج للتربية والتعليم نخب تلك المرحلة مثل ساطع الحصري بنفسه وطه حسين بنفسه، وأدى غيابها ليس فقط إلى انهيار عملية التعليم والتربية بل ساهم أيضا في مفاقمة الأزمة الأخلاقية التي تعيشها الثقافة والسياسة العربية في المرحلة الراهنة.
يذكر عزيز العظمة في كتابه الممتاز عن المفكر العربي قسطنطين زريق سخرية رئيف خوري الماركسي من القيم التربوية المتضمنة في كتاب الوعي القومي لزريق، إذ يشبهها بالوعظ الكنسي الإنشائي.
ورئيف خوري ماركسي لامع، وكاتب مجيد. وقد ترك بعض الماركسيين العرب تحليلات جيدة جدا لحال المجتمعات العربية وحتى القضية الطائفية. ولكن سخرية الماركسيين عموما وحتى الأخلاقيين من بينهم من القضية الأخلاقية والتربوية والقومية واعتمادهم نسبية الأخلاق الكارثية والتساؤل الدائم حول أي مصلحة تخدم القيمة الأخلاقية واتهام القومية بالرومانسية هو مثال على تهافت هذا النوع من النقد. فقد أدى إلى ما أدى اليه في دول المنظومة الاشتراكية من هدم الإنسان فيما يتجاوز حتى آثار انهيار الديكتاتورية الشمولية، كما أدت إلى إرساء الأساس إلى تحول بعض اليسارييين العرب من اتهام القومية بالرومانسية من اليسار إلى اتهمامها بالرومانسية من موقع اليمين، أو من داخل المعسكر الأميركي الاسرائيلي الذي يعج بالقوميين الرومانسيين من المحافظين الجدد وحتى اليسار الصهيوني. هذا مثال فقط. ففيما عدا القوميين المتطرفين أنفسهم أعداء القومية العربية الجديون في أيامنا هم الطائفيون وأنصار تكريس الوضع القائم على أنواعهم والذين يعتبرون النظر الى العام من خرم مصالحهم الضيقة واقعية...وقد يثبت أنها رومانسية مقلوبة كما هو حال العدمية دائما.