عزمي بشارة
العدوان على قطاع غزة استمرار للحصار بوسائل أخرى.الحصار هو عدوان. والقصف هو عدوان. عندما فشل الحصار التجويعي على القطاع في كسر إرادة أهلها، لم يعد ممكنا الاستمرار في إحكامه فترة طويلة. أصبح محتما لمن يريد الاستمرار في نفس النهج لتحقيق نفس الهدف أن يقوم بعملية عسكرية.
كان واضحا أن هذا "الاستحقاق" سوف يحل مع نهاية مرحلة ما سمي زورا وبهتانا بالتهدئة. كانت التهدئة عدوانا مسكوتا عنه، كانت عدوانا يرد عليه بتهدئة. حصار تجويعي دون رد. وكان واضحا أن العدوان سيحل مع المزاودة بين القوى السياسية الإسرائيلي في التنافس الدموي على كسب قلب الشارع الإسرائيلي المجروح الكرامة من لبنان.
كان واضحا أن من لم يأت إلى حوار القاهرة للاعتراف بانتصار الحصار وبنتائجه السياسية المستحقة سوف يدفع الثمن. كانت هذه هي الفرصة الأخيرة التي يلام عليها من لم يستغلها.
تماما كما أُعْذِرَ من أنذر ياسر عرفات عندما لم يقبل في كامب ديفيد، وكما أعذر من أنذر سوريا بعد الحرب على العراق، وكذلك من أنذر حزب الله على طاولة الحوار التي سبقت تموز 2006.
جرى التحضير للعدوان بعد تنسيق امني وسياسي مع قوى عربية وفلسطينية، أو إعلامها على الأقل، حسب نوع ومستوى العلاقة.
يتراوح موقف بعض القوى العربية من إسرائيل بين اعتبارها حليفا موضوعيا ضمنيا حاليا، أو حليفا مستقبليا سافرا، وبين اعتبار النقاش معها مجرد سوء تفاهم. فيما تعتبر نفس هذه القوى الصراع مع قوى الممانعة والمقاومة صراع وجود.
لا تناقض بين تنسيق العدوان مع بعض العرب وبين إدانة العدوان الصادرة عنهم. بل قد تكون الإدانة نفسها منسقة. يجري هذا فعلا بالصيغة التالية: " نحن نتفهم العدوان ونحمل حركة حماس المسؤولية، وعليكم أيضا أن تتفهموا اضطرارنا للإدانة... قد نطالبكم بوقف إطلاق النار، ولكن لا تأذخوا مطلبنا بجدية، ولكن حاولوا ان تنهوا الموضوع بسرعة وإلا فسوف نضطر إلى مطالبتكم بجدية".
من يعرقل عقد القمة يريد ان ياتيها بعد أن تنهي إسرائيل المهمة. من يذهب اليها في ظل القصف الإسرائيلي الآن يعرف بعقل وغريزة السلطان انه رغم التردي العربي فإنه ما زال الذي يقف مع إسرائيل يخسر عربيا.
عندما قرر جزء من النظام الرسمي العربي ان إسرائيل ليست عدوا، بل ربما هي حليف ممكن أيضا، صارت دوله تتحين الفرص للسلام المنفرد، وتدعم أية شهادة زور فلسطينية على نمط "عملية السلام"، وعلى نمط "لا نريد أن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين"... أصبحت مقاومة إسرائيل شعبية الطابع. وهي وتحظى بدعم من جزء من النظام الرسمي العربي لأسباب بعضها تكتيكي وبعضها استراتيجي.
من اتجه للتسوية منع المقاومة الشعبية من بلاده. ولكنه لم يستطع شن الحرب عليها في البلدان التي بقيت فيها مقاومة. وقد دامت المقاومة فقط في البلدان التي تضعف فيها الدولة المركزية ولا يمكنها منع المقاومة: السلطة الفلسطينية، لبنان، العراق.
ومن هنا يستعين هذا المحور العربي بإسرائيل مباشرة لضرب المقاومة. في 1982 صمت هذا المحور على العدوان على المقاومة، وحاول أن يحصد نتائجه فيما بعد. وهذا ما جرى عند حصار المقاطعة. أما في تموز 2006، وما يجري في كانون الأول 2008، فقد كان التنسيق سافرا. هذا هو الجديد. فقط اللغة المستخدمة في وصف هؤلاء لم تعد واضحة وحاسمة، ولم تعد تسمي الأشياء بأسمائها.
العالم، بمعنى الرأي العام العالمي، مصطلح وهمي، والشرعية الدولية مصطلح عربي... لو فشلت المقاومة اللبنانية في الدفاع عن ذاتها، لما نفعها مجلس أمن ولا برلمان أوروبي، ولانتقلت شماتة "المعتدلين" إلى التبجح وحص نتائج انتصار إسرائيل الذي لم يأت.
انتهى موضوع الديمقراطية عربيا كأجندة غربية، لفظت مصداقيتها أنفاسها الأخيرة. فهي إما أن تكون عربية أو لا تكون: أميركا تتعامل مع كل عدو لإسرائيل، بما فيه أعداء الاحتلال الاسرائيلي كأعدائها، حتى لو كانوا منتخبين ديمقراطيا. أما حلفاء إسرائيل فهم حلفاؤها حتى لو كانوا دكتاتوريات.
حصار السلطة الفلسطينية المنتخبة وعدم منحها فرصة، وتفضيل شروط وإملاءات إسرائيل على انتخابات ديمقراطية وعلى إرادة الشعوب فضحت قذارة الحديث الاوروبي عن الأخلاق في السياسة. فأوروبا هي الأقل أخلاقا خارج أوروبا.
"العالم" لا يتضامن مع ضحية لأنها ضحية. هذا ما يقوم به بعض النشطاء الأخلاقيين الصادقين... ولا "شرعية دولية" تُعِينُ مهزوما، أو تهرع لتأخذ بيده على إحقاق حقوقه، أو على تنفيذ القانون الدولي. "العالم" يتضامن مع ضحية تقاوم لانها على حق وتريد ان تنتصر... والشرعية لمن لديه القوة أن يفرضها.
الأساس هو الصمود على الأرض، الاساس هو قلب حسابات العدوان بحيث يدفع المعتدي ثمن. هذا ما سوف يفرض نفسه على القمة العربية، وهذا ما سيفرض نفسه على الهيئات الدولية.
التضامن المسمى إنساني مع الضحية لا يدعو للحقوق بل للإغاثة. لا معنى للتضامن السياسي المطلوب عربيا، إذا لم يدعم صمود المقاومة. الإغاثة عمل مهم ولكنها ليست هي التضامن.
خطأ الحديث عن تضامن فلسطيني فلسطيني، أو تضامن الضفة او الشتات مع غزة. هذه نفس القضية، ونفس المعركة ويجب أن تخاض. لا أحد يسدي لأحد معروفا هنا.
حتى الأعداء يعالجون الجرحى في الحروب. حتى الأعداء يسمحون بدخول قوافل الأدوية والغذاء. هذا ليس عمل تضامن، ولا هو أضعف الإيمان.
يجب ألا يتحول التضامن العربي الانفعالي إلى تنفيس عربي، فبعده تستفرد إسرائيل بنفسها الطويل بالشعب على الأرض. ومن أجل ذلك يجب وضعُ أهدافٍ سياسية له. أهمها أن تخسر إسرائيل المعركة سياسيا، وذلك بإضعاف ومحاصرة التيار الذي يؤيد اية تسوية معها... وهذا نضال تصعيدي حتى تحقيق الهدف، حتى يحصل تراجع بعد آخر لإسرائيل والقوى المتعاونة معها على الساحة العربية. يمكن إفشال العدوان.