تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

بمناسبة النقاش عن سعيد عقل

2014-12-06

د. عزمي بشارة

غالبا، ما أتجنب ذلك النقاش حول الشخصيات الأدبية المعروفة، ولا سيما الذي يثار بعد وفاتهم، إذ تختلط فيها بلاغة التقريظ بالتعداد التقليدي لمناقب الفقيد مع محاولة قول شيء جديد ومتميز في دفق الكتابات الذي يملأ الصحف، خلال أيام الرثاء المعدودة، قبل أن يخلي مكانه لمشاغل الناس الأخرى. ولكن النقاش حول سعيد عقل استوقفني، ليس فقط لأني معجب بشعره، وحتى عبقريته الشعرية التي ندر مثيلها بين معاصريه، ولكن، أيضاً، لأن بعض الإشكاليات التي أثارها هذا النقاش مهمة فكرياً، ويتجاوز، في أهميته، الانقسام المألوف الذي يبدأ وينتهي  بـ"نحن" و"هم"، أو "نحن" و"أنتم" من دون تفاعل في حوار حقيقي.

بعض الأخوة المتناقشين أخضعوا تقييم شعر سعيد عقل لموقفهم السياسي من صاحبه، باعتباره عنصرياً، وهو عنصري فعلا بأي تعريف. فأصبح من المتعذر على العنصري أن يكون شاعراً، لأن الشعر بطبيعته، من وجهة نظرهم، أسمى من أن يكون نتاج شخص مصاب بلوثة كهذه؛ ولأن الشاعر، بطبعيته، روحاني رقيق، قدَّ من طبيعة خيّرة. والحقيقة أن هذا الطرح يرتكب خطأين، أولهما تقييم قيمة عمل إبداعي بموجب مواقف صاحبه السياسية، أي ليس بمعايير جمالية، أدبية أو فنية؛ وثانيهما إخضاع البشر العينيين إلى مقولة أسطورية حول طبيعة خرافية للشعراء. وأضيف إن أصحابها أنفسهم يتجاهلون تطبيقها على بعض الشعراء من معسكرهم ممن "يتمتعون" هم، أيضاً، بكم وافر من الفظاظة والنرجسية والانتهازية الشخصية والسياسية. ولكن المتغنين بطبيعة مختلفة للشعراء، يُحِلون أسطورة شخصية الشاعر السماوية محل شخوص الشعراء الفعليين الأرضيين، مثلما يضعون الأسطورة، هذه نفسها، في مواجهة شخوص الأدباء الذين يمقتونهم بسبب مواقفهم، أو لأنهم في المعسكر المضاد. وقد يمقتونهم بحق.

في المقابل، رفع بعض المتناقشين مقام الشاعر مع مقام قصائده، حتى جعلوا عنصريته وفظاظته، المصرح بها حد البذاءة، من ضمن جنون الشاعر المحبب، حتى كادوا يتغنون بهذه العنصرية المقيتة والقسوة والعنف الكامنين بها. وبعضهم لم ينكر أقوالاً نطق بها الشاعر، من حين إلى آخر، ضد الفلسطينيين، لكنهم اعتبروها من الزلات والهفوات التي يفترض، برأيهم، أن نتسامح معها.

يكشف هذا النقاش عن مشكلة ذوقية وفكرية حقيقية. فهي تخلط بين الإبداع الفني والأدبي وشخصية المبدع، فتضفي عليه قدسية، أو تشيطنه وترفض الاعتراف بنتاجه. وهي شبيهة بالنزعة الشعبية لتحويل أشخاص إلى نجوم أو شياطين.

مثل هذا الإرباك لا يمكن أن يحصل مع نتاج العلماء في مواضيع اختصاصهم، لأن الفصل، هنا، بنيوي واضح. فنحن لا نسأل عن شخصية مخترع البنسلين أو الإسبرين، أو مكتشف قوانين الفيزياء التي قادت إلى بناء المحرك النفاث، لكي نستخدمه ونستفيد منه. فهؤلاء لم (ولن) يصبحوا نجوماً. وغالباً ما نجهل أسماء العلماء، خلافاً لمعرفتنا بأسماء المجرمين القتلة، من السياسيين المتوسطي الذكاء، أو الأغبياء على أنواعهم، أو مثلما نعرف أسماء رجال ونساء كل مؤهلاتهم محض جسدية، وقد يكون الكشف عنها للعموم كل المطلوب لاكتشافها.

ولكن الإرباك يحصل في حالة الإنتاج الثقافي، لأننا نتوقع من المثقف التزاماً بقضايا المجتمع والإنسان. والمصيبة أن هذا الالتزام ذاته قد يقود إلى مواقف شمولية متطرفة، ينقلب فيها الخير شرا بسهولة.

من العبث إنكار قيمة عمل أدبي عبقري لأن صاحبه عنصري، أو لأنه متطرف ينتمي في المعسكر الآخر. مثل هذا يقود، أيضاً، إلى تضخيم قيمة عمل أدبي، لأن صاحبه من "معسكرنا"، كما يقود إلى تجاهل صفات المبدع الشخصية والاجتماعية السيئة، والتي يجري التستر عليها غالبا.

ليس من مانع نظري في تقييم عمل كأدب رفيع، على الرغم من الاصطدام مع صاحبه في الصراع ضد الظلم، ولا حاجة لمنحه "تنزيلات" عند إدانته أخلاقيا، ولا التسامح معه، حين يقف مع ديكتاتورية دموية، ترتكب جرائم إبادة جماعية لأنه شاعر. ومن حق شخص أن لا يستمتع بعمل أدبي لأديب بعينه، لأنه يتذكر عند قراءته مواقف صاحبه المثيرة للغثيان. فهذا حقه، طالما لا يعتبر حساسيته هذه نقداً أدبياً موضوعياً لقيمة عمل هذا الأديب. لكن، ما العمل؟ ثمة أدباء وشعراء تبنوا مواقف فاشية، يمينية ويسارية (فالفاشية وتقديس سلطة الدولة ليست حكراً على اليمين). بعضهم أبدع أدباً راقياً جميلاً، وبعضهم صنع أدبا مجنّدا، لا يستحق تسمية الأدب إلا في معسكره، وملاحق معسكره الثقافية.

وسعيد عقل، برأيي، ينتمي إلى الصنف الأول، فهو إنسان صغير أنتج أدباً كبيراً. ويعج هذا المعسكر بالأشخاص الأفظاظ والانتهازيين والعنصريين الذين أنجبوا أدباً راقياً وجميلًا. إنهم بشر صغار، لكنهم أنتجوا أدباً عظيماً. ولا يندر أن يكون المبدعون بشراً صغاراً، ذوي مصالح ونزوات ومواقف غير ناضجة، عاطفياً وفكرياً، مثل بقية البشر. ونادراً ما يتميز بعضهم في الفضيلة. هذا، بحد ذاته، لا يجعلهم عمالقة، إلا في الأسطورة التي تحاك عنهم. وغالباً ما حاكها بعضهم عن نفسه، أو شارك مباشرة في حياكتها.

يبدو أن الناس يميلون، على الرغم من كل شيء، إلى صناعة النجوم والشياطين، وهو ميل ديني، أو تعويضي عن الدين عند العلمانيين. وإنقاذ معايير الأدب والفن والجمال من هذه الصناعة مهمة عسيرة

صحيفة العربي الجديد