تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

بداية توازن اقتصادي

2007-10-07

يبلغ مجمل الاستهلاك في الولايات المتحدة، أربعة أضعاف مجموع إنفاق المستهلكين في الصين والهند معاً. ولكن في عام 2007، فاق إسهام هذين البلدين في الزيادة التي طرأت على مجمل الإنتاج العالمي إسهام الولايات المتحدة. وربما يعادل إسهام الصين وحدها في النمو العالمي في العام القادم الإسهام الأميركي (المقصود حصة الصين في الزيادة السنوية لمجمل الإنتاج العالمي).
 

ويقدِّر اقتصاديون جدّيون أنه لولا هذه الاقتصاديات العملاقة والسريعة النمو في الصين أولاً، وبقية دول آسيا ثانياً، لما سدّ الطلب الأميركي المتقلّص وحده رمق الاقتصاد العالمي، ولزجّت أزمات العقارات والركود الاقتصادي في الولايات المتحدة الاقتصاد العالمي في أزمة دورية عاتية تشبه التضخم والانهيارات في الأزمات العاصفة في القرن العشرين.
 

نحن إزاء نشوء توازن دولي من نوع جديد، له طابع اقتصادي عظيم النتائج والدلالات، أهمها ارتفاع أسعار جميع المواد الخام، وبدأ انحسار هجرة الأيدي العاملة من آسيا جرّاء توسّع سوق العمل المحلية، وازدياد وزن الصين الفعلي في الاقتصاد العالمي... وهو خلافاً لوزن دول الخليج مثلاً، ليس مالياً ودائعي الطابع فحسب، ولا إنشائياً إعمارياً فقط، بل هو اقتصادي إنتاجي شامل، ولا مجال لسبر جميع دلالاته، ولا حتى جزء منها في هذه الزاوية. ولكن آثاره السياسية والعسكرية غير واضحة بعد... اللهم إلا في المحيط المباشر للصين، الذي تعدّه مجالها الحيوي. ومن دلائل ذلك، أنه لولا موقف الصين حالياً، لما كان بالإمكان إنقاذ النظام في ميانمار (بورما السابقة) من العقوبات الدولية، التي تسقطها الصين في مجلس الأمن... أما التدخل العسكري، فغير وارد أصلاً.

 

ميانمار.. بناء على ما تقدم
 

ربما يؤمن حكام ميانمار العسكريون فعلاً أن الجيش هو الحل الوحيد لعدم الاستقرار في البلاد. فبعد انقلاب عسكري، استقر البلد لأول مرة بعد فوضى حقيقة إبّان الحكم البرلماني الممتد منذ الاستقلال عام1948 وحتى 1962. وقد واجه النظام العسكري، فيما واجه، أكثر من ستة أنواع من الميلشيات المسلحة لحركات تمرد إثنية الطابع، على طول حدود البلاد. 
 

لدينا هنا حالة ديكتاتورية عسكرية تدّعي أن الاستبداد، وأداته الجيش، هو الحل الوحيد للحفاظ على وحدة بلد قد تمزّقه الفوارق الإثنية والقومية في حال التنافس التعددي. ولا حاجة للتذكير بأن هذا النوع من المنطق معروف جيداً للقارئ العربي.
 

ورغم تمتعه بالثروات الطبيعية، لم يحجب الحكم العسكري القمعي الشامل البلد فحسب، بل أفقره أيضاً. وأصبح إنسان هذا البلد الغني بالأخشاب والنفط والغاز والمعادن، بحاجة إلى المعونات الخارجية لسد الحاجات الأساسية، وأصبح إنتاج وتهريب المخدرات في المثلث الذهبي المشترك مع لاوس أكثر شهرة من نفطه وغازه.

رغم أن بثّها يتواصل على مدار الساعة، لا تجنّب القنوات الإخبارية المشاهد التعامل البدائي مع الأخبار السياسية المفاجئة كأنها كارثة طبيعية. إذ يبدو من الأخبار التي تذاع فجأة، بناءً على تطور دراماتيكي مثل التظاهرات الجماهيرية، كأن ميانمار انفجرت على حين غرّة. الجماهير في الشارع، والـ«خونتا» العسكرية تتراجع وتسمح بالتظاهر، ثم تعود للقمع، وقائدة المعارضة في بيتها فاقدة الصلة بما يجري منذ أن فُرضت عليها الإقامة الجبرية منذ أكثر من عقد، وصورتها تتحول إلى أيقونة في «الغرب» الذي يرتاح عموماً إلى «المسالمين» من سياسيي العالم الثالث. الحصار أو السجن أو المنفى تفقدهم العلاقة مع الواقع، وتجمد آخر صورة كأيقونة، وتعقّم الصورة السياسية من العمل ومن الأخطاء.
 

الأيقونة ليست جامدة، وصاحبتها منفصلة عن الواقع لا علاقة لها بما يجري، حتى لو استدعيت فيما بعد لكي تتزعم الحركة. حزبها مقموع وليس قوي التنظيم في الداخل. أما الإضافة النوعية، فتتمثل بالرهبان البوذيين الصارمي التنظيم، الذين قرروا الانضمام إلى الاحتجاج السياسي، والمطالبة المباشرة بالديموقراطية. وما زالت المعلومات عمن يصنع قرارهم، وعلى أي مستوى في الهرم الديني تقع قيادتهم، من المخفيات غير المرئية.
 

حتى في ميانمار، تجري الأمور كصيرورة، إلا أن هذا التدرج لا يحظى بتغطية وسائل الإعلام الإخبارية المتقطعة قفزاً من دراما إلى أخرى، رغم أنها متواصلة البث. والاحتجاجات التي وصلت قمتها يوم 27 أيلول وشكّلت خبراً، بدأت في آب على شكل تظاهرات تعدّ استمراراً لتظاهرات عام 1988، وقد نظّمتها بقايا تلك الحركة الطالبية، وقد قُمعت بالقوة، وربما افترضت وسائل الإعلام أن تتبخر دون أثر يذكر، ولذلك لم تنتج خبراً فضائياً.
 

وبعد انضمام الرهبان البوذيين إلى تظاهرة أطلق فيها الجيش النار فوق رؤوس الرهبان، تطورت الأحداث. ولم تهدأ أعمال الاحتجاج من حينه. فقد حدد الرهبان يوم 17 أيلول للاعتذار. ولمّا لم يحترم النظام هذا الموعد، بدأت المسيرات في اليوم التالي. حدث هذا في بلد يعيل أكثر من أربعمائة ألف راهب بوذي، أي ما يساوي عدد الجنود في جيشه.
 

قُمعت ثورة الطلاب في ميانمار بين الأعوام 1988 و1990، بإطلاق النار على المتظاهرين المسالمين، وبمذبحة سقط فيها ثلاثة آلاف مدني قتلى. وهي الأعوام نفسها التي قُمعت فيها انتفاضة الشباب والطلاب في بكين (1989). وقد جنّب تصميم القوى الحاكمة والقمع الدموي غير العابئ بالاحتجاج الدولي هذين البلدين موجة التحولات الديموقراطية التي عمّت العالم في الثمانينيات، وشملت إسقاط نظام ماركوس في الفلبين المجاورة بأسلوب الانتفاضات المدنية الشعبية نفسه.

يمكن القول إنه رغم انتهازية الغرب، وفرنسا تحديداً، التي بات وزير خارجيتها أشبه بمهرج يستعيض عن الخفة السياسية بخفة الدم المصطنعة، فإن العائق الأساسي أمام انهيار النظام القمعي في بورما هو التوازن الدولي الفاعل في منطفة محدودة، واقعة في مجال الصين الحيوي حتى الآن.

 

ـ هذا دور سلبي لا إيجابي للصين التي نتفاءل بدورها خيراً؟

ـ الصين دولة غير ديموقراطية، ولكنها دولة عظمى، يكون التوازن الذي تحدثه مفيداً أحياناً وأحياناً أخرى مضراً...

ـ التوازن الدولي بقوة مثل الصين ليس أمراً إيجابياً دائماً.

ـ طبعا لا. إنه على أية حال توازن، وقد يفيد في المستقبل. ولكنها ليست قوى الخير في مواجهة قوى الشر. إنها مثال في النمو لبعض دول العالم الثالث التي يلهمها المثال. ولكن حتى بالنسبة إلى النمو، أنت لا تريد أن تعيش في الصين، وأن تشارك في دفع ثمن هذا النمو.

 

تطبيع
 

يعني التطبيع، كمصطلح عربي في السياسة، تطبيع العلاقات مع إسرائيل، اي تحويل ما عُدّ كياناً غير طبيعي أو غير عادي أو غير مقبول، إلى طبيعي وعادي.

يرافق تحويل الحالة الاستيطانية إلى حالة طبيعية في المنطقة العربية تبنٍ لمفاهيمها في وصف ذاتها وتاريخها وتاريخ الشعب الفلسطيني وتسمياتها هي للمكان وتحقيبها للزمان.
 

يكمن التحدي في التعامل بواقعية مع ما هو قائم دون تطبيع العلاقة به، ودون قبول الرواية الإسرائيلية عنه، وعن تناقضاته الداخلية.

تعني الواقعية النقدية فهم الواقع كما هو لنقده، وأن الواقع لا يتغير بمجرد إنكاره أو كتابة الأحجبة له بتسمية الواقع بما نرغب. ويعني رفض التطبيع عدم التعوّد والتعويد على أن الصهيونية أقامت على أرض فلسطين كياناً طبيعياً. وربما لا يدري السادات كم صدق هنا عندما تحدث عن أهمية «إزالة الحاجز النفسي بيننا وبين إسرائيل»، وكانت هذه فعلته الرئيسية.
 

أهم تحدٍ في هذا السياق حالياً، هو اعتبار إسرائيل دولة طبيعية في حدود 67 واستعمارية خارجها. وهذا يعني التسليم بعلاقات طبيعية مع الصهيونية وإسرائيل بعد التسوية، وهذا يعني تخيل حالة من هذا النوع وممارستها حتى دون تسوية، ما دام بالإمكان تخيّل إسرائيل دون احتلال. في هذه الحال، لا تعود إسرائيل دولة طبيعية فقط، بل تصبح أكثر دول المنطقة طبيعية في انسجام هويتها، وعملية بناء الأمة فيها، ويخرُجُ البعضُ من خزانة إعجابه السري بها، إذ يدعو للتمثل بها كدولة حديثة وديموقراطية.
 

إذا تجاوز التعامل مع إسرائيل «تفصيلاً» من نوع كونها واقع كولونيالي عنصري، تصبح عندها دولة طبيعية، وعادية وديموقراطية، ويجوز حتى التمثل بها في التفاصيل.

 

 

محاولات لإجابة
 

بين من راجعوا تجربتهم اليسارية، يساريون ديموقراطيون وقوميون يتمسكون بما يعتبرونه القيم نفسها، أو عالمها نفسه على الأقل، وآخرون اعتبروا الصدق مع الذات يتطلب ترك الوعظ بالسياسة... كلها ردود فعل مشروعة وإنسانية، وخاصة إذا قورنت بما يصدر عمن ينتقلون نحو اليمين كأنه استمرار طبيعي، وباعتداد بالنفس لمن أمضى عمره على حق، وهو حتى «يحمّلنا جميلة» أنه لا يحاسب نفسه، فهو مشغول بالتهجم على الناس بفظاظته وغروره نفسيهما عندما كان يقبض على زمام الحقيقة المطلقة في اليسار.
 

تساءل صديق عزيز: لماذا يبزّ بعض اليساريين السابقين المنتقلين إلى مواقع اليمين أقرانهم الجدد في التحريض على اليسار وفي السخرية من المقاومة والنضال؟

هنا محاولة إجابة سريعة ومقتضبة وغير وافية طبعاً: يحضر هذا النوع إلى اليمين أسوأ ما اكتسبه في اليسار الدوغمائي: أولا، نسبية القيم والأخلاق، وإطلاقية الأحكام العلمية بدل العكس، أي بدل إطلاقية القيم ونسبية صحة النظريات العلمية. وهو بهذه البنية الذهنية لن يصبح في حياته ديموقراطياً. صاحب مثل هذا النهج يتساءل: ماذا تخدم قيمة مثل الصدق قبل تبنيها؟، ويتساءل: هل النضال يُبنى على «نظرية علمية؟» وهل «انتصاره حتمي» لغرض تبنّيه؟ يخسر هذا النهج عالم القيم ولا يربح منهجاً علمياً.
 

ثانياً، الميل الإيديولوجي للتعصب المستند إلى حتميات ومطلقات. ويبدأ هذا الميل تعصباً لنظرية (إقرأ إيديولوجية!!)، وغالباً ما يتخذ شكل ادّعاء فهم العالم كله من نص واحد صغير، مهما كان عبقرياً، مثل البيان الشيوعي، أو من مقالة تبسيطية مدرسية في لي عنق الماركسية لأهداف سياسية عند لينين. ثم لا يلبث أن ينتقل إلى التعصب لجماعة، مثل بقية العصبيات الجاهلية. قبل ذلك يكون غيره من اليساريين قد باشروا بعمليات النقد الذاتي لأسباب قيمية. أما هو، فينتقل إلى اليمين مفجوعاً بفضيحة الانهيار الاشتراكي أو لصدمة شخصية، أو لمصلحة شخصية، أو غيرها، فيقلب العصبيات إلى عدمية، ما هي إلا الوجه الآخر للتعصب.
 

ثالثاً، الترفع على مفاهيم مثل القومية والوطن، والتعويل على قوة خارجية دائماً للخلاص من نوع: التقدم على الصعيد العالمي، والثورة الدائمة، والمعسكر الاشتراكي وغيره، وتجاهل بناء المؤسسات وأي عملية تنوير للمجتمع الذي يعيش فيه وثقافته. يسهل هنا الانتقال من معسكر عالمي إلى آخر دون المرور بأرض الوطن... وتساعد في ذلك الحصانة الدائمة ضد فكرة القومية العربية، وعدم التساؤل حتى عن النتائج الرهيبة للتمسك باعتبار العرب هم الشعب الوحيد الذي يفترض أن يكون منزوع القومية.
 

هذه بعض من الأفكار التي يحضرها معه إلى موقع اليمين الذي قلّما سمع بها، وهو الأكثر حذراً في التعامل مع الأخلاق والقيم بنسبية، والأكثر حرجاً في التهجم على القومية والوطنية.