أقيمت حركة حماس من قبل تنظيم الإخوان المسلمين. وبدأ العمل على إقامتها في العام 1984، وقد بادر إلى ذلك شباب الإخوان الفلسطينيين ممن تأثروا من التنافس مع القوى والفصائل الوطنية في الانتخابات الطلابية وغيرها، وأصروا على إقامة حركة مقاومة للاحتلال. ومن هنا جاءت سهولة تنظيمها بعد بداية الإنتفاضة الأولى مع صدور بيانها الأول في كانون الأول 1987. فمن اعتبر بيانها مفاجأة كان يجهل حجم الإعداد الذي سبقه واتساع القواعد السياسية والإجتماعية.
ومنذ ذلك الحين اتجهت الحركة بالتدريج إلى تجاوز الإخوان التقليديين انفتاحا على الحركات الأخرى، وفي مرونة الموقف الاجتماعي، وفي دينامكيتها السياسية وفي أساليب النضال. ولذلك لا يخطئ من يعتبرها حركة تكفيرية فحسب، بل يتجنى على الواقع والحقيقة. إن من يعتبر حركة وطنية واسعة مثل حماس حركة تكفيرية هامشية يقوِّض إمكانية بناء المقاومة، وحتى المجتمع في فلسطين. وهو نفس النهج الذي يجهض إمكانية بناء الديمقراطية في المجتمعات العربية.
ولا شك أن عملية بناء الديمقراطية وعملية بناء الأمة عربيا تحتاج إلى اتفاق على قواعد اللعبة الديمقراطية بين التيارات السياسية الرئيسية. ونحن نلحظ تقدما في هذا الإتجاه من قبل التيار الإسلامي الواسع والذي يميز نفسه عن التيارات التكفيرية. يجب أن يقبل التيار الإسلامي قواعد اللعبة الديمقراطية ومبادئ المواطنة المشتركة والحريات وثوابت الدولة القومية. ولكن كل من يرى إمكانية لعملية ديمقراطية دون الحركات الإسلامية الواسعة في أيامنا، لا يدري عم يتكلم. فعملية استثنائها تعني تكريس نظام الحكم غير الديمقراطي. وإذا كانت هذه الحركات ممتدة اجتماعيا وسياسيا ورفضت إقصاءها يتحول النظام ومعه قوى سياسية إلى القمع الدموي السافر الذي يحول ممارسات الحركات الإسلامية المتوقعة في الحكم إلى مسألة نظرية في مقابل الواقع الدموي. ويتحول مثقفون علمانيون ممن يستفزهم كل مظهر قمعي من الحركات الدينية إلى التنظير للقمع الدموي من قبل الأنظمة.
ومن ناحية أخرى ثبت أن توق الحركات الإسلامية الواسعة إلى المشاركة وتعاملها مع الفئات الإجتماعية الواسعة والعملية السياسية يؤدي إلى إصلاحها لذاتها ولمبادئها، في حين أن فرض العزلة والإقصاء عليها يؤدي إلى إمعانها في الموقف الرافض للمؤسسات والنظم الحديثة وتكفيرها. ليس للقوى الديمقراطية من بديل سوى محاورة الحركات الإسلامية الإجتماعية السياسية الواسعة ومحاولة التأثير عليها، بشرط أن توافق الأخيرة على هذه العملية وتنفتح لها.
إن من يتهم حماس بأنها حركة تكفيرية هو إما مغرض، أي ذي غرض آخر غير ما يقول، أو لا يدري عم يتكلم. ومن يرى بإمكانية إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني دون التيار الإسلامي الواسع على الساحة، وهو يشمل حركتي حماس والجهاد الإسلامي، لا يتحدث عن معرفة وتحليل يؤسس لرأي مختلف حول إعادة بناء المشروع الوطني، بل يقصد في الواقع مشروعا آخر. وهو مشروع لا يستند إلى الإجماع الوطني الفلسطيني بما فيه الإتفاق على قواعد اللعبة التي يجب أن يحترمها التيار الإسلامي، بل يعتمد على تفاهم، وربما تحالف، مع إسرائيل وأميركا ضد الإجماع الوطني الفلسطيني.
ولا يهم في موقفه هذا المتفاهم مع إسرائيل إذا كانت القوة التي تحركت للإمساك بالأجهزة الأمنية في غزة حركة إسلامية أو علمانية، المهم بالنسبة له أنها ضد التسوية والمهم أنها ترفض استخدام الأجهزة الأمنية ضد المقاومة، ولا تقبل أن تكون هذه الأجهزة في خدمة تيار سياسي بعينه. هذا وحده يكفي لكي يعتبرها عدوا ويرفض الحديث معها. والحديث يدور عن تيار هو أقل من فصيل، بل لا يتجاوز أن يكون تيارا داخل فصيل يستخدم الأجهزة للسيطرة على الفصيل ذاته ثم لفرض أجندته السياسية ضد المقاومة وضد خصومه.
من هذه الناحية لا أهمية لهوية التيار الذي ربح الانتخابات ومُنِعَ من ممارسة دوره وحرم من السيطرة على الأجهزة الأمنية كأي حكومة تتشكل، بعد أن ربحت انتخابات. لا أهمية مبدئية هنا لكون حماس حركة دينية. ولنفرض أنها حركة مقاومة علمانية رافضة للتسوية وربحت انتخابات في مثل هذه الظروف، هل كان سوف يسمح لها بالسيطرة على الأجهزة الأمنية كحكومة منتخبة؟ ألم تكن لتتعرض إلى حصار بسبب إصرارها عى المقاومة ورفض التسوية مع إسرائيل؟ وهي بدورها ما كانت لترضى بهذا الواقع. ولا علاقة لكونها أصولية أم إسلامية أو علمانية بمجرى الأمور هذا. لا ترضى حكومة علمانية أن تكون الأجهزة الأمنية ليس فقط خارج سيطرتها بل أداة في محاربتها ولفرض تيار سياسي بالقوة، وهو تيار لا يرضى بالوحدة الوطنية ولم يربح الانتخابات، ولا حتى داخل فصيله. ولنذهب هنا أبعد قليلا فنقول إن الجرائم التي ارتكبت في حالة ميدانية تصعيدية تدهورت إلى انتقام وثأرية وتدحرجت أثناء القتال لا تميز حركة دينية تكفيرية بالضرورة بل تميز الغوغائية عموما عندما تسيطر على الشارع. ولا أريد أن أذكِّر الناس بمشاهد تاريخية لثأرية حركات علمانية ودينية على حد سواء في حروب أهلية في دول بعيدة ومجاورة.
ولذلك فإن النصوص التي تستحق التعليق والتي تناولت أحداث غزة الأخيرة من منطلق دينية حماس كحركة إسلامية، وتجاهلت كونها حركة مقاومة شعبية واسعة وعريضة وربحت الانتخابات وحوصرت وتم التآمر عليها، حولت رابح الانتخابات إلى انقلابي وقادة الأجهزة الأمنية إلى ضحية انقلاب. إنها في الواقع نصوص غير مسبوقة في تلفيقيتها وقلة استقامتها ورهانها على عداء القارئ للحركات الإسلامية أو الخلط بينها بشكل يخجل منه حتى المستشرقين. لا علاقة لهذه المواقف لا بالتقاليد الديمقراطية ولا بالإنصاف، ولا بصرامة التحليل والدقة المطلوبة من مثقفين.
كاتب هذا المقال يخطئ دخول حركة حماس السلطة أصلا، ولكن أين ممارسات حركة حماس الأصولية أو التكفيرية في السلطة. وكيف يمكن لمحلل يحترم نفسه أن يتجاهل حتى التغيرات التي طرأت على الحركة وتطورها في السنوات الأخيرة.
كل هذا لا يعفي حركة حماس طبعا من التعامل بمسؤولية وطنية مع ما جرى ويجري بعد أحداث غزة، بدءاً بأول تنسيق عربي رسمي علني مع إسرائيل على هذا المستوى ضد المقاومة، وانتهاء بتفنيد فكرة الإمارة الإسلامية المغرضة التي استوردت لاستدعاء تداعيات سلبية من حركات سلفية قرسطوية على نمط طالبان للتحريض. على حماس أن تثبت أنها لا تفرض آراءها ونمط حياة رجالها ونسائها على الناس في غزة تحت أي مسمى كان، ولا حتى كما يجري في بعض الدول العربية "المعتدلة" التي لا تشكل مشكلة بالنسبة لمثقفين علمانيين معتدلين ممن استنفروا ضد حماس. وعلى حماس أن تمتنع عن مثل هذه الممارسات ليس لكي تعجب أحدا، بل لأن ممارسة الفرض والقسر الديني ممارسة باطلة، ولأن هذا ليس هدفها في مرحلة التحرر، ويجب ألا يكون هدفها بعد التحرر. ويتوجب على حماس أن تدير قطاع غزة بحكم صالح وشفافية ونجاعة وبتعاون مع كافة القوى السياسية والاجتماعية التي استثنيت من حكومات فتح وحماس، وكما يستحق أهل غزة الذين عانوا الأمرين تحت الاحتلال وتحت أوسلو في ظل السلطة.
ويبقى الأمر المهم هو تجاوز تقسيم المشروع الوطني الفلسطيني إلى كيان سياسي محاصر في غزة يصارع على الخبز والوقود، وكيان آخر يقزَّم إلى استعادة امتيازات اقتصادية وسياسية ودبلوماسية لنخبة أوسلو المتحررة من الشراكة مع حماس التي كلفتها حرمانا مما تعودت عليه منذ تلك الأيام. الأمر الأهم هو تجاوز إخراج القضية الوطنية وحقوق الشعب الفلسطيني من النقاش، وفي مقدمتها القدس والعودة وإزالة الاحتلال والمستوطنات.
ولذلك فإن امتحان حماس هو في قدرتها على اجتذاب القوى المجتمعية والفصائل المعارضة فعلا لهذا الانقسام، وغير القابلة لنموذج سلطة ترفض الحوار مع حماس في حين تحول الحوار مع إسرائيل إلى تنسيق مواقف، أي تحالف، ضد حماس. وبعد أن تكسب حماس ثقة هذه الفصائل التي خسرتها في عملية تقسيم الحصص مع فتح في الحكومة سوف يكون عليهم جميعا مناقشة السلطة وشخوصها الرافضة للحوار والفرحة بالتخلص من اتفاق مكة وعبء الشراكة مع حماس، ليس في منافسة بين النموذج الناجح والفاشل بين غزة والضفة، بل على المشروع السياسي.
يجب أن يطرح السؤال حول المشروع السياسي لهذه السلطة التي يتبارى العالم على الاعتراف بها كحكومة طوارئ. حسنا، مبروك. وماذا بعد؟ هل سوف يؤدي هذا الاعتراف لتصعيد المعركة ضد حماس أم لتعزيز موقف السلطة التفاوضي لاسترجاع الحقوق الوطنية الفلسطينية. "ولنكن واقعيين"(!!)، فنحن لا نتوقع منها أن تحرر القدس ولا أن تحقق حق العودة، ولكننا نتوقع أن تتمكن مع كل هذه الاحتضان الدولي والإسرائيلي من العمل على إزالة الجدار وإزالة المستوطنات، وألا تقبل أن تخضع من جديد لامتحان اثبات جديتها في العداء لحماس بقطيعة أوثق مع غزة وبممارسات أكثر قمعية ضد المقاومة في الضفة الغربية مثلا. هذا مسار يقود إلى التهلكة بغض النظر عن المعاشات والامتيازات وتصاريح الخروج والدخول من وإلى فلسطين، وحتى جلب القوات وتعزيزها..
في المقابل يجب أن تطالب حماس بضمها إلى إطار وطني أوسع يتجاوز الإنقسام الحاصل في المناطق المحتلة ويلتف عليه إلى فضاء القضية الفلسطينية كشعب وكقضية وطنية شاملة. يجب أن يبدأ الحوار هنا، من خلال إعادة بناء منظمة التحرير. وإذا رفض ذلك وتم تقزيم المنظمة إلى أداة في خدمة جدول أعمال سلطة سياسية في الضفة الغربية فيجب التفكير بكيفية وإطار تفاعل القوى السياسية الرافضة لهذا الإنقسام، الرافضة لرفض الحوار، والمستقلين والمثقفين وكافة الفئات التي ترى في هذا الواقع المشوه افتراءً على الشعب والواقع والتاريخ، من أجل طرح وتمثيل القضايا الوطنية الكبرى بشكل يتجاوز مؤامرة النموذجين في غزة وعلى جزء من الضفة.