غادر القدس فصح آخر، ولفظت ألوان الشعانين وسبت النور الكرنفاليين نفساً آخر. منذ مدة تصارع الأعياد على حياتها وعمقها الشعبيين، إذ تشهد المدينة اضمحلالاً تدريجياً للكرنفال الشعبي الديني بما يضفيه من زهو وتنوع على المدينة، وبعمقه الشعوري مقارنة بالكرنفالات المصنوعة الاستهلاكية.
يصعب تخيل عيد شعبي تختلط فيه الأناشيد والتراتيل الدينية بالأهازيج الشعبية والعادات المحلية الشرقية العربية الفلسطينية المسيحية مثل أحد الشعانين الذي استقبلت القدس فيه بسعف النخيل ملكاً راكباً أتاناً. وسبت النور، ذلك النور الذي يتخاطفه الناس المتجمعون في ساحة القيامة في حالة نشوة جماعية تثور حال خروج البطريرك من قبر السيد المسيح حاملاً شعلته. تنتظره على أحرّ من الجمر وفود من المدن والقرى المحيطة تحمله الى كنائسها لتضيء به شموعها استعداداً لـ«الهجمة» والاحتفاء بالقيامة بعد منتصف ليلة السبت صباح الأحد.
وتنتظره بدموع منهمرة أو منحبسة عجائز يونانيات بات حجيجهم منذ قرون الى هذا اليوم وهذا المكان جزءاً من منظر القدس.
عيد الميلاد جميل خاصة إذا تضمن الشجرة والزينة وقصة ملوك المجوس والرعاة مرتلة. لكن في الجوهر كل الأنبياء ولدوا، ونسبت إليهم فكرة الاحتفاء بميلادهم حتى حيث لم توجد سابقاً، أما الصلب الذي تثبت معاني القيامة أنه شبّه لهم، معنى ومغزى، فهو خصوصية المسيحية. وقد يكون هذا تفسيراً مقبولاً مسيحياً لـ«وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم».
إنها فكرة الغفران ليس فقط بعبارة «يا ابتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» التي قالها على الصليب، بل افتداء ذنوب البشر كبشر، أي كإنسانية، وهي أيضاً فكرة الوساطة الإلهية التي تجسر «هذا» العالم مع «ذاك» العالم، العالم الدنيوي مع عالم القداسة المطلق. تتجسد الكلمة أولاً في البشارة والولادة في مذود حقير في بيت لحم، ثم تتسامى إلى ألوهيتها من جديد في القدس، هذه هي فكرة المسيحية والخلاص بتحمل نير الذنوب والعذاب عن البشر. بالصلب والقيامة يفترض أنه فتح مجال الخلاص لكل الناس إن كانوا يعلمون أو لا يعلمون ماذا يفعلون. والمقصود أن يمنحهم الفداء حرية القرار كأفراد لا كقبائل او كشعوب باختيار طريق الخلاص التي باتت بعد هذا الافتداء ممكنة بمجرد الاختيار.
لقد استبدلت طقوس العشاء السري ثم الصلب والقيامة الفصح التوراتي القديم القبلي الإثني الذي يلعن على مائدة عشائه الأغيار، الآخرين، ولا يغفر لهم. استبدل هذا بفصح يقدم فيه جسد المسيح (الفكرة، الكلمة وقد تجسدت) بدل الخبز، ويدعو الى عشائه كل بني البشر، خاصة الفقراء والمحتاجين منهم. فقد وجد المسيح الوقت حتى على الصليب ليغفر ويعد لصاً مصلوباً إلى جانبه بالجلوس في حضرته عندما يجلس على يمين الآب، لأنه قبل رسالة الخلاص.
لم يصعب على ثقافة محلية، ريفية كانت أم مدنية، أن تتبنى هذه المغازي الإنسانية العامة بعد أن رست فيها وفي إطار عاداتها وتقاليدها المحلية.
ولأن الفصح يحلّ في الربيع فقد كان دائماً مشرقاً بهيجاً متعدداً ينتقل من الصيام الى الحزن الى الفرح. وقد شارك في المشرق العربي وفي فلسطين التي اتناولها بالتحديد، الصبية المسلمون والمسيحيون في منافسة كسر البيض الملوّن في مسابقات لا تنتهي، وتبادل الجيران من مختلف الطوائف أطباق كعك العيد، وهو نفسه الذي يُعدّ في عيد الأضحى بالمواصفات نفسها، لكنه ليس من رموز الاحتفالات الأوروبية. ولأن هذه الحلوى مشتركة للبلد بمسلميه ومسيحييه، فقد أكل الأطفال هذا الكعك عدة مرات في العام. أما عيد الميلاد فيحل في الشتاء. وقد كان شتاء الفقراء صعباً. ولم يكن عيد الميلاد مدفئاً ولا موسيقياً، ولم يكن مكتظاً بالهدايا والقطع الاستهلاكية، كما هي حاله اليوم. حتى زينة الأشجار كانت نادرة وغالية الثمن. وفي المدينة كان الاحتفال بالميلاد مكثفاً وأكثر مركزية مما في القرية، وله تقاليده. لكن كان عيد الميلاد على جماله هو «العيد الصغير».
لم يحاصر الاحتلال القدس فقط، بل جوَّفها ايضاً من الداخل، إذ فقدت الوانها بالتدريج مع ضمور بنيتها الاجتماعية وخفوت تنوعها، ثم قمع الاحتلال الشعانين وسبت النور مع قمعه الحيز العام وكل تجمع شعبي عفوي. فما مارس أحدهم رغبة في مناسبة سبت نور وأحد شعانين أن يشارك أطفاله في رؤية هذا الكرنفال الفلسطيني الذي يزنره حجاج وعجائز قبارصة ويونانيون وطليان إلا تعرض لذلك المشهد البائس المتشكل من حرس حدود إسرائيليين يتلهون بالتنكيل بشباب جاؤوا للاحتفال.
وحلّت الحواجز يليها الجدار، فقطَّعت كل شيء وشوهته.
وزاد بالتدريج منسوب التحدي والصمود وحرس الحدود في العيد على حساب البهجة التقليدية وزحام الدين الشعبي.
وتناقص عدد المحتفلين من السكان في موجات هجرة، وفصل الجدار من بقوا بعضهم عن بعض.
درب الآلام زقاق في القدس القديمة يقطعه المصلّون والحجاج من حاملي الصلبان في مسيرة يوم الجمعة الحزينة التقليدية، ينتهي عند الجلجلة، أما درب تشويه القدس ومعالمها الإسلامية والمسيحية التي منها تتشكل عروبتها وفلسطينيتها، وأما درب ألمنا شهوداً على هذا التشويه فلا تنتهي.
ليس صدفة أن يسمى في المسيحية الشرقية، أرثوذكسية كانت أم كاثوليكية، «العيد الكبير» كما كان يسمى عيد الأضحى العيد الكبير أيضاً. فقد كان الاحتفال الرئيسي في المسيحية، من الصيام يليه حداد الجمعة الحزينة ثم سبت النور والضوء المنبعث من القبر ثم يوم العيد الاحتفالي الذي يطرد الشياطين في الهجمة لكي يدخل الملك الرب، يوم القيامة.
اختلط العيد وكعكه وبيضه بأعياد الخصوبة والربيع في المشرق العربي وفي أوروبا وأميركا اللاتينية على حد سواء، فتحول الى عيد شعبي، تحتفل فيه كل طائفة بموجب تقاليدها القومية والوطنية المحلية، في تنوع يمتد من أميركا اللاتينية حتى فلسطين. لا يحتفل شعب بالفصح مثل شعب آخر. الفصح متنوع مختلف متمايز. إنه الربيع والاحتفاء المحلي المتميز بالربيع. إنه الخلاص، ولكل شعب زاوية نظره للخلاص، إنه الغفران، واحتفالات كل شعب بالتطهر من الذنوب قائمة في الديانات القديمة. إنه العبور من الحياة الى الموت، ومن الموت الى الحياة، وطقوسه مختلفة من مكان لآخر. ومن هنا متعة وأصالة الفصح ومحبتنا له صغاراً وكباراً.
فقط منذ عقود قليلة أصبح عيد الميلاد عيد سانتا كلوز وكريسماس والهدايا وفرح الأطفال، الذي يفرح به وله كل من له عقل ومشاعر، والاستهلاك وعملية الشراء التي تستمر شهراً وأكثر، فبات الأطفال يحبونه أكثر من الفصح الذي لا يكاد يفطن له الأطفال. من أين جاءنا هذا التقليد في تهميش الفصح؟
من أميركا طبعاً. هناك جرت عملية تقزيم الفصح، وبرأينا تم تقزيم الميلاد نفسه أيضاً، لمصلحة كريسماس. لقد تصرفت البروتستانتية الأميركية كأن هنالك مشكلة مع إبراز خصوصية المسيحية في الصلب. ومع التنازل عن إبراز خصوصية المسيحية في موسم الأعياد الذي بات يشمل الحانوكا اليهودية، أصبح من باب اللياقة السياسية أن يتبادل الناس التهاني بـ«أعياد سعيدة»، لا عيد ميلاد سعيد.
وقد تحول كريسماس الى كرنفال استهلاك لا ينتهي وتعتاش عليه صناعات بأكملها من أميركا حتى الصين. وفيما عدا البطر الاستهلاكي المنتشر ونضوب فرح الأطفال بالهدايا، فقد نسي الناس بالتأكيد ما تعنيه الرموز التي يشترونها في العيد وهل لها علاقة بالعيد او حتى بالتقاليد المحلية الأخرى.
لكريسماس رونق بالتأكيد، لكنه نمط عالمي. كل الناس يتصرفون في كريسماس بالنمط المتكرر في كل مكان. وكل عام تضاف إليه سلع استهلاكية جديدة. ولم يعد هنالك ما يميز كريسماس عن أمثاله في أقطار أخرى، مثلما تميز عيد الميلاد أو «الميلادي» في الجليل، او «الميلادية» على الساحل السوري مثلا. لقد أخلت هذه مكانها لكريسماس العالمي الذي يتصرف فيه الناس بالشكل نفسه في كل مكان. مملّ ومنمّط أليس كذلك؟ بإمكان القارئ أن يجيب بالنفي بالطبع، ولا بأس، أما الكاتب فيجيب بنعم. لقد أصبح نمطياً معمّماً ويكاد يكون مجرداً. ويفترض الكاتب أن بعض القراء قد اشتاق للميلادي وللفصح المهمشين، أو يرغب في أن يثير حنيناً في من لم يأته هذا الشجن.
كريسماس هو نتاج عملية عولمة، لا يمكن ان تعني في هذا المجال الاستهلاكي الثقافي في عصرنا إلا عملية أمركة، أما الفصح فهو نتاج تفاعل المسيحية الأولى بأعمق معانيها العالمية الإنسانية مع الثقافات الشعبية المحلية. ولذلك فحول كل فصح موحد الشعائر والمغازي الدينية ثمة تقاليد واحتفالات وعادات ورونق خاص يختلف باختلاف المكان. هل يجوز أن ينحاز المرء لعيد الفصح ولعيد الميلاد ضد كريسماس كما يمكن أن يفهم من هذا المقال؟ لا طبعاً، نحن لا نفتح هنا جبهة صراع جديدة: مع وضد.
هذا مجال يحتفي فيه الناس شرعياً برونق وشخصية شعب بدون تعصب قومي، فطقوس العيد الشعبية هي ممارسة لتدين شعبي غير متزمت. وهو ينتج جماليات تداعب الحس لأنها مرتبطة بتكوين الناس الثقافي، تماماً كما تداعبها التراتيل الكنسية البيزنطية، والأناشيد الصوفية، وسماع التجاويد من المسجد المجاور صبح العيد، ولأنها مرتبطة بعلاقة الناس بالمكان.
وتضطر الأصولية مثلما تضطر المؤسسة الدينية لمراعاة هذه الكرنفالات والاحتفالات والطقوس والتكيف معها، رغم أنها غير نصية ولا منصوص عليها، لكي لا تخسر جمهور المؤمنين. وفي العديد من الحالات يتم تبنيها لتصبح جزءاً من الشعائر.
لا ينبغي ان يخضع كل شيء لقوانين السوق. وهنالك قوى اقتصادية واجتماعية تهمش الفصح وغيره لمصلحة عولمة الاستهلاك على النمط الأميركي. وفي مهد الفصح في القدس، وفي بيت لحم حيث صلب عيد الميلاد، يجري كسر الاحتفال بتدخل خارجي اسمه الاحتلال، وبتدخل داخلي يمتص الألوان في الرمادي ويُفقِد المجتمع الفلسطيني تنوعه وغناه.