د. عزمي بشارة
ليس العرب وحدهم في مأزق سورية والعراق، بما في ذلك المسّ بعروبة هذين البلدين ووحدتهما. فإيران تمر فيهما بأزمة حقيقية. وقد وصل الاستنزاف إلى درجة اضطرارها للتعامل مع التململ بين الشيعة العرب العراقيين. ويمكن تخيّل ما سوف يكون عليه الأمر بعد عقد.
هل تشاور روسيا إيران بشأن عملياتها في سورية؟ قطعاً لا. ويمكن أن نضيف من هذا الشعر أبياتاً. فمثلاً:
1. إيران لا تعلم شيئاً عن الاتصالات بين روسيا والولايات المتحدة، بشأن الحل في سورية. تركها "الحليف الروسي" فريسة التكهنات القائمة على تلقّط الأخبار من مصادر دبلوماسية مختلفة.
2. روسيا لا تضع إيران، ولا سورية، في صورة المشاورات المهمة الجارية بين بوتين ونتنياهو اللذيْن تربطهما أواصر صداقة، ليس أقلها مشاعر كراهيةٍ عميقةٍ يضمرانها لأوباما. ومع أن إسرائيل حليفة أميركا بالدرجة الأولى، إلا أن هذا لا يمنع أن تشمل المودة المتبادلة بين بوتين ونتنياهو تفاهماً "أعمق" على تشخيص قضايا المنطقة. وبوتين ونتنياهو يتشاوران بشأن مستقبل سورية، بما في ذلك الجولان.
3. ومن نافل القول إن روسيا لا تشاور إيران، حين تفتح الأجواء السورية للطائرات الإسرائيلية، لتقصف تحركات حزب الله التي تشتبه بها.
وسبق أن بينا، في موضع آخر، أن قاعدة النظام الاجتماعية في سورية، ونخبه الثقافية والسياسية التي لم تنفض عنه بعد، تفضل روسيا على إيران.
ليس الوصف أعلاه من باب المبالغة في شيء، فهكذا يبدو المأزق الإيراني الحالي في سورية. لا أحد يرغب بوجود إيران في سورية غير المليشيات المتحالفة معها.
ولكي تثبت حضورها في أي حلٍّ سياسيٍّ مستقبلاً، تجد الجمهورية الإسلامية نفسها مجبرةً على الكشف عن عدد قتلاها وأسمائهم، والاعتراف بتورّطها العسكري المباشر في هذا البلد العربي. وهي متشائمة من إسقاطات أيِّ حلٍّ يتوصل إليه الروس والأميركان، بالنسبة للمصالح الإيرانية واتصالاتها الإقليمية.
أما المعارضة السورية ومن دعمها من الدول العربية، فقد تعرّفوا على مأزقهم مبكّراً، إذ راهنوا، بشكل غير واقعي ولا مدروس، على تدخلٍ خارجي. وتأخر التدخل، ثم جاء، في النهاية، لدعم النظام السوري. وأطلق حلفاء الثورة السورية المزعومون في أميركا وأوروبا أيدي نظام البراميل للتفنّن في جرائم الإبادة؛ على أن ذلك كله لم ينفعه، كما لم ينقذه التدخل الإيراني وحده، فحتى تدخل الطيران الروسي مباشرةً كان النظام السوري في حكم المهزوم.
الأهم من هذا كله أن قوس الأزمة المتمثل بالعراق وسورية ولبنان أصبح حلبةً متصلةً للحرب الأهلية للطوائف، بالأصالة عن نفسها، وبالوكالة عن قوى إقليمية (نأمل أن تبقى هذه حرباً باردة في لبنان). لقد سقط الحلم الإيراني المتمثل في تحقيق هيمنةٍ وسيطرةٍ متصلةٍ تمتد من طهران حتى بيروت، كما تفاجأت إيران بعملية عاصفة الحزم.
ولكن، لم تقم، بدلاً عن قوس الهيمنة الإيرانية، منظومة هيمنةٍ عربية، كما يبتعد حلم النشطاء السوريين الذين بدأوا أعمال الاحتجاج ضد الطغيان في مارس/ آذار 2011 بتحقيق نظام ديمقراطي في سورية موحدّة، وهو حلم نبيل شاركهم فيه ديمقراطيون عرب وغير عرب. وحوّله النظام إلى كابوس. والحرب الأهلية التي نتجت عن رد فعل نظام البراميل العنيف، والدعم الإيراني غير المحدود له، اتصلت بالحرب الأهلية في العراق، منذ العدوان الأميركي عليه. وهي تعد بكوارث كثيرةٍ وتفرعاتٍ سرطانيةٍ كثيرة عربياً وإيرانياً.
لن يكون ممكناً التقدم نحو بناء اقتصاد عربي، أو إيراني، مستقر وقوي، في ظل هذا الاستنزاف. ولن يكون ممكناً التقدّم نحو بناء دول مؤسسات، فضلاً عن الديمقراطية، في ظل هذا النوع من الحروب الطائفية المسنودة إقليمياً. كما سيتعذّر التحكّم بتداعي الموقف والهرولة نحو إسرائيل عبر تمرير اتصالاتٍ وخطواتٍ تطبيعية. فثمة فوضى سياسية، ترافقها فوضى قيمية في غياب مرجعيات. وبحجة العداء للاستبداد واستخدامه قضية فلسطين العادلة أداةً في تبرير الظلم، تصبح إسرائيل مقبولة عند بعضهم، أو لا تُصنّف عدواً على أقل تقدير؛ وبحجة السلام خياراً استراتيجياً، والتنسيق ضد الإرهاب، تسعى قوى الممانعة إلى أن تُقبَل في عضوية النادي نفسه مع إسرائيل، فهي تحاول إقناع العالم بأنها الضمان الوحيد للاستقرار، ولأمن دولة الاحتلال والاستيطان. إن ضبط هذا الفلتان في ظل فوضى الحرب الإقليمية التي تشرخ المجتمعات أمرٌ شبه مستحيل، والتحكّم به في ظروف اعتبار كل طرفٍ فيها الطرف الآخر عدوّه الرئيسي، وتحييد إسرائيل وغيرها، هو ضرب من الخيال.
الخاسرون هم العرب، أنظمةً وشعوباً، وإيران كذلك نظاماً وشعباً. فلا استقرار الأنظمة يُضمن في ظل مثل هذه الحروب، ولا تحقيق الشعوب أمانيها، لأن النتيجة هي الفوضى، وليس تحقيق الكرامة والحرية، وبدل المستبد الواحد تفرّخ الفوضى مئات المستبدين الصغار.
لا يمكن تجنب هذا الإشكال الكبير، وبات تحقيق حوار عربي إيراني، وتوافق عربي إيراني يسبق التوافق الأميركي الروسي هو المهمة الرئيسية، فهنا مربط الفرس. وتشخيص الداء قبل الدواء. وإيران التي تمكّنت من التوصل إلى اتفاقٍ مع "الشيطان الأكبر" على قضايا اعتبرتها يوماً سياديّة، يمكنها الاتفاق مع الدول العربية؛ والمملكة العربية السعودية التي دبجت مبادرة سلام مع إسرائيل لإرضاء أميركا بعد أحداث 11 سبتمبر، يمكنها تقديم تصورٍ لعيشٍ مشترك مع إيران في الإقليم بشروط.
لا يوجد حل آخر. ولا بد من الاتفاق على قضايا المنطقة، بحيث تتخلى إيران عن سياسةٍ توسعيةٍ جعلت من مصلحتها تقسيم المجتمعات العربية طائفياً، ودعم المليشيات المسلحة ضد أي دولة عربية، يمكنها تحقيق ذلك فيها، بما في ذلك من تناقضٍ وصراعٍ مع منطق الدولة نفسه؛ وبحيث تتخلى دولٌ عربيةٌ عن حلم إطاحة النظام الإيراني، فليست هذه وظيفتها. التغيير الديمقراطي (الإصلاحي أو الثوري) مهمة المجتمعات والشعوب، وقد أصبحت صعوبة هذه المهمة في المشرق العربي مضرب الأمثال بوجود انقسام طائفيٍّ واستقطاب مليشياوي يغذيهما صراع إقليمي. هذا الموضوع حاضر بقوة، ومؤثر إلى درجة تمنع تجاهله.