بدفع من "البروباغندا" الاسرائيلية الرسمية وبعض المنظمات الصهيونية ومجموعات الضغط التابعة لها تجري محاولة حثيثة لتحديد العداء للصهيونية باعتباره آخر تجليات العداء للسامية في الغرب, وذلك اضافة الى ما يعتبر عداءً اسلاميا لليهودية يتجلى في نشاط وأدبيات الحركات الاسلامية الاصولية وتعبيراتها المستخدمة في وصف اسرائيل والتي تظهر الصراع في فلسطين وكأنه صراع ديني.
برزت هذه التصنيفات بشكل واضح في مناقشة خاصة تمت في البرلمان الاسرائيلي لمناسبة احياء بوم العداء للسامية للمرة الأولى في ذلك البرلمان. واختير لهذا الغرض يوم تحرير اوشفتس في 27 كانون الثاني (نوفمبر). وتمحور النقاش في تلك الجلسة حول أنماط اللاسامية الجديدة, خصوصاً اذ اتفق الجميع تقريباً بما في ذلك رئيس الكنيست ورئيس الحكومة ووزير العدل على انقراض الانماط القديمة الفاشية واليمينية المصدر. وتبارى المتحدثون في الجمع بين الاصولية الاسلامية وحركات التضامن مع الشعب الفلسطيني واليسار الاوروبي. ومما قاله شارون في هذا السياق الجوهرة التالية: "على اوروبا ان تعترف امام ذاتها وامام العالم المتحضر كله ان جرثومة اللاسامية عادت واستيقظت, وهي تنتشر بايقاع مقلق. وغالبا ما تظهر على شكل نزع الشرعية عن دولة اليهود - "اليهودي الجماعي". ويولِّد العداء لإسرائيل والتحفظ من سياستها, الحجج لتبرير الهجوم التخريبي من قبل عناصر مختلفة, من الجامعات والحكومات, ولتبرير مظاهر عنف ضد اليهود". من الواضح أنه تم اعداد هذا الخطاب باهمال حتى من المنظور الصهيوني, ولا شك ان هذا التعبير الشاروني هو تعبير غير متماسك ومنفر عن الموقف المطلوب ترويجه حالياً. ولا تختلف عن ذلك التعميميات الهوجاء عن الاسلام وعن اليسار الاوروبي التي أدلى بها يوسف لبيد وزير العدل في الجلسة نفسها. ولكن بالمجمل جرت محاولة بائسة لربط العداء للصهيوينة بالعداء للسامية, وكنا تناولنا هذه القضية في مقال سابق, ولكننا نتناوله اليوم من منظور مختلف وربما غير متوقع.
يدعي الليبرالي الصهيوني الذي يُحكم إعداد حججه ويناقش بهدوء أكثر من قباطنة البرلمان الاسرائيلي أن العداء للصهيونية هو عداء للسامية, لأنه يعني التنكر لحق تقرير المصير للشعب اليهودي بالذات, في حين يتم الاعتراف به لكافة الشعوب الأخرى. والتنكر له في حالة اليهود بالذات هو عداء للسامية. وكنا قد وافقنا ان العداء للسامية هو العداء لليهود وليس للساميين. فالعداء لليهود في اوروبا لم يبرر ولم ينتشر لكونهم ساميين بل لأنهم يهود, وبالتالي فإن العداء للسامية هي فقط تسمية المانية الاصل من القرن التاسع عشر لظاهرة العداء لليهود في السياق الاوروبي لأسباب ودواعي وحجج مختلفة. ولكن هذا لا يثبت الادعاء ان العداء للصهيونية هو الشكل الجديد من العداء للسامية, أو هو الشكل الجديد للعداء لليهود.
والحقيقة ان هذه التعيينات السياسية الصهيونية الجديدة لا تجافي الحقائق التاريخية ولا المنطق والعقل السليم فحسب, بل تناقضهما تماماً.
وكنا سنكتفي بفصل المقال ما بين العداء للصهيونية والعداء لليهود من اتصال بإثبات بسيط جداً هو ان غالبية اليهود في الماضي وقسم كبير منهم في الحاضر, لم يكونوا صهاينة ولم يؤيدوا الحركة الصهيونية, بما في ذلك مقولة حق تقرير المصير التي لم تقل بها الصهيوينة إلا أخيراً, وقد قال بها اليسار الصهيوني وحده. كما حاولنا ان نثبت ان العديد من المعادين للسامية ليسوا معادين لاسرائيل وان غالبية نقاد اسرائيل في اوروبا ينتقدون اشكال العنصرية والاحتلال الأخرى, بما فيها العداء للسامية. هذا الحكم التاريخي يثبت خطأ هذا الادعاء الصهيوني, ولكننا لم نثبت بعد وجود تناقض نظري في توجيه تهمة العداء للسامية بالعداء للصهيونية.
لماذا نقول تناقض, بل تناقض كامل؟ لأن العداء للصهيونية كموقف نظري او ثيولوجي, كموقف جوهري فكري غير سياسي هو ظاهرة يهودية. ولذلك ليس بوسعها منطقيا ان تكون احدى مظاهر العداء للسامية. قد يكون ما أقوله الآن مفاجئاً, ولكن عداء الفلسطينيين او العرب او غير اليهود عموماً للصهيونية هو عادة تعبير عن صراع سياسي, إلا عندما يجري الحديث عن حركات ايديولوجية او نظرية مبلورة. وحتى في هذه الحالة الأخيرة فإن العداء للصهيونية ليس لأنها ظاهرة يهودية بل لأنها ظاهرة كولونيالية.
ولم يتم النضال الفلسطيني السياسي او المقاومة العنيفة ضد الاحتلال بكافة أنواعة ومراحلة التاريخية لأن المحتلين يهود, بل لأنهم محتلين. وليس لهوية المحتلين الدينية او القومية علاقة بالعداء للاحتلال. ولا نقدر ان هذا النضال او هذه المقاومة كانت ستكون أقل حدة لو كان المحتلين المستوطنين من غير اليهود. ينطبق ذلك على مرحلة الصراع ضد اقامة دولة يهودية على انقاض الفلسطينيين. وينطبق ذلك أيضاً على النضال ضد الاحتلال الاسرائيلي عام 1967. ولو كان المحتلون من قومية او دين آخر لتم استثمار رموز دينية أخرى في استنفار مشاعر الناس ضده.
لا شك بوجود العداء للصهيونية لدى الشعب الفلسطيني ولدى الشعوب العربية, ولكن لا علاقة له بالعداء للسامية من قريب أو بعيد. وقد تسربت اليه في خضم الصراع مقولات ومفاهيم من مخزن عدة وأدوات العداء للسامية في الغرب والتي انتشرت مثل غيرها عبر العولمة. ولكن حتى هذا لا يحول الظاهرة الى عداء للسامية. وسياق كاميرا التلفزيون وهي تلاحق شاباً تحت الاحتلال وتحت الحصار وتحت الملاحقة وألوان الاضطهاد الاستعماري كافة لالتقاط جملة منه ضد اليهود هو ليس سياق العداء للسامية. سياق العداء للسامية هو سياق العداء لليهود كأقلية ملاحقة, وليس سياق شتيمة في أجواء العلاقة بين المحتل والواقع تحت الاحتلال. وما نقوله هو شرح وليس تقرير, وتفسير وليس تبرير.
نعود الى ما بدأنا به كلامنا ان العداء النظري الاصيل للصهيونية هو ظاهرة يهودية بشكل رئيسي, وبالتالي لا يمكن ان يكون معادياً لليهود. فالسجالات الاولى التي تضمنت دحضا نظرياً للصهيونية عينياً كصهيونية, وليس كاستعمار او كحركة برجوازية او غيره, وتبعها تحرك سياسي ضد الصهيونية تمت في صفوف الجاليات اليهودية ذاتها. وأولاً وقبل كل شيء كان العداء للصهيونية لاهوتياً دينياً. وذلك لأن الصهيونية بنظر المؤسسة اليهودية ولاهوتييها هي نظرية خلاص علمانية بديلة للخلاص الإلهي ومسيانية كاذبة تبشر "بمسيح كذاب", و"تتدخل في عمل الله", و"تبكر حلول النهاية", وكلها مصطلحات مأخوذة من تطلع اليهود الى الخلاص من "الشتات وآلامه" بعودة "المسيح المخلص".
كانت الصهيونية بنظر اللاهوت الارثوذكسي السائد في مرحلة نشوئها حركة علمانية, ولكنها من منظوره أسوأ من أي علمانية أخرى, لأنها علمانية يهودية تحاول ان تُعَلمن الدين اليهودي, وان تُحوِّل اليهود الى شعب كبقية الشعوب بدلاً من ان يكون شعباً خاصاً, "شعب السبت", "شعب التوراه", "الشعب المختار"... إلخ.
واتخذ عداء المؤسسة اليهودية الدينية للصهيونية أشكالاً حادة للغاية يفوق عداءها لأية علمانية أخرى. ولم تتصهين الحركات الارثودكسية اليهودية لاهوتيا فعلاً, كما حصل لحزب "المفدال" والمستوطنون الذين حولوا الصهيونية الى دين والدين الى صهيونية, مع ان كاتب هذه المقالة اتهمها بذلك سياسياً, إلا انها في الواقع تأسرلت وتكيفت حسب المصالح الاسرائيلية, بما في ذلك من تكيف مع الواقع السياسي والحزبي الاسرائيلي الذي يشمل واقع الاحتلال وقرب المتدينين من اليمين بشكل عام. وقد التقت تيارات دينية مثل حركة "حاباد" الاميركية, وهي لم تكن صهيونية, مع الصهيونية بنزعتها الخلاصية "المسيانية" هي الاخرى. ودُفِع بعض الحركات الاخرى الى التعاطف مع اسرائيل تدريجياً. ولكن بالمجمل بقيت النظريات اللاهوتية الارثوذكسية الاساسية معادية للصهيونية.
اما المصدر الآخر للعداء للصهيونية فيتمثل بانخراط اليهود غير النسبي في صفوف اليسار الراديكالي في اوروبا, خصوصاً في الحركات الشيوعية. وتم تبرير العداء للصهيونية نظرياً من هذا المصدر بالإدعاء ان الصهيونية هي حركة البرجوازية اليهودية الكبيرة, او حركة تؤدي الى "شق القوى الطبقية الثورية على اسس طائفية او قومية"... كما ثارت نقاشات عقلانية عدة في اوساط هذا التيار حول تعريف القومية, وهل يسري هذا التعريف على اليهودية. وخلافا لما هو رائج ليس هذا النقاش الأخير نقاشاً عربياً مع الصهيونية, بل نقاشاً حول استراتيجيات اليسار بين البلاشفة و"البوندز". وليست المقالة الاسبوعية حيزا كافياً لمناقشة تماسك هذه النظريات ومدى تمثيل الصهيونية للبرجوازية اليهودية الكبيرة... وليس لدينا شك ان العداء للصهيونية لدى اليسار اليهودي في حينه لم يندفع فقط بهذه الدوافع الطبقية او الايديولوجية, وأنه لا بد من توفر عنصر آخر يطغى على السجال العقلاني ويحوله الى عداء عاطفي انفعالي.
ويتلخص هذا العنصر بتبني اليسار الراديكالي في الواقع نظرية خلاصية منافسة للصهيونية مع تذهنها كنظرية انسانية بشرية جامعة تؤسس لإقامة العدالة على الأرض ويجد فيها اليهود ايضاً خلاصهم مثل كل الأقليات. وتقابل هذه النزعة الخلاصية الكونية نظرية خلاصية يهودية جزئية الطابع. وحاول بعض الباحثين اثبات ان النظريتين تنبعان من مصدر واحد. وما زال بعض اساطين السياسة الاسرائيلية المخضرمين ممن رسبت في جهازهم المفهومي بعض المقولات الايديولوجية من سجالات المرحلة, يقولون ان التاريخ اثبت صحة الخلاص الصهيوني مقابل فشل الخلاص الشيوعي, وكأن النقاش برمته نقاش داخلي في أوساط الجاليات اليهودية في اوروبا. وشهدت الجاليات اليهودية في مرحلة نشوء الصهيونية صراعات حادة بين الاخوة والاصدقاء ممن اختاروا الانضمام الى الشيوعية او الى الاحزاب العلمانية او الاشتراكية الصهيونية. وتميزت هذه النقاشات بالحدة, كما هو حال الانقسامات الحزبية او الانشقاقات او الخلافات الأهلية.
كانت هذه السجالات معيناً لا ينضب لمقولات العداء للصهيونية, الى درجة اتهام الصهيونية بالتعاون مع العداء للسامية لمصلحة مشتركة هي هجرة اليهود من اوروبا, وعدد الادبيات والمقالات التي كتبها يساريون يهود وغير يهود حول الموضوع لا يحصى. وكان الأوائل أكثر جرأة بطبيعة الحال ووصل بعضهم حد اتهام الصهيونية بالتعاون مع النازيين أنفسهم في مراحل معينة. ولا بد هنا من التذكير أن الانفعال قد بلغ حد اتهام اليهودية الارثودكسية في حينه وحتى الحرب العالمية الثانية, للصهيونية بإيقاظ مشاعر العداء للسامية. واعتبرت الصهيونية هذه التهم تبرأة للنازية. ولم يكن احد مقتنعاً بهذا الكلام, ولكنه دل على حدة الصراع بين التيارين وعلى عمق الجرح النازف.
وطبعاً كان موقف الليبراليين اليهود في الدول الديموقراطية مختلفاً, فمنهم من اوصل الموقف الليبرالي المثابر الى درجة العداء للصهيونية بإعتبارها حركة قومية مقابل مفهومه الفردي المحض للحقوق, او باعتبارها اعتداء على حقوق الآخرين. ومنهم من تعايش مع الفكرة الصهيونية كدولة من دون ان يهاجر اليها او يصبح صهيونياً. ولا شك ان بعض الليبراليين قد تبنى الصهيونية معتبراً الحركة الصهيونية حركة قومية تشيّد دولة أمة وتنتهي الى اقامة دولة يهودية ديموقراطية, متجاهلا وجود الشعب الفلسطيني وما زال يعيش هذا التناقض في ليبرلايته حتى يومنا.
ولكن بالمجمل تمت صهينة غالبية الجاليات اليهودية في العالم بعد حرب 1967. وهي بتقديري تاريخ التحول. ولم تكن غالبية اليهود حتى ذلك التاريخ صهيونية ولا معادية للصهيونية. ولكنها كانت متشككة في شأن نجاح هذه المغامرة الجنونية في نظر الغالبية. ولكن قابلية العالم العربي وموهبته بالانهزام امام اسرائيل بهذا الشكل المفجع عام 1967 أدت الى صهينة اليهود المنظمين في جاليات.
ان التاريخ الذي شهد انتشار الادبيات المعادية للسامية في العالم العربي نفسه شهد أيضا صعود الصهيوينة بين اليهود في العالم.
لا نعرف, وليس من المفترض ان نعرف الكثير عن غير المنظمين من المواطنين اليهود, فمواقفهم فردية. ولكن المواطنين اليهود في الدول المخــتلفة المنضوين في تنظيمات وجاليات منظمة تحولوا بغالبيتهم الى اصدقاء لإسرائيل والصهيونية وذلك بحكم التعاطف, وايضا لأن المشروع أصبح مقنعا ليس فقط بالنسبة لهم, وانما ايضاً بالنسبة للرأي العام الــغربي, ولرأس المال, ولمؤســسة الدولة بشكل عام خــاصةً في الولايات المتحدة. والتناقض أن استقبال اسرائيل الى حضن الغرب بهذا الشكل تم لانها أصبحت مقنعة كاستثمار سياسي واقتصادي وليست مجرد مغامرة, كما اثبتت تلك الحرب.
والمعادلة التي فعلت فعلها على مستوى الرأي العام هي معادلة: دولة ضحية وقوية, مظلومة ومنتصرة. ضحية وحدها لا تكفي, ومظلومة وحدها لا تكفي. هذا الجمع بين الضحية والقدرة على تحقيق الانتصار هو المعادلة الرابحة على مستوى الرأي العام. ولم تكن اسرائيل استثناءً.