يلاحظ في إطار النقاش الدائر حول الديموقراطية والاصلاح في الدول العربية ان من ينفي مجرد وجود الهوية العربية يعود ويجمع هذه الدول سوية في مصطلح واحد بناء على صفتها العربية في إطار انتقادها وتناولها بشكل سلبي، أي أنه لا بأس ان تجمعها صفة العروبة داخل سياق سلبي.
ونحن إذ ندلي بدلونا في مسألة الهوية المعرضة أكثر من غيرها للتسخير لغرض الخداع والتضليل لا ننوي انتشال سياسات هوية من أي نوع. فالعطش النظري أفضل من إجابات وهمية مصاغة عاطفياً وسجالياً. واتباع سياسات الهوية قد يقود الى كارثة لأنها تطمس الفرق بين القوى الاجتماعية والمواقف، وتوحد الديموقراطي مع المحافظ والرجعي مع التقدمي والفقير مع الغني في هوية يتقاسماها بدلا من تقاسم الثروة والعدالة والانصاف، ويتكلم باسمها ممثلو الهوية. وبدلا من الحقوق الفردية وعملية التمثيل الديموقراطي تمنح سياسات الهوية تمثيلاً للهوية في الهيئات المختلفة بدلا من تمثيل المواطنين، وينقسم بموجبها الناس الى انتماءات وعصبيات بدل الانقسام على مواقف وبرامج.
ومع ذلك هنالك حاجة للتصدي لسؤال الهوية. وذلك لأن القوة الأساسية المهيمنة في عالمنا تتبع سياسات هوية من أسوأ نوع بصيغة صراع الحضارات الذي يفرض فرضا على عالمنا حتى حيث لم يوجد ولم يفكر به الناس، فكأنه بالتنظير والتطبيق نبوءة تحقق ذاتها. ولأنه في إطار هذه السياسات تطرح علامة سؤال مشبوهة حول مجرد وجود هوية عربية.
ونحن ندرك أن المحاولات المتواصلة والعنيدة لنقض الهوية العربية هي أصدق تعبير عن وجودها وعن وجود مصلحة في نفيها وتفتيتها. وتفكيك النظرية والدعاية الاميركية واجترارها من قبل عملائها وصولا الى المصلحة الكامنة من وراء نزع الهوية العربية هي التحدي الأكبر الذي يواجه من يريد التعامل بجدية مع هذا السؤال. ولا معنى للرد بتعداد مقومات مفروغ منها للهوية العربية في نوع من الدفاع غير المبرر عن النفس، ولكن يكفي التساؤل عن معنى التشكيك بوجود هوية عربية والمصلحة من ورائه. كما يفترض ان يدعونا الى التساؤل عن مغزى ما يروج في العراق حتى بعد الاعتراف بهوية قومية كردية حول فيديرالية شيعية سنية كردية، وليس عربية كردية. لماذا يتم التعامل مع الأكراد على أن ما يجمعهم هو هوية قومية ذات اصول إثنية ثقافية او تنم عن ايمان خرافي بأصل واحد (بموجب التعريف الاثني للقوميات وهو السائد عند التنظير الاكاديمي الغربي عن العالم الثالث في الغرب وهو السائد في غالبية الايديولوجيات القومية في الغرب وفي العالم الثالث)، في حين لا يتم التعامل مع العرب ولا حتى كهوية إثنية واحدة ناهيك عن قومية. من الغريب ان يتم تجاهل هذه الغرابة!! والجميع شهود عملية تحويل اكثر من مئة قومية وأصل وثقافة الى هوية قومية واحدة في إسرائيل ويطلب منهم التسليم بها، كما تتم مطالبة العرب ليس فقط بالاعتراف باسرائيل بل بطابعها هذا كطابع قومي، أي بكونها دولة يهودية. ولكن على العرب ان يبرروا وجود هوية عربية. أمر مثير فعلاً. وعلى العرب ان يسألوا أنفسهم ايضاً كيف وصلوا الى هذه الحال.
لا بأس ان تتم مناقشة مدى الفائدة المرجوة من اعتبار الهوية العربية هوية قومية تتجاوز الثقافة وربما الايمان الاسطوري بأصل مشترك. فالعديد من الديموقراطيين لا يعترفون الا بأمة واحدة هي أمة المواطنين عليها تقوم الدولة القومية او تقيمها الدولة القومية من خلال عملية بناء الامة. ووجود قومية من لا - مواطنين هو عائق امام تبلور مواطنية حقيقية تأخذ مسألة الديموقراطية في الدول العربية القائمة بالجدية الكافية بدل انتظار توحيد الأمة بما فيه من تأجيل للمهمات الديموقراطية، او تدخل في شؤون الدول الاخرى، او تتعلل وتتحجج بالقضايا القومية من أجل تعطيل الحقوق الديموقراطية والمؤسسات وسيادة القانون. هدف الدولة يفترض ان يكون خدمة مواطنيها.
هذا نقاش مفيد لتوضيح المقصود وغير المقصود من التمسك بالهوية العربية، والمشروع وغير المشروع عند التمسك بها. لكن المفزع ان انكفاء الدولة عن الهوية العربية وعن الانتماء القومي العربي لا يتجه نحو توطيد هوية قومية متطابقة مع الدولة تصلح أساساً لترسيخ المواطنة، بل يصاحبه تفتيت الدولة الى هويات طائفية او اقليمية او عشائرية، لتصبح الدولة في أفضل الحالات دولة طوائفها او عشائرها بدلاً من ان تكون دولة مواطنيها. أي ان الذات الحقوقية التي تقف امام الدولة هي ليست المواطن بل الجماعة العضوية الماقبل حداثية التي ينتمي اليها. ولأن دولة الاستبداد الجمهورية والملكية في الكثير من الحالات قد دمرت البنى المدنية ولم تنشئ نظام مواطنية حقيقياً وجد الناس بعد انهيارها، او بعد أن بدأ الضغط الخارجي عليها لاتباع سياسة إصلاح، أن البنى الوحيدة المتبقية هي الطوائف والعشائر. وهذه تحول بين الفرد واستبداد الدولة، وتمنحه قوة لأن الانتماء اليها هو في الواقع احتماء بها، ولو كان ثمنه التضحية بفردية الفرد وحرية ارادته في ما يتعلق بالقرار السياسي. وإذا اضفنا الى ذلك ان الجمهوريات الاستبدادية سبق ان نفَّرت الناس من تحويل العروبة الى ايديولوجية تبريرية للنظام نجد أن النقاش ليس فقط مبررا بل ويرتكز إلى اسس تاريخية واجتماعية.
وكما أنه من المفيد كشف العلاقة بين المصالح السياسية والاقتصادية التي أدت الى تشكل العروبة كهوية سياسية في اطار لبرالي تقريبا بعد الحرب العالمية الاولى ثم كايديولوجية سياسية بعد الحرب العالمية الثانية وبشكل خاص بعد النكبة، كذلك من المفيد كشف المصالح الاقتصادية والسياسية الكامنة وراء انكار الهوية العربية او على الاقل إقصائها من السياسة في الوقت الذي تتم فيه شرعنة تسييس الطائفة والعشيرة لدى النظام القائم او لدى الهيمنة الاميركية من جهة وتسييس الدين لدى من يعترض عليهما من جهة اخرى.
تحظى الهوية الدولتية المحلية في بعض الحالات بشرعية تاريخية حيث لا ترى كنتاج تقسيم استعماري، كما في حالات مصر والمغرب والبحرين والى حد ما في حالة اختزال لبنان على جبل لبنان. ولكن المصيبة ان هذه الهوية تحمل في داخلها وفي فهمها لذاتها التركيب الطائفي أو القبلي كما تحمل تسييسه، وبالإمكان تبيين ذلك في هذه الحالات العينية. ومجرد طرح الهوية المحلية كبديل للهوية العربية وفي صراع معها وليس في تكامل معها يزيد من تشظي هذه الهوية.
لا تكمن أهمية الهوية العربية في النوسطالجيا للأنظمة التي استخدمتها كايديولوجية تبريرية، وإنما في أنها بقيت في الذهن السياسي الجمعي وفي الذاكرة الجماعية كتعبير عن حلم النخب العربية والطبقات الوسطى في بلاد الشام والهلال الخصيب بالضبط في مرحلة اقتحامها الحداثة بأمل وتفاؤل. ولأنها كانت مرتبطة بمشروع حداثة الطبقات الوسطى العربية وطموحها لتوحيد سوق عربية واقتصاد عربي في دولة عربية فقد كانت ايضاً أكثر انفتاحاً وأدت الى اندماج اقوام غير عربية، لا يعرف الآن اصلها الا الخبير، في عروبة المدينة العربية، كما أدت الى تحييد هوياتهم الاخرى عن السياسة بحيث تم التعامل معهم كأنهم عرب. في حينه لم يغلب على العروبة في نظرتها لذاتها طابع عرقي بل ثقافي وسياسي. ولأنها ارتبطت بالتميز عن الاتراك ثم بالنضال ضد تقسيم البلدان العربية بمسطرة استعمارية، فقد احتفظت بمكانة في النفوس والضمائر وبرصيد تتم محاولة استثماره في كل نضال ذي طابع تقدمي في المنطقة. وهنالك أكثر من سبب لاعتبار المعركة على الديموقراطية ضمن هذا السياق. فقط في مرحلة لاحقة تم تحويل الهوية العربية الى ايديولوجيا وحدوية تنفي حقوق الاقليات غير العربية، وكلما ازداد الواقع العربي تشظيا كلما كان رد الفعل عليه أكثر حدة ووحدوية على مستوى الايديولجيا، وكأن الاخيرة تعويض عن نقص في الواقع.
تبقى الهوية العربية قائمة كلغة وتاريخ وهوية شرعية وتوق الى وحدة مصير في وجه التدخل الاجنبي. ويمكن ببرنامج ديموقراطي أن تطرح كأداة لتوحيد الأغلبية العربية في كل دولة عربية على حدة في هوية متجانسة ثقافياً على مستوى واحد على الاقل، وذلك دون نفي التنوع القائم داخلها ودونما تجاوز اعتبار الدولة دولة المواطنين، من عرب وغير عرب، ودون التعدي على الحقوق الجماعية الثقافية للأقليات غير العربية . وهذا التجانس هو أساس تحييد الفوارق الطائفية عندما يتعلق الأمر بالانقسام السياسي في المجتمع. يتم الانقسام بين احزاب داخل نفس الانتماء في أوساط الأغلبية على الأقل، بحيث تبقى تعددية الافكار والبرامج السياسية في إطار الوحدة نفسها، أولاً على مستوى الدولة وثانياً على مستوى قومية الأغلبية.
ألا يتعارض الانتماء القومي لهوية عربية مشتركة مع العديد من الدول العربية مع الديموقراطية؟ أولاً، لا يتعارض فقد يكون هذا الانتماء أساساً لحلم المناضل الديموقراطي باتحاد فيديرالي بين دول ديموقراطية كما حصل في اوروبا مثلاً حتى دون قومية واحدة وفي محاولة لتشكيل هوية أوروبية جامعة. وثانياً، لا حاجة حتى لانكار حلم الوحدة القديم وإن عفا عليه الزمن وفات أوان تطبيقه بالاشكال البسماركية الاوروبية التي تخيلها الناس في حينه بناء على تجارب أوروبية. فقد كان حلماً متنوراً لتطبيق حق تقرير المصير من خلال هدف سياسي يساهم السعي اليه كما يساهم تطبيقه في تشكيل الأمة. كما كان حلماً بالسيطرة على ثروات المنطقة الطبيعية لصالح سكانها بدل اقامة دولة قرب كل بئر نفط. ولكنه تضمن تناقضات لا حصر لها حولت الايديولجية الوحدوية الى ايديولوجية تبريريه لنظم قائمة.
ولا شك ان نزع الصفة العربية عن هوية الأغلبية لا يساهم الا بالشرذمة والانقسام الى هويات ليست صغيرة فحسب بل يؤدي تسييسها الى سياسات هوية داخلية تثمر عن نظم محاصصة في افضل الحالات تتكرس فيها زعامة قيادات طائفية متوارثة وغير ديموقراطية وتسمى لسبب غير مفهوم ديموقراطية توافقية، أو تؤدي الى حروب أهلية في أسوئها. وفي الحالتين تسود الحرب الاهلية، الباردة او الساخنة، لأن التفسير الرائج للتمييز والاضطهاد والغبن والتعبئة السياسية بناء عليه لا يستند الى نقد السياسات الاجتماعية المتبعة ولا بتحليلها واتخاذ موقف منها ولا بطرح موقف بديل وإنما الى الانتماء لهوية دون أخرى وتحريض هوية لكونها مظلومة ضد هويات أخرى بناء على هذا الاساس.
وخارجياً يسهل خيار تحييد الهوية العربية ارتباط كل نظام على حدة مباشرة ومن دون وساطة بالهيمنة الاميركية، كما يعبر عن واقع أن لكل دولة عربية على حدة علاقات مع الدول الاوروبية وأميركا تفضل علاقاتها مع اي دولة عربية أخرى. كما يعبر عن استعداد لتحسين العلاقات مع اسرائيل اذا سنحت الظروف وذلك بتحييد أسباب الخلاف معها كأن هذه الخلافات مرتبطة بالهوية العربية.
ليست مسألة الهوية العربية هنا سبباً ولا نتيجة بل هي مرتبطة بطبيعة القوى الاجتماعية الحاكمة والسياسات المتبعة ولكن لا بأس من التأكيد عليها إذا توفر الادراك أنه لا يعني حل القضايا كافة، كأن الهوية العربية هي الحل على وزن الاسلام هو الحل. فليست القومية ايديولوجيا إلا لحركات يمينية تحول القومية ذاتها الى سياسات هوية قد تصل حد الفاشية كما جرى في عدة بلدان أوروبية متطورة في القرن العشرين. ولكن القومية هي اطار الانتماء يتجاوز الانتماءات المحلية العضوية الى جماعة متخيلة. ويفترض ان فكر من يعتبر نفسه قومياً ديموقراطياً هو فكر ديموقراطي وليس قومياَ. وفي اطار هذا الفكر الديموقراطي هنالك مكان للتأكيد على الهوية القومية، اذا كان هذا التأكيد مفيداً لعملية التحديث وللتحول الديموقراطي ولمقاومة الهيمنة الغربية. لا بأس إذاً من تأكيد الديموقراطي المؤيد للعدالة الاجتماعية على الهوية العربية في حالتنا لادراكه ان هذا التأكيد يخلق مناخاً ممانعاً للهيمنة الاميركية. كما يخلق مناخاً ممانعاً لرد الفعل الديني الاصولي عليها والقائم على معاداة الحداثة ذاتها. كما يخلق التجانس الثقافي اللازم لاحتواء التعددية السياسية.
لا يجوز من ناحية اخرى التخلي عن مسألة الهوية لصالح الأصولية من ناحية او العشائرية والطائفية من ناحية أخرى. يجوز لكردي ديموقراطي ان يقول انه ديموقراطي في اطار الانتماء لهوية كردية في وطن عراقي مثلاً، كما يجوز للعربي الديموقراطي ان يتمسك بالهوية العربية والا يتخلى عن طرحها وتقديمها بقالب ديموقراطي لجمهوره في مقابل سياسات الهوية التي تتنافس على ولاء المواطن.
يدرك الديموقراطيون الذين لا ينتظرون الدبابة الاميركية، ويفترضون ان الديموقراطية قضية نضالية، ان الديموقراطية هي عملية تداول السلطة سلمياً بالانتخاب وفصل السلطات واستقلال القضاء ومنظومة من الآليات لفرض ضوابط على تعسف السلطة ومجموعة الحقوق المدنية وغيرها، ولكن يفترض ان يدركوا ايضاً خلافاً لغيرهم ان الديموقراطية تتأسس على شرعية الدولة، فدون شرعية شعبية يبقى الاستبداد هو ما يحافظ عليها، او تتحول اي عملية دمقرطة الى انفصال البلد الى كيانات. ويساهم افتراض هوية مشتركة بالحد الادنى بين المواطنين في تأسيس الشرعية كما تتيح لهم الانقسام حول برامج تختلف في رؤيتها لمصلحة المجموع من دون ان يؤدي ذلك الى حرب اهلية.