بين ذكرى النكبة وذكرى النكسة كانت المأساة التي تتعرض لها غزة ويتعرض لها مخيم نهر البارد ومعها الفضيحة والبهدلة. بالنسبة لفلسطيني وطني ومن زاوية نظره انها جرائم يتعرض لها اللاجئون الفلسطينيون من العراق وحتى لبنان وغزة.
لا يمكن فهم غزة كمجرد منطقة محتلة، لا حجما ولا تاريخا ولا تركيبا سكانيا. ولا يمكن فهم الصراع الجاري فيها كمجرد صراع بين فصائل على النفوذ. هذا كلام غير واقعي وميتافيزيقي بمجمله. فغزة هي معسكر اعتقال كبير جدا. والعنف المتفجر داخلها يشبه العنف المتفجر في السجون. والتنافس فيها يشبه التنافس على من يمثل السجناء أمام إدارة السجن. والتخلي عن هوية حركة التحرر الوطني الذي رافقه اعتبار الفلسطينيين طرفا في "صراع" إسرائيلي فلسطيني، والقضية الفلسطينية كقضية بدأت عام 1967، دون نكبة فلسطين المتمثلة بقضية اللاجئين، واعتبار مخيم لاجئين كبير مجرد منطقة محتلة أو مخيم يريد التحرر من الاحتلال، رافقه أيضا التخلي عن أخلاقيات ومعنويات حركة التحرر الوطني والتي لا يمكن ان تعني في مناطق مثل غزة ومخيمات لبنان إلا حق العودة. وقد جعل التخلي عن هذه المعاني جزء كبيرا من الناس غير المستفيدين، بل المتضررين من التسوية ومما يسمى بعملية السلام يفقدون المعنى مع ما يرافق ذلك من انحلال من جهة تقابله أصوليات من الجهة الأخرى.
إن ما يجري من انحلال وأصوليات متقابلة هو من مظاهر فقدان حركة التحرر الوطني دون ان تصبح دولة، ومن مظاهر الصراع داخل معسكر اعتقال محاصر.
تفرح حركات التحرر الوطني بالتخلي عن صيغة حركة التحرر لو نالت الاستقلال وأصبحت دولة، ولكنها في حالة اللاجئين في لبنان لا تغير شيئا لو أصبحت دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي غزة لم تصبح أصلا دولة تفرض القانون وسيادة القانون شرعيةً جديدةً بدل شرعية النضال التحرري الذي يحمل قيما مثل حق العودة.
ولكن حق العودة غير واقعي، ولا بد أن يفهم العرب ذلك، يقول البعض، ولا بد من قبول تسوية واقعية لا تشمل حق العودة. والمأساة سوف تستمر وتتعاظم، وسوف يصبح الشعب الفلسطيني مرتعا لأصوليات متعددة إذا استمر برفض التسوية الواقعية الممكنة.
ما دمنا في الواقعية... لا بد من الاعتراف أن التوصل إلى تسوية مع إسرائيل يقبل شروطها العرب ويقبل شروطها الإسرائيليون بات بحد ذاته اعتقادا ميتافيزيقيا غير واقعي يصر عليه من حولوا الواقعية الى إيديولوجية لا تتعامل مع الواقع بل مع ضرورة التحلي بصفة الواقعية كضرورة في إطار المسعى لتبني الهيمنة السياسية الثقافية للنظام الرسمي الغربي بشان إسرائيل وغير إسرائيل.
ولسنا بحاجة الى تكرار اللاءات الإسرائيلية الأربع التي يتفق عليها اليسار واليمين في إسرائيل، ولا تكرار أن حلا تحت سقفها لا يمكن ان يشكل أساسا لتسوية يقبلها العرب. هنالك إجماع إسرائيلي لم يتزحزح على عدم الانسحاب الى حدود الرابع من حزيران، وعلى عدم تقسيم القدس، وانه لا حق عودة للاجئين الفلسطينيين، وان جزء من المستوطنات الإسرائيلية سوف يبقى على الأرض وسوف يضم إلى إسرائيل. وفي الجهة المقابلة، اي الجهة العربية، ليس بوسع ولا بقدرة من يوافق على تسوية تحت سقف هذه اللاءات ان يفرضها على من يعترض عليها. نقول ذلك اعترافا منا أنه لا يوجد إجماع عربي شبيه بالثوابت الإسرائيلية، ورغم ان البعض حول غزة من أكبر مخيم للاجئين الوافدين إليها من جنوب فلسطين عام 1948 الى مجرد منطقة محتلة عام 1967، ورغم الخديعة التي يجري تسويقها بإن العائق أمام التسوية هو حق العودة. وهي خديعة حتى لمن بات جاهزا من الناحية النفسية للتخلي عن حق العودة، فلو تخلى العرب عن حق العودة لاكتشفوا أن إسرائيل تتمسك بوحدة القدس، وبالثوابت الإسرائيلية الاخرى المذكورة أعلاه.
أما الحديث عن إقناع، أو عن وصفة سحرية للالتفاف حول هذه الثوابت الإسرائيلية فهي خداع ذاتي عربي من أوسلو وحتى اليوم. وتحظى أية محاولات عربية لإثارة إعجاب إسرائيل بتشحيع إسرائيلي طبعا، وهي تسعى بتشجيعها لأن تتحول الى نهج عربي، مثلا أن تتلو المبادرة المبادرة... وما على إسرائيل إلا أن تنتظر المبادرة القادمة.
ولكنها لا تقبل مضمون الخطوات التي تشجعها بل تقبل النهج. فتقديم العرب لمبادرة سلام هو خطوة تسعى إسرائيل أن تتحول الى نهج دون ان توافق على أي مركب من مركباتها.
وليس واضحا لأحد، ماذا يعني إقناع إسرائيل بمبادرة السلام العربية التي ترفض كافة مركباتها... كيف تقتنع دولة أن تتنازل عن شيء ليس لها تحتفظ به بفعل قدرتها على الاحتفاظ به، ولا تريد ان تتنازل عنه؟ وليس مفهوما ماذا يعني ان يتمسك العرب بمبادرة سلام مقدمة لإسرائيل وترفضها إسرائيل، هي مقدمة لإسرائيل وليس للعرب، ولكن العرب يتمسكون بها... ليس التمسك بخيار السالم فضيلة ما دام العرب غير قادرين على غيره، وليس التمسك بمبادرة السالم مفهوما لمن ليس قادرا على فرضها. ليس هذا السلوك واقعيا، ولا أهدافه واقعية، بل هي ضرب من ضروب الخيال.
في قصيدة مطلعها
لا افتخار الا لمن لا يضام.... مدركٍ أو محارب لا ينام
يقول المتنبي كأنه يتكلم عن منطق "التمسك" بمبادرة السلام الحكم التالية:
كل حلم أتى بغير اقتدار.......... حجة لاجئ اليها اللئام
احتمال الأذى ورؤية جانيه...... غذاء تذوى به الأجسام
من يهن يسهل الهوان عليه......... ما لجرح بميت إيلام
ونحن لا نقول ذلك في إطار معرفة ما يجري في إسرائيل من نقاشات حول تسوية لا تحكمها الا موازين القوى والحفاظ على يهودية إسرائيل بالتخلي عن أكبر عدد ممكن من العرب على أصغر قطعة ممكنة من الأرض، بل من خلال قناعة أعمق ان المجتمع الإسرائيلي لم يقتنع بعد بأنه جزء من المنطقة ويسعى لسلام معها وملاقاة متطلبات هذا السلام.
لا توجد في العالم كله دولة واحدة، بما في ذلك أميركا ذاتها، تجد إلاستفتاءات فيها أغلبية ما زالت ترى ان الحرب على العراق كان خطوة صحيحة، وتؤيد هجوما أميركيا على إيران الآن إلا إسرائيل، حيث تجد اغلبية تؤيد الحربين، هذا إضافة لأغلبية إسرائيل ترى أن قصف غزة غير كاف. لقد أخطا العرب في فهم استنتاجات إسرائيل من الحرب على لبنان، فهي لم تقتنع بالسلام هناك، بل أجبرت ان ترى العدوان خاسرا، وهي لا ترى ذلك على الجبهة الفلسطينية وتشجع حروب الآخرين على العرب ما دامت لا تدفع ثمنا... نحن امام دولة لم تستنتج بعد أن السلام هو الخيار الاستراتيجي وهي غير جاهزة لدفع متطلباته.
إزاء تجاهل مثل هذا الوضع تم تحويل الواقعية عربيا الى إيديولوجية... وهذه كارثة إيديولوجية "الواقعية" التي تتعارض مع معرفة الواقع ومتطلبات الواقع، ومع الممارسة الواقعية. في مقابل هذه الإيديولوجية "الواقعية" تنتشر إيديولوجيات أخرى تتجاهل الواقع تماما وتدير له ظهرها.
أما الممارسة الواقعية فتعني شيئا آخر تماما.
إنها تعني في ظروف الشعب الفلسطيني تذوت حقيقة أنه لا توجد تسوية قريبة. وبالتالي السعي للحفاظ على مقومات وحدة الشعب الفلسطيني والمحافظة على المعاني والقيم اللصاقة للمجتمع الفلسطيني والتي تمنحها حركة التحرر الوطني وأهمها الحفاظ على حق العودة والتحرر من الاحتلال.
تعني الواقعية عدم قبول تسوية غير عادلة مع إسرائيل تمزق الشعب الفلسطيني وربما شعوب عربية قريبة منه دون فائدة. ولكن الواقعية لا تكتفي بذلك فهي تتطلب ايضا استمرار النضال والتعامل مع قضايا الناس اليومية والمعيشية وترتيب ظروف الشعب الفلسطيني الحياتية في الداخل والخارج. استمرار النضال يعني استمرار مقاومة الاحتلال وتكبيده خسائر بحيث لا يتحول الى وضع طبيعي... ولكن في إيقاع مدروس بعناية يدرك ان التحرير أيضا ليس على الباب. ولا يمكن ان يصمد الشعب الفلسطيني في واقعية كهذه دون ان يتم الاهتمام بشؤونه الحياتية، وتنجح حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية فقط إذا أدركت أن هذه مهمتها، وأن هذا يتطلب الاهتمام بشؤون التعليم والاقتصاد والصحة والبنى التحتية ومغادرة شأن التسوية وإفشال التسوية.
المقاومة تقاوم بناء على خطة طويلة المدى، والسلطة الفلسطينية تنظم حياة السكان بنجاعة، وإلا فمن الأفضل حل السلطة الفلسطينية، إذ لا مبرر آخر لوجودها الذي فرض على الشعب الفلسطيني باتفاقيات خاطئة وحرر الاحتلال من مسؤولياته دون التحرر من الاحتلال. ويجب إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية يحيث تكون قادرة على تأطير هذه المساعي تحت سقف واحد وعلى قيادة نضال اللاجئين في الخارج ومساهمتهم في الحياة الوطنية الفلسطينية.
يجب أن يهتم الكيان الوطني الفلسطيني المتمثل في هذا الإطار بحقوق اللاجئين الفلسطينيين المدنية في مناطق سكناهم. من العراق وحتى لبنان وغزة. وقد ثبت تاريخيا ان حرمان اللاجئين من الحقوق بما فيه من جريمة بحقهم وحق أطفالهم، بحجة منع التوطين، لا يمنع التوطين بل يؤدي الى بحث عن حقوق مدنية ثم توطين فعلا في أوروبا ودول اسكندنافية وغيرها. فلماذا لا تكون الحقوق المدنية دون توطين في بلد عربي بدل ان يختار اللاجئ الفلسطيني بين مجمعات التعاسة والبؤس في العراق ولبنان وغزة وبين التوطين في أوروبا؟
هنا تكمن المهمات الواقعية، وهي لا تكمن سرا بحثا عمن يكتشفها بل تزعق حتى السماء. إذا تمت معالجة هذه القضايا بواقعية يصبح بالإمكان رفض الحلول غير العادلة والصمود. وفي مثل هذه الحالة فقط يصبح الوقت في غير صالح إسرائيل. هنالك حاجة لإعادة ترتيب الاولويات.