تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

التوافق موضعيا

2007-10-14

تشير كل المعطيات إلى سياسة مواجهة أميركية في المنطقة العربية، يشاركها فيها بدرجات متفاوتة حلفاء عرب وأوروبيون، وطبعاً إسرائيل. هؤلاء يرغبون بإنهاء مسلَّمات من نوع التضامن العربي، والقضية الفلسطينية... وحتى الصراع العربي الإسرائيلي، وفرض العزلة على كل من يمثل هذا «الماضي» من دون حل أي قضية من القضايا إلا بتسويات مع الإجماع الوطني الإسرائيلي.
 

وبعد نهاية المحافظين الجدد سقط أحد العنوانين العلنيين لهذه الحملة، المتمثل بنشر الديموقراطية، مخلفاً وراءه زميله الأقل مواربة: «مكافحة الإرهاب». وحل محل الديموقراطية العنوان الفعلي سافراً: «الهيمنة الأميركية»، والمقصود نهج شمولي واحد هو النهج الإمبراطوري الأميركي في المنطقة المادية والمعنوية الواقعة بين الحفاظ على إسرائيل والطاقة والنفط وتخومهما. 
 

وقد أزال سقوط «الديموقراطية» حرج المحافظين العرب الجدد، النيوليبراليين، إذ شعرت أنظمتهم التي يخدمونها في أيام المحافظين الجدد بأنها مستهدفة أو على الأقل معرضة لابتزاز من الحليف الأميركي. زال حتى حرج التحالف مع إسرائيل في المواجهة (عسكرية أو غير عسكرية) مع عرب.
 

وإذا تجاهلنا للحظة فقط التفاصيل المتحكمة بأمزجة الناس اليومية التي تعج بها الصحافة اللبنانية وأخبار اللقاءات اليومية والتصريحات في محاولة لاقتناص تصور رغم التفاصيل، فسوف تفرض نفسها بداهة أنه في سياسة مواجهة إقليمية كهذه يصعب الاتفاق. والباقي تفاصيل. هذا تحليل طبعاً، لا حكم قيمة معياري. فالمواجهة جريمة وحماقة، ولو ترك اللبنانيون وشأنهم لما وجدوا من الاتفاق بداً. لكن أول من يفند تقويمك هذا هم «الأفرقاء اللبنانيون» ومعلقوهم ومحللوهم. هؤلاء يؤكدون أن الوفاق على الرئاسة إقليمي ودولي، و«كل عمره هيك»... ويبرهنون على ذلك في مساعيهم وترحيبهم بمساعي الدول الأجنبية والعربية وهكذا. ولو كان القرار لبنانياً لتم الوفاق والتوافق رغم أنف 1559 الذي تنصلوا منه جميعاً حين صدر، وتراوحت منه المواقف اللبنانية الفاعلة بين المعارضة والاستنكار إلى أن أصبح شرطاً حوارياً على الرئاسة بفضل فرض سياسة المواجهة الإقليمية أو اختيارها حليفاً في الصراع الداخلي.
 

ما فرض نفسه بداهة يفصل قياساً كما يلي: 1. السياسة الأميركية سياسة مواجهة، وليست سياسة وفاق وتوافق إقليمي 2. الوفاق على الرئاسة في لبنان هو (من بين أمور أخرى، نقولها حذراً) أيضاً إقليمي ودولي. 3. إذا يصعب استنباط وفاق محلي من المواجهة الدولية.
 

إذا كان هذا صحيحاً، فعلام يدور كل هذا النقاش في لبنان؟ نحن طبعاً لا نتمنى للصحف أن تحتجب أو ينقطع رزق أصحابها من الأخبار والتصريحات وغيرها، فنقول استدراكاً: التوافق ممكن، إذا صح ما يلي: ترى أميركا ما جرى في لبنان منذ انسحاب سوريا إنجازاً لها تريد الحفاظ عليه. وهي لا تريد تعريضه لمجازفة في صراع لبناني محلي غير محسوب النتائج. قد يدفع ذلك صانع القرار الأميركي إلى تمكين حلفائه من التوصل إلى اتفاق موضعي. لكن الشرط الأميركي أنه وفاق موضعي فقط في لبنان وحده، بحيث لا يغير من سياسات المواجهة إقليمياً.
 

يعني قبول هذا التحليل اعتبار القرار أميركياً خالصاً، وأن أميركا تفعل ما يريحها في كل لحظة. بحيث يكفي أن تتخلى أميركا عن قرار المواجهة محلياً وتحافظ على المواجهة إقليمياً كي لا تحصل مواجهة.
 

ولو كان القرار أميركياً خالصاً فعلاً لوافقنا أن هذا ممكن نظرياً. ولكن حتى لو وافقنا فسوف نجد أن أميركا تجد تنفيذ القرار 1559 شأناً إقليمياً يستحق المواجهة. المسألة إذاً ليست شخص الرئيس فحسب، بل هي أيضاً تركيب الحكومة التي سوف تلي انتخابه، والموقف من القرار 1559. والأخير جعلته إسرائيل رسمياً وعلناً موضوع وهدف حربها على لبنان لا موضوع حوار أو وفاق لبناني داخلي.
 

الموضوع في النهاية سياسي إذاً، والوفاق مثل أي وفاق سياسي في هذه الدنيا له علاقة بواقعية الأطراف السياسية المحلية ذات الإرادة المستقلة في رؤيتها وتقييمها لإمكان تحقيق أهدافها، ثم التنازل عن جزء منها تجنباً لصراع غير محسوب النتائج. التوافق هو رديف لتعبير وممارسة واقعيين.

 

أولمرت وشركاه
 

لم يصرح أولمرت حتى الآن بموقف مفصل من شروط التسوية وحدودها. وهو يترك الآخرين يصرحون، وتكتيك «بالون الاختبار» معروف. كان أولمرت يناور بين حزبي شاس وليبرمان من جهة وباراك والعمل من جهة أخرى، حتى أدرك أخيراً أن باراك ليس في جهة أخرى، بل يزايد عليه من اليمين. فالأخير يدرك أن غريمه هو نتنياهو في اليمين، وهو يعتقد فعلاً أن السلطة الفلسطينية المفاوضة أضعف من أن توفر لإسرائيل شروط التسوية.
 

يذكر أولمرت أن باراك خسر ائتلافه في الطريق إلى كامب ديفيد، وأن نتنياهو خسر ائتلافه بعد العودة من واي. أما هو فقد استعاد عبر «العملية السلمية» بعض الشعبية في الرأي العام وكل الشعبية في الإعلام الإسرائيلي المؤيد للتسوية ولـ«عملية السلام» وللفصل الديموغرافي بشكل عام. هكذا كسبه شارون إلى جانبه، وهذا ما رفع من شعبية أولمرت.
 

ولا شك أنه يذكر أيضاً أن ما رفع من شعبيته نسبياً (من 10 إلى 20 %) هو ليس السلام ولا استعداده لتقديم تنازلات، بل «عملية السلام» ذاتها. والخيار الأفضل هو الحفاظ عليها مستمرة من دون «تنازلات». وهذا غير ممكن طبعاً. ومن هنا الحاجة لتقديم «مكرمات» إسرائيلية من حين لآخر لتقوية «الشريك الفلسطيني» عند مجتمعه.
 

الامر الوحيد الممكن توقعه إذاً هو اجتماع سلام يدعم عملية السلام ويعززها. المهم بالنسبة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية هو من جهة توافر بيان أو إعلان يجنبه فشلاً مدوياً، ومن جهة أخرى ألا تقدم فيه «تنازلات» تطيح ائتلافه.
 

ما يجمع عليه أطراف الائتلاف الحاكم في تلك الدولة هو الواقعية في تقويم نتائج الاجتماع. وهم فوق كل ذلك متأكدون من أن الرئيس الأميركي لن يضغط على إسرائيل.

 

حوار غير مرغوب فيه
 

حين يعلن بعض قادة حركة حماس أن الحوار مع حركة فتح جار في هذه الدولة أو تلك، فإنهم يبدون كمن يتعلق بحبال الهواء. والأهم من ذلك أنهم بتصريحاتهم هذه يهمِّشون ويقللون من أهمية النقاش المبدئي الجاري ضد اجتماع بوش في الخريف، ومن أهمية النقاش ضد سلوك رئاسة السلطة السياسي. فتظهر حماس مهتمة أساساً بعودة تقاسم السلطة بينها وبين حركة فتح.
 

من يحكم السلطة حالياً ليس حركة فتح بل تيار سياسي معين غالبية رموزه إما من خارج حركة فتح أو لم تحتل فيها موقعاً مركزياً أصلاً. وهذا النهج السياسي لم يتحرر من حماس إلا لكي يمارس تصوره للتسوية بحرية ترافقها هذا الاحتفاء الدولي. وهو لن يعود لحماس. لذلك فهو يرد على التصريحات التي تدعي أن هنالك حوار بإنكار ذلك ورفض الحوار. ويبدو الطرف الرافض للحوار متمنعاً متمسكاً بنهجه السياسي. إنه يبدو صاحب مشروع، ويبدو أكثر تسييساً، إذ يخضع تفاصيل مثل الحوار وغيره لمشروعه السياسي ومصلحته في تنفيذه.
 

ولا شك أن ثمة فتحاويين لا يمتنعون عن الاتصال بحماس، كما أن هنالك من يعارض نهج الرئاسة في حركة فتح. وربما يفضل محاورة هؤلاء دون ادعاء حوار مع فتح عموماً، وبحيث يبنى الحوار على أساس سياسي مشترك على الأقل ولمصلحة مشروع سياسي. إذا لا يجوز أن ترتسم على الملأ الفلسطيني خريطة سياسية توجد بموجبها مشاريع سياسية جدية هي التسوية غير العادلة من جهة، ومعارضة غير مسيسة لها لا تحمل مشروعاً سياسياً، بل يتلخص مشروعها بالوجود في السلطة من جهة أخرى.

 

الديمقراطية الأمريكية والعراق والانتخابات
 

يقول هارولد مايرسون (واشنطن بوست 10 تشرين الأول/ أكتوبر) إن الضربة الكبرى التي تلقتها الديموقراطية الأميركية جراء الحرب على الإرهاب لا تقتصر على تقليص الحريات في أميركا، بل أيضاً في تهميش الأغلبية في عملية صنع القرار.
 

وهذا صحيح، فرغم أن أغلبية 54% من الأميركيين تؤيد الانسحاب الفوري من العراق، و13% تؤيد وضع جدول زمني للانسحاب، و25% فقط لا تؤيد حتى وضع جدول زمني، فإن صنّاع القرار يتجهون نحو البقاء في العراق، ولأجل غير مسمى برأي وزير الدفاع جيتس مثلاً، على نمط مكوثها في كوريا (خمسين عاماً حتى الآن). أما المرشحون للرئاسة فلا يتجهون بوضوح إلى دعم انسحاب من العراق، رغم أنه إذا انتخب الديموقراطيون فسوف ينتخبون بسبب رفض المصوتين للحرب في العراق بعدما آلت إلى ما آلت إليه.
 

لا جديد في هذا الموضوع. فصحيح أن تداول السلطة سلمياً هو مركب أساسي في النظام الديموقراطي، لكن النظام الديموقراطي المستقر هو بنظر كهنته ومنظريه ذلك النظام الذي لا يتوقف فيه الكثير على تداول السلطة. فهو غالباً ما يعني تداولها بين أشخاص من الحزب نفسه أو بين ممثلي حزبين كبيرين دون تغيير السياسات، وخاصة تلك السياسات المتعلقة بمبادئ الاقتصاد الوطني الأساسية، وسياسات البنك المركزي، وتحالفات الدولة الخارجية المركزية، وأمنها الوطني، والمبادئ الدستورية الأساسية. ويصعب فعلاً رسم معالم تغير سياسي متوقع بناء على نجاح المرشح الديموقراطي أو الجمهوري في الولايات المتحدة. فالظرف الاقتصادي السياسي وتوقعات الناخبين بعد مرحلة رئاسة معينة يعنيان أن يتصرف الرئيس بشكل معين بغض النظر عن انتمائه الحزبي... ويبقى هامش ضيق للتميُّز.
 

يتوالى على سدة الحكم في «الأنظمة الديموقراطية المستقرة» حزب بعد الآخر، وتسلم مقاليد الرئاسة من شخص لآخر، في ظل استقرار المبادئ الأساسية التي يقوم عليها النظام. والصراع عليها بين حزبين رئيسيين يدور في إطار المؤسسة الحاكمة. وحتى انتخابياً يقودهما الصراع بالضرورة الإحصائية نحو التنافس على وسط الخريطة السياسية ومركزها والاقتراب بالتالي من بعضهما في البرنامج والخطاب... لذلك تفاجئ كلينتون خلال الحملة مؤيديها الليبراليين بمواقفها المحافظة المفاجئة من رفضها استثناء الاستمرار بالخيار العسكري في العراق، ورفضها التعبير عن ندم على تصويتها إلى جانب شن الحرب على العراق في الكونغرس في حينه، ورفضها حالياً استبعاد خيار الحرب على إيران.
 

أما الدول التي ما زالت الانتخابات فيها تعني خياراً بين عالمين مختلفين، والتي قد تنتهي نتائج الانتخاب فيها إلى تغيير جذري في السياسة الخارجية والداخلية: إما... أو... كما في أوكرانيا أو لبنان مثلاً، فتلك دول لم ينضج ولم يستقر نظامها الديموقراطي بعد.
 

ولا شك أن المنعطفات السياسية الكبرى واردة في عملية تداول السلطة بشكل سلمي. ولا يمكن فهم صعود لينكولن وروزفلت وتاتشر وريغان مثلاً إلا كتغيرات جذرية في السياسات الداخلية أو الخارجية أدت إليها انتخابات. لكن بإمكان المتمسك بالنظرية أعلاه الادعاء أنه حتى في هذه الحالات كان التغيير انعكاساً ضرورياً لتغير في الاقتصاد والسياسة والحقبة وطبيعة قوى الإنتاج، وليس تغيراً في الأشخاص والشخوص. وهي من ناحية أخرى بندرتها لا تفوق عدد التغيرات الجوهرية التي تحصل أيضاً في بلدان الأنظمة الديكتاتورية التي تفرضها الضرورات نفسها، على شكل إصلاحات سلمية أو انقلابات وثورات يتم فيها تداول السلطة بشكل غير سلمي.
 

ليس الفرق بين المواطن في النظام الديموقراطي وغير الديموقراطي أن الأول يختار سياسة بلاده في انتخابات أما الثاني فلا، بل في حقوق مواطنة كل منهما ونوعها.