تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

التقرير.. محاولة تفسير أم وصول إلى حقيقة ما جرى؟

2005-10-29

تعاملها مع تقرير اللجنة الدولية للتحقيق في مقتل الرئيس رفيق الحريري تروي الـ»ايكونومست» بتصرف طرفة عن عقرب طلب ان ينقله ضفدع الى الضفة الاخرى من النهر. قال الضفدع: لكنك سوف تلسعني، فأجاب العقرب اذا لسعتك سأغرق معك. اقتنع الضفدع. وفي الطريق لم يتمالك العقرب نفسه فلسعه، ففقد الضفدع توازنه وبدأ يغرق مع راكبه متسائلا: ولكن لماذا؟ ها نحن نغرق سوية؟ فأجاب العقرب: إنه الشرق الأوسط. والمغزى العنصري واضح: «لا تبحث عن منطق مصالح في هذه المنطقة. فسورية تدعي ان ليس من مصلحتها أن تقتل الحريري، وهذا محض هراء لأنه في منطقة الشرق الأوسط لا جدوى من محاكمة الأمور بمنظار المصلحة». (ايكونوميست، 21 تشرين الاول (اكتوبر)، غلوبال اجندا).

 

قيل الكثير حول موضوع المحاكمة لجهة مصلحة سورية في قتل الحريري، فكانت الاجابة انه قد لا يعرف نظامٌ مصلحته. والحديث هو عن نظام متهم عادة من قبل مناوئيه بالتصرف ببراغماتية نابعة من مصلحته فحسب. حسنا، لا يعرف النظام مصلحته، لكن الحريري نفذ ما يريد النظام عند التمديد لاميل لحود، اذًا هو ليس في حاجة الى ان يقتله حتى لو لم يعرف مصلحته، لأنه ينفذ ما يريد.

 

والجواب ان هذا صحيح في ما يتعلق بالتمديد. لكن النظام نفسه أو مخبريه من اللبنانيين وحتى العرب اعتقدوا بأن الحريري بالتآمر مع فرنسا هو المسؤول عن القرار 1559, وانه تحول خصماً دولياً حقيقياً لسورية، وبالتالي كان من مصلحة النظام قتله. فهو نظام يعرف مصلحته إذًا. لكن للمدى القصير فقط، وهو لم يتمكن من حساب نتائج الاغتيال الوخيمة.

 

لا نهاية للادعاءات والادعاءات المضادة في وضع مشحون وعلاقة مشوهة يحسب المرء الف حساب قبل الدخول فيها. فنحن ازاء وضع تستثير فيه حتى الشبهة الدولية الاحتفال، ثم يضاف ان الاحتفال هو بالحقيقة، وان لا رغبة لأحد بتدخل دولي ضد سورية. واذكر جيدا كيف كان يدعي البعض ان مطلبهم الوحيد انسحاب سوري تليه علاقات ممتازة. انسحبت سورية فساءت العلاقات وارتفع التحريض وزادت الشماتة.

 

وإزاء وضع العلاقة بين البلدين وعدد حالات الحقيقة المطلوبة: حقيقة حلفاء سورية الذين ما زالوا حلفاءها، وحقيقة من كانوا حلفاء سورية وكان في إمكانها ان تكسبهم لو عززت نفوذهم على حساب لحود مع عيونهم الى ميزان القوى الاقليمي والتحولات ونفوذ وفرنسا واميركا، وحقيقة عملاء سورية الذين اصبحوا محرضين عليها، وحقيقة خصوم دمشق الذين كانوا وما زالوا خصومها. وازاء تعدد منطلقات المطالبة بمعرفة الحقيقة وجدت سورية نفسها ازاء نظام أميركي يسمى خطأ نظاما دوليا ويعتبرها مذنبة الى ان تثبت براءتها.

 

اي سيناريو ممكن يصلح لفتح خيوط تحقيق. المحقق يروي عادة لنفسه ولفريقه روايات عدة كهذه. لكن حقيقة ما جرى وما يراد التوصل اليه واحدة. أما لجنة التحقيق هنا فتروي رواية واحدة تؤدي الى حقائق غير مؤكدة عدة. ولذلك لم يسمع المرء بإشاعة في الأشهر الاخيرة الا واتسع لها التقرير لانه يعيش هذا السياق فقط. وهو امر ظاهر من تأسيس محاكماتها على رواية تاريخية تسرد العلاقة بين سورية ولبنان بحيث تحول خصوصية العلاقة الى شبهة من السطر الاول الذي يبدأ بتقسيم بلاد الشام وينتهي بعدم وجود سفارات بين البلدين. يختار فريق التحقيق رواية معينة.

 

وكان في إمكانه ان يروي أخرى، وأن يبدأ من مكان آخر. كما كان في إمكانه ان يتعامل بديناميكية اكبر في سرد العلاقة بين سورية والنخب اللبنانية الشريكة لها في الامن والاقتصاد والسياسة منذ الطائف والتي انقلبت على دمشق، او انقلبت الأخيرة عليها. وهي علاقة لا تختزل بمعادلة فاعل وضحية.

 

وحتى من زاوية نظر من يدين سياسة سورية في لبنان هناك روايات عدة يمكن أن تروى.

 

ولا شك في ان الرواية الأكثر مثابرة في سرد العلاقة، من منطلق معارضتها لسورية وللوجود السوري في لبنان، لم تر في القوى السياسية الممثلة حاليا بغالبية نيابية مجرد ضحية في هذه العلاقة. ولم يتم حتى اختيار هذه الرواية. الرواية التي اختيرت هي رواية القوى المتحالفة مع سورية من زاوية لقاء المصالح والتي انقلبت عليها، او انقلبت سورية عليها باختيارها نظاما سياسيا امنيا جديدا ونخبا مستفيدة اخرى في البلدين, وهي اضعف الروايات لجهة صدقيتها لانها انتقائية جدا في اختيار الحقائق من مرحلة ما قبل الجريمة وما بعدها وهي الحقائق التي تفسر تورط دمشق وسلوكها غير الحذر وحتى المستهتر في التحضير للجريمة واخفاء الأدلة. وكأنها تحضر لمؤتمر في وضح النهار وليس لجريمة اغتيال. وكل هذا لماذا؟ لانها اعتادت على الاغتيال من دون عقاب! اطراف عدة ارتكبت اغتيالات من دون عقاب في لبنان وفي العالم ومنها من يدعي الآن على سورية في لبنان ويحتفي بأشخاص متهمين باغتيالات، ومنها من يدعي دوليا على سورية.

 

ويستطيع المرء ان يتخيل انه لو صحت رواية شهود اللجنة هذه فإنه في رأي خبراء الاغتيال في وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية وفي الموساد، الذين يدعون الآن على سورية، فانها تستحق العقاب ليس فقط على الاغتيال بل أيضا على شكله وشكل تنفيذه.

 

حتى من يعترف بوجاهة تقرير ميليس يجد من واجبه ان يوجه بعض الاسئلة المشروعة: تورد اللجنة التسجيل الأكثر وضوحا وقسوة لمحادثة تلفونية في 16 تموز (يوليو) يُظهر فيه رستم غزالي عدم احترام للبنانيين. ونستطيع ان نتخيل محادثات تلفونية عدة من تلك المرحلة بكلام اقسى او اقل قسوة عن سورية وحتى عن الحريري بين سياسيين آخرين في المعسكر المضاد. وفي التسجيل رغبة واضحة في التخلص من رئاسة الحريري للحكومة. وكل هذا في حديث مع شخصية لبنانية لم يكشف عن اسمها في التقرير.

 

ولا يوجد في الحديث الصريح أي اشارة الى نية قتل بل الى ارغام الحريري على الاستقالة حتى من دون أن يقال له ذلك صراحة. ومع ذلك فبعد المحادثة بيوم واحد اعلن الحريري انه لن يستقيل وان هذه حملة مستمرة ضده منذ 12 عاما. أي انه اظهر اصرارا قد يدفع السوريين في نظر المشككين الى استخدام وسائل اخرى. لكنه استقال في النهاية، قبل ان تقع جريمة اغتياله النكراء.

 

أما بالنسبة للقاء الحريري والأسد في 26 آب (أغسطس) 2004 فيعتمد التقرير على شهادة ثمانية أشخاص لم يكن أي منهم موجودا في اللقاء. بعضهم صديق وبعضهم الآخر ليس صديقا للحريري ولم يكن حليفا سياسيا له في الماضي. لكنهم جميعا يلتقون في مخاصمة سورية سياسيا في لحظة التقرير التاريخية. والرواية التي نقلت تصويرية، تصور أجواء ومخاوف, بمعنى انه قيل كلام قد يكون الشهيد الحريري فهمه ونقله كتهديد ليوضح الصورة. وهذا لا يعني ان الثمانية كذبوا. لكنهم حقوقيا ذوو مصلحة، وغير محايدين، وهم نقلوا ما سمعوه من الرئيس الشهيد الحريري، ولم يسمعوا الرئيس الأسد. وهذه شهادة لا تتعدى كونها شهادة عن موقف الحريري وشعوره بعد الاجتماع وليس عما قاله له الاسد بدقة.

 

ولا يحاول التقرير ان يتعمق، كما يفترض بتقرير محايد، في علاقة الشهود بسورية وتطور هذه العلاقة، وهو لا يضع شهاداتهم المتواترة المنقولة في سياقها كما يفترض. وهم بلا شك اصحاب وجهة نظر قد تكون محقة أو خاطئة، ولكنها وجهة نظر خصم لسورية. ولا يمكن لتحقيق محايد الا يرى ذلك.

 

وينقل التقرير تسجيلا عن الحريري بصوته يتضمن رواية عن الجلسة نفسها رواها الحريري نفسه لوليد المعلم وتتضمن شكوى، ليس من تهديد بل من اتخاذ الرئيس السوري قرارا بعدم التعامل معه كرئيس للحكومة. وهذا كلام فيه صدقية ومنطقي عدا عن كونه مسجلا. الدليل المسجل الوحيد لما نقله الحريري عن اجتماعه مع الاسد لا يتضمن تهديدا ولا يؤكد شهادة الثمانية.

 

في الفقرة 96 من التقرير يتم تفصيل رواية عن قرار باغتيال الحريري وخطة لتنفيذها بين تموز وكانون الأول (ديسمبر) 2004 واجتماعات بين الميريديان والقصر الجمهوري. بقي فقط المعرض الدولي. والمعلومات الغريبة العجيبة تأتي برمتها من شاهد سوري عمل في السابق في الاستخبارات في لبنان، من دون اقتباسات ولا تسجيلات ولا صور. والشاهد من دون اسم. ضابط استخبارات سوري متوسط في لبنان يعرف كل هذه المعلومات(!) والقرارات تتم في اجتماعات على هذا المستوى وفي أماكن كهذه من نوع فندق ميريديان والقصر الجمهوري(!)

 

يدعي السوريون ان الشاهد كاذب وانه تم زرعه وتمويله. ولكن لا توجد متابعة حقيقية لهذا الادعاء. يوجد هنا تضليل حقيقي لعمل اللجنة من قبل من زرعه وموله يتجاوز المعلومات الخاطئة المدعاة في رسالة (كما يتم اتهام وزير الخارجية السوري فاروق الشرع).

 

واذا لم ترغب لجنة التحقيق بمتابعة طلب سوري بالتحقيق في التهم التي توجهها هي لمجهول في تضليل التحقيق فهي لا تستطيع ان تتجاهل تقرير مجلة «دير شبيغل» الالمانية حول الموضوع.

 

فهي تدعي ان احد الشاهدين السوريين تلقى اموالا او ان شهادته ملفقة وتم شراؤها. ولكن التقرير يكتفي بالقول انه «حتى اللحظة لا يمكن تأكيد شهادة الصديق من مصادر اخرى».

 

هنالك فرق بين شهادة زور وبين شهادة لا يمكن التأكد من صدقيتها وترد منها تفاصيل وتحذف اخرى، وتبنى عليها روايات وتكمل منها حلقات ناقصة في رواية. وقد اختار التقرير الطريق الثاني، وهذا قرار ملفت ان لم يكن مستغربا. فلماذا توجد اصلا في تقرير مصيري كهذا شهادة يتلوها تعليق انه لا يمكن التأكد منها؟ ما هذا بالضبط؟.

 

وينقل التقرير في الفقرة 97 حديثا عن شخصين مجهولي الهوية احدهما شاهد من دون اسم يسر اليه ضابط من دون اسم ان زلزالا سيقع في لبنان. ومن بين ملايين الاحاديث والروايات والاشاعات يجلب هذا الهمس ليكمل صورة الفسيفساء التي يحاول التقرير رسمها كتفسير لما جرى بدلا من الوصول الى حقيقة ما جرى. وفي الفقرة 98 يدعي الشاهد نفسه انه زار مواقع عسكرية سورية عدة في لبنان وأنه شاهد سيارة ميتسوبيشي، وانه شاهد السيارة نفسها تُحَمَّل بالمتفجرات ايام 11 و 12 شباط أي قبل الاغتيال بيومين، وأن ابو عدس كان موجودا وقت التحميل بالمتفجرات الذي تم بهذا الشكل العلني كما يتم تصليح سيارة. اولا، الشاهد في كل مكان.

 

وثانيا انه ابو عدس نفسه الذي ادعى الجميع ان التسجيل معه مفبرك ومزور وعلى رأي الشاهد نفسه تم التسجيل والمسدس موجه الى رأسه قبل القتل بأسابيع. هل كان الشاهد هناك وقت تسجيل الاعتراف؟. ام سمع ذلك أيضا؟. لا دور لابي عدس سوى تسجيل اعتراف والمسدس موجه الى رأسه، لكنه يظهر فجأة وقت تحميل السيارة بالمتفجرات. الشاهد الكلي القدرة نفسه والموجود في كل مكان يقول انه كان قرب «سان جورج» وانه تلقى مكالمة من ضابط سوري قبل الاغتيال بدقائق يطلب منه ان يخلي المكان فورا. من تسجيل فيديو الاعتراف الى قواعد عسكرية الى الوجود على مقربة من مكان الجريمة قبل وقوعها بقليل.

 

غريب جدا امر هذا الشاهد. يظهر من شهادته أن الأخير يعرف متى سيضغط زر التفجير بالدقيقة. ولماذا لا يقول اسماء او اوصاف من حملوا السيارة بالمتفجرات؟. فهؤلاء هم الفعلة ويجب ان يتم اعتقالهم.

 

جرت العادة ان نسمع عن اعتقال القتلة المنفذين الذين يعترفون بدورهم على رؤسائهم او موفديهم. ولكن في هذه الحالة لدينا روايتان: واحدة عن الرؤوس المدبرة في سورية، واخرى عن الرؤوس في لبنان. اما المنفذون الذين قتلوا فمجهولو الهوية. لا بد ان هؤلاء الكبار ارسلوا احدا. لكن هذا «الأحد» يظهر في التقرير مجهول الهوية، يحمل سيارة بالمتفجرات، ويتصل هاتفيا ليعلم شاهدا ان يلحق نفسه ويهرب قبل التفجير(!) لماذا لم يبلغ طاقم التحقيق السوريين بهوية هذا الذي اتصل؟ لا بد ان الشاهد يعرف هويته والا لماذا اتصل به؟.

 

وتبقى من التقرير اسئلة وجيهة جدا تثيرها مسألة الهواتف الخليوية الموزعة في مكان الجريمة وتتصل ببعضها بعضاً في تسلسل زمني مريب. وهي الدليل المادي الوحيد في التقرير عن خطة الاغتيال ولو كان دليلا ظرفيا، الا انه مهم وعلى من يريد ان يثبت ادانة أحد ان يتابعه وعلى من يريد ان يبرئ نفسه ان يفند أية علاقة له به.

 

وطبعا تستطيع سورية ان تعترض على احكام من نوع انه لا يمكن لجريمة كهذه ان تنفذ دون علم اجهزتها الامنية. فمقولة من هذا النوع مقولة دائرية، ومغالطة منطقية. فإذا لم تكن سورية متورطة، لماذا يجب ان تعلم اكثر من أية دولة تتم فيها جرائم رغما عنها؟ واذا كانت متورطة في الجريمة فمقولة ان الجريمة تتم بعلمها مخففة بل فارغة، لانها اذا كانت متورطة فهي تعلم بل اكثر من ذلك، انها متورطة. هذا كلام لا يثبت شيئا. التقرير يعج بمثل هذه المقولات، ولا يثبت ان سورية اغتالت او لم تغتل الحريري. وهو لا يدعي ذلك على اية حال، خلافا للمحتفين به.

 

ما كان يجب لتقرير كهذا بهذا الوزن ينتظر نتائجه هذا العدد من الناس وله هذه الاسقاطات السياسية حتى بوعي معديه الذين يدعون انه غير مسيس على رغم انهم يعرفون انه قد تكون له نتائج سياسية وأنه قد يستغل سياسيا، ما كان يجب ان يظهر ليروي رواية تفسر ما جرى، بل أن يقدم فقط بعد ان يكون لديه على الاقل اساس لاتهام يدعي معرفة القاتل. وحتى الشبهة لا تكفي لاصدار تقرير بهذا الوزن وبهذه العواقب اذا اسست الشبهة على شهادة او اثنتين، احداهما لا صدقية لها والثانية متناقضة.

 

لكن سورية لم تعد تستطيع ان تعتمد على تناقضات الرواية التي تتهمها والتدليل عليها. والحقيقة أن دعوة اللجنة لها من مجلس الامن ان تبدأ تحقيقا تأتي إما لتثبت ما تقوله اللجنة او لتثبت براءتها، وعلى سورية قبول التحدي غير المنصف وغير العادي. عليها ان تخوض معركة «تبرئة ذاتها» حتى النهاية، ولو تضمن ذلك سرد حقيقتها هي. وهي تتضمن نقدا لدورها ولدور الحريري، عندما كانت علاقته مع سورية ممتازة وعندما ساءت. وعلاقتها في الفترة الاخيرة معه لم تكن جيدة، ولا بأس ان يقول السوريون بصراحة رأيهم بدوره، فلا هم قديسون ولا هو كان قديسا بل سياسي ورجل اعمال. والالحاح في الادعاء ان علاقتهم معه كانت وبقيت ممتازة يفتقر الى الصدقية.

 

 يجب ان تقال الحقيقة كاملة وان تقص سورية الحقيقة كما تراها. التناقضات في رواية الاخرين كافية لكي تمنع ادانتها لغياب الادلة كما في حالة او. جي. سمبسون. ولكن ما يصح في حالة فرد لا يصح في حالة دولة يدعي الجميع انه يعرف انها المدبر وما ينقص هو الدليل المادي. وهي دولة تتعرض اصلا الى عقوبات اقتصادية من قبل اميركا قبل الاغتيال ومن دون علاقة به.

 

وغير صحيح ان على سورية ان تختار اما ان تدعي ان التحقيق مسيس واما ان تتعامل مع تفاصيله. فهذا ادعاء الباحث عن تناقض في الموقف السوري لافشاله. وهو يدعي أنه اذا تعاملت دمشق مع تفاصيله وتناقضاته فقد سلمت بأنه وثيقة قانونية، واذا نسفته من اساسه باعتباره وثيقة سياسية فإن التعامل مع تفاصيله يمنحه صدقية قانونية.

 

هذا التمييز خاطئ لأنه يفترض ان خصوم سورية اختاروا منهجا واحدا، او انهم جزء من مؤامرة واحدة. او ان النقاش علمي او فلسفي وعلى سورية وخصومها ان يتفقوا على تعريف الادوات والمصطلحات كأننا في مناظرة أكاديمية. وهذا غير صحيح طبعا. فمن يحاربها ويستهدفها يفعل ذلك بالادوات كافة.

 

واللجنة قد تكون مقتنعة بما تكتب. وعلى سورية ان تثبت ان التقرير متناقض وان تقنع في الوقت ذاته ببراءتها خلافا لما يتطلبه الامر في محكمة جنائية، وان تثبت ان هناك حملة سياسية تشن عليها بغض النظر اذا كانت اغتالت الحريري ام لا وان تتصرف سياسيا على هذا الاساس. وجورج بوش يسعفها دائما في خطاباته العظيمة، وآخرها خطابه امام نساء الضباط في 25 الشهر الجاري, والذي قال فيه ان سورية يجب ان تعاقب ليس فقط على قتل الحريري بل على ماضيها في دعم الارهاب.

 

حتى الآن اتبعت بريطانيا واميركا وفرنسا اساليب ضغط تعتمد على افتراض براغماتية سورية، وهي من نوع ان الضغط يفيد والسوريين يتراجعون. لقد ادى ضغط دولي بعد اغتيال الحريري وقرار مجلس الامن الى انسحاب سوري فوري من لبنان. لكن العملية مستمرة. ويتم تحييد اطراف والاستفراد بطرف بعد آخر. وحاليا، يتم تأجيل المعركة مع المقاومة وايران لاسباب لبنانية وعراقية والاستفراد بسورية.

 

 لكن الضغط الآن لم يعد يفيد. فالجميع يدرك ان الدور سيصل اليه فورا. وفرنسا على الاقل حققت اهدافها ولا يفترض انها ترغب أن تستمر الى حيث يريد المحافظون الجدد. وروسيا والصين تعترضان. وليس لدى سورية ما تنسحب اليه. وهي لا تستطيع ان تتخلى عن الجولان. وحزب الله لم يعد في اطار مسؤولياتها. وهي لن تتحول الى شرطي لاميركا في العراق. وهي الامور المطلوبة منها.

 

على سورية ان تواجه الهجمة على كافة الجبهات. ولكن من اجل ذلك هنالك بديهية اولى: عليها ان تقنع رأيها العام أولا والرأي العام العربي المتشكك أصلا من الموقف الاميركي. وهذا يحتاج الى حوار داخلي فوري وانفتاح سياسي. أما من يدعي انه يريد أن يعرف الحقيقة ولكنه لا يقبل بعقوبات على سورية، فلا بد ان يدرك أن هناك حاليا حقيقة واحدة أكيدة هي رغبة اميركا بتغيير السلوك السياسي السوري الاقليمي بالضغط وبغيره.

 

وعلى النظام من ناحية اخرى الا يبخل حتى على خصومه الوطنيين في البلد بتشاور وبحوار صادق ومفصل حول روايته عن العلاقة السورية - اللبنانية وعن جريمة الاغتيال النكراء وملابساتها, ثم توسيع الجبهة لتنسيق حملة مضادة تشمل حلفاء مهددين بنفس درجة تهديد سوريا مثل المقاومة اللبنانية وايران وغيرهما، وقوى غير مهددة بالدرجة نفسها ولكنها ترى الخطر الماثل.

 

هناك من كان يتعرض الى ملاحقة في سورية وفي لبنان حين كان بعض خصوم سورية الحاليين في لبنان متحالفين مع النظام الامني السوري اللبناني. وسيثبت الزمن ان جزء كبيرا من هؤلاء يبقى مخلصا لوطنه ويقف مع بلده حين يقف حلفاء مرحلة الوفرة ضدها في مرحلة الضيق. كما ان بعض من انتقدوا سورية وممارساتها في لبنان اثبتوا انهم اكثر صدقية ممن كانوا عملاء لها.