مع تقرير السفير الأميركي في العراق كروكر وقائد الجيش الأميركي في العراق بتريوس بتكليف من البيت الأبيض وجلسات الاستماع في الكونجرس حاولت الإدارة أن تفرض أجندتها وتوقيتها ومفاهيمها على الرأي العام الأميركي. وفرضتها الهيمنة الثقافية الأميركية على أجندات الإعلام العالمي كمزود أول للاستهلاك الإعلامي وعبر تحويل الأخبار منذ أمد بعيد إلى تسلية إخبارية: من ترقُّب "الحدث"، أي ما يصور سابقا كحدث ينبغي انتظاره، إلى بث مباشر على حساب كل شيء آخر يجري في هذا العالم، إلى تعليقات على البث المباشر. ولا تتخلف صحيفة ولا وقناة تلفزيونية عن زميلاتها، لكي لا تتهم بالتقصير ولكي لا تخسر ولو جزء من سوق المستمعين الذي قد يتحول عنها... المنصة وجدت، إذا لا معنى للتهرب من الإدلاء برأي.
أعضاء الكونجرس الذين استجوبوا السفير والآمر العسكري لم يقوموا بالاستجواب من منطلق عربي أو عراقي، بل من منطلق أميركي، وهم يوجهون الاتهامات للإدارة كابحين غضبهم بهدوء مصطنع بات يميز ذاته كنبرة صوت أميركية في السياسة لسببين رئيسيين: الأول هو فشلها في تحقيق أهداف الحرب الكاذبة والفعلية. ولو نجح بوش بنفس المهمة والأهداف لما كانت هنالك مشكلة، فهؤلاء النواب ليسوا وطنيين عراقيين، ولا قوميين عرب، ولا حتى لبراليين كونيين. فهم يتعايشون مع نظام استبدادي في دولة أجنبية ما دام قصة نجاح، أي ما دام ناجحا في خدمة مصالحه ومصالح أميركا. بوش يحاسَب بموجب الأهداف التي وضعها لنفسه. ولو جاءهم آمر قوات الاحتلال إلى الكونجرس رابحا ولو بعدد أكبر من الجرائم ضد المدنيين لما كانت هنالك مشكلة. لا يوجه في الكونجرس نقد ضد مبدأ الاحتلال وعلى هدم الكيان العراقي بمعول بريمر ورؤسائه ومرؤوسيه، بل نجد نقدا لسياسة بوش لأنها فشلت، وقد فشلت بالمعايير الأميركية. الأمر الثاني الذي يهم أعضاء الكونجرس هو الدقائق السبعة التي سوف تسلط فيها الكاميرا على وجوههم وهم يتكلمون ويوبخون ببلاغة وإيجاز سياسة غير شعبية لا يتحمل الموظفان المسؤولية عنها. اهتم كل عضو كونجرس أن يوضح ذلك في مقدمته، كما اهتم أن يحيي رجال ونساء الجيش على شجاعتهم.
لقد بدأ النقد الذاتي في الصحافة الأميركية على دورها في التعبئة للحرب على العراق، وتجده في مقالات صحفيين عديدين ينتقدون دور الصحافة مباشرة، وقد فعلت ذلك نيويورك تايمز إذ اعتذرت للقراء. ولكن الكونجرس ينسى ويتناسى أنه أيد الحرب حين إعلانها بنسب أعلى من تأييده حرب فيتنام في بدايتها.
لعبة الاستعراض البرلماني والتقارير وغيرها هي لعبة سياسية أميركية داخلية من قمة رأسها إلى أخمص قدميها. فبالنسبة لمعارض السياسة الأميركية في العراق ليس معيار الموقف هو نجاحها أو فشلها في تحقيق الأهداف، بل الأهداف ذاتها هي المشكلة .
ومنذ أن أدرك بوش درجة تورطه بدأ في عملية تمرير فترة رئاسته في العراق بإشغال الرأي العام الأميركي بمواعيد زمنية وهمية وأحداث قادمة يتطلع لها الرأي العام الأميركي وتفرض على الرأي العام في المنطقة العربية أيضا: نقل السلطة في العراق، الانتخابات، تقرير بيكر هاملتون، زيادة عدد القوات، مؤتمر الدول المجاورة، تقرير كروكر بتريوس...الخ. وكلها مواعيد وهمية يتطلع الناس إليها كأنها تواريخ فاصلة سيختلف ما بعدها عما قبلها، ولكن الخيبة بنيوية. ولا يحدث "تقدم" طبعا، (لا يوجد أصلا اتفاق على سؤال: تقدم بماذا؟). وكل ما يجري هو زيادة التورط الأميركي، وسير العراق بخطوات أسرع نحو التفكك... هذا هو الحدث العظيم الوحيد الحاصل فعلا. وفرض كل ما جرى في الكونجرس والمهرجان الإعلامي من حوله على العرب، أي فرض التعامل المشهدي مع بتريوس كجنرال و"جنتلمان" وليس كمجرم حرب، وتعاملنا من حيث ندري ولا ندري مع أعضاء الكونجرس كحكماء محايدين وحازمين يطمس الفرق بين قوات الاحتلال وقوات حفظ السلام، وبين الحرب والتفاهم وسوء التفاهم مع أميركا.
ولو هبط كائن فضائي في واشنطن وجلس يستمع إلى جلسات الكونجرس لحسب أن العراق كان كيانا تمزقه الحرب الأهلية الطائفية عندما قررت أميركا إرسال قوات حفظ السلام إليه لتفصل بين الطرفين، وأن النقاش يدور في الكونجرس حول النجاح في المهمة من عدمه. نحن نعرف تاريخ الاحتلال وتفكيك دولة العراق بالحرب العدوانية بعد حصار تجويعي دام ثمانية عشر عاما، ولكن المواطن الأميركي المسكين هو فعلا أقرب إلى كائن فضائي.
ومع ذلك، ورغم كل ذلك، لم يتضمن المشهد مفاجآت، "إنه الأسبوع الذي لن يحدث فيه شيء" كما توقع أحد المعلقين الأميركيين. وفعلا لم يحدث شيء. توقع الجميع أن يكون تقرير الموظفين ( الدبلوماسي والعسكري) تقريرا تجميليا للسياسات الأميركية فيبرر زيادة عدد القوات ويثبت نجاعة استراتيجية المشغِّل، جورج بوش، في تقليص عدد حالات العنف الطائفي وعدد عمليات المقاومة ضد جيش الاحتلال. وهذا ما حصل فعلا.
إنه نفس بتريوس الذي كتب كجنرال من العراق مقالا في "واشنطن بوست" يوم 26 أيلول\سبتمبر 2004 في أوج العنف الطائفي وعمليات المقاومة التي كانت تجتاح العراق يدافع فيه عن سياسة بوش ويرى فيه ضوء في آخر النفق ويتوقع تغييرا حقيقيا في السنة التالية أي في 2005.
هنالك موظفون...وهنالك موظفون. فمراقب الدولة الأميركي، أو مكتب المساءلة المستقل والملتزم قانونا أمام الكونجرس قدم تقريرا أكثر استقلالية لأنه يشكل سلطة مستقلة ولو داخل نفس المؤسسة. لم يحظ التقرير بعظيم اهتمام. وكانت العاصفة الإعلامية والتغطية والدراما والحشد الصحفي والسحنات الجدية على الكراسي الجلدية من نصيب التقرير الأقل أهمية والذي جاء بتكليف من بوش.
لا نعرف كيف اختار التقرير إحصائياته وأرقامه، ولا كيف قرر الفرق بين عنف جنائي وطائفي، ولا نعرف أيضا لماذا اختيرت هذه الأشهر تحديدا لمقارنات تظهر انخفاضا في معدلات العنف وبالتالي نجاحا لسياسة التدخل العسكري. ولكننا نعرف أنه فعل ذلك برسوم بيانية وجمل تحمل ألف معنى وكليشيهات، ولم يقتنع أحد. لم يقتنع أحد أن تقليص العنف بتطويق مدن مثل بعقوبة والفالوجة والتنكيل بسكانهما وانخفاض مستويات المقاومة طالما بقي الجيش مركزا من حولها هو إنجاز استراتيجي. الجميع يعرف أن نفس العنف سيعود مضاعفا حال مغادرة الجيش أو إرخاء قبضته. وبالعكس ربما يزداد العنف نتيجة نزعات ثأرية لدى المدنيين الذين نكل بهم. ولم يصدق احد أن انخفاض العنف في بغداد ناجم عن انخفاض الاحتراب الطائفي. فمن السهل إثبات أن العنف انخفض لأن حملات التطهير العرقي من قبل ميلشيات المهدي وبدر والمدعوم من الشرطة والأمن العراقي نجحت في تحويل بغداد من مدينة 63% من سكانها من السنة إلى مدينة 75% من سكانها من الشيعة. وهذه أرقام جون كيري، وتدعمها تقارير العدد الأخير من "نيوزويك" حول ما يجري في بغداد. وهذا يعني أن العنف انخفض بعد أن حقق مراده فقل الاحتكاك الطائفي نتيجة لتحقق هيمنةِ طائفيةٍ بعينها. كما لم يصدق احد أن ميل عشائر الأنبار لمقاتلة القاعدة الناجم عن ممارسات الأخيرة الطالبانية ضدهم وضد أبنائهم وبناتهم هو انجاز للإستراتيجية العسكرية الأميركية، إذ يمكن قراءته كنتيجة لفشل الإستراتيجية الأميركية واضطرار هذه القبائل أن تدافع عن نفسها أمام همجية وتجبر القاعدة. وما مفاخرة بتريوس وكروكر بهذا "الانجاز" إلا تعبير عن عمق أزمة الاحتلال وعن حجم التورط الأميركي في الفخ العراقي.
إنها تكريس لنفس الخطيئة التي بدأ بها الاحتلال سفره غير الميمون في العراق على السكة الخطأ. لقد بدأ بتقسيم البلد طائفيا حتى وصلنا إلى الوضع البائس الذي بات فيه العلماني يحصي نسب الشيعة والسنة ببغداد بعد تطهير طائفي. ثم عندما أدت الطائفية إلى متاجرة الأصولية الدموية بها راهن الاحتلال على غضب العشائر وسلحها، ومستقبلا قد تنقلب العشائر عليه أو ربما على عشائر أخرى. نجح الاحتلال في هدم بنيان دولة، وهو لا يعيد بناءها بل يمعن في التفتيت.
في المشهد البرلماني الحي والمباشر ظهرت أميركا كما هي. دولة عظمى دخلت الحرب بعدة ولكن من غير إعداد، وبتآمر ولكن من دون خطة لإدارة البلد. شنت أميركا العدوان عبر نشر الأكاذيب وإزاحة الغضب الشعبي على 11 أيلول من القاعدة وتوجيهه بتآمر ودهاء نحو العراق. وهي نفس أميركا التي أدركت أنها كانت الحرب الخطأ، ولكن ليس لديها خطة للخروج من العراق. إنها أميركا التي أدركت أنها الحرب الخاطئة لأنها حرب فاشلة.
خروجها المفاجئ سيعرض حلفاءها ومصداقيتها ومنطقة الخليج برمتها للخطر، أما بقاؤها في العراق فسوف يمدد زمن النزيف المستمر لها وللمنطقة بلا نهاية. ليس لدى أميركا خطة للخروج. ومن يدعون إلى انسحاب مبكر يراهنون على أن مغادرة من هذا النوع سوف تضع القيادات العراقية أمام مسؤولياتها وسوف تضطرها إلى مصالحة وطنية، وهذه طبعا مجازفة. وتخشى أميركا ليس فقط من الفوضى والحرب الأهلية على نمط رواندا والكونجو وكلها مجازر رهيبة كبرى تمت بسلاح خفيف، بل أيضا من فراغ سياسي تحتله دول إقليمية مثل إيران وسوريا.
كانت الخطيئة الكبرى وما زالت هي إعلان الحرب على العراق واحتلاله دون سبب للحرب. ثم كانت الخطيئة الثانية التي وضعت مسارا للأولى في التعامل مع العراق ككيان طائفي تحكمه أقلية سنية تضطهد أكثرية شيعية، وكانت الخطيئة الثالثة تفكيك الدولة والجيش وفسح المجال لمليشيات طائفية للتلبس بلبوس الشرطة والأجهزة الأمنية...في حين كان العراق دولة، وكان المضطهَدين والمضطهِدين في العراق من السنة والشيعة. لقد وضعت هذه الخطايا الاحتلال والتطور السياسي في العراق بما فيه الدستور وبناء أجهزة الأمن وغيرها على سكة تقود نحو الدمار. حتى المعايير والأدلة التي تحاسب الحكومة العراقية بموجبها في الكونجرس هي تعبير عن توجه طائفي للعراق. خذ مثلا مشاركة إقليمٍ الأقاليم الأخرى بثروته النفطية. منذ متى تتبع الثروة النفطية أصلا لإقليم؟ يطرح المعيار الذي تحاسب عليه حكومة نوري المالكي في توزيع ثروة العراق وكأن إقليم بعينه يملك النفط ويتكرم بجزء منه على الآخرين... في حين يتلخص توجه بناة الدول بأن هذه ثروة العراق وشعب العراق. لقد أدخل الاحتلال فيروس الطائفية أو سمح له بالتفشي بعد أن أزال كافة الموانع من طريقه. ولن ينجو من عدواه مخلوق. ولن ينقذ الأميركيون العراقيين من هذه العدوى، وفقط قيادات عراقية وطنية جدية وقادرة على التفاهم مع المقاومة قادرة على إنقاذ بلدها إذا توفرت لديها الإرادة والقوة.