تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

إلزام الضحية بالتوقيع على وثيقة نَكبتها!

2007-10-17

إذا رغب شخص أن يتصور حجم المأساة الفلسطينية وعمق ورطة الفلسطينيين، عليه أن يقرأ بتمعن قرارا أخيرا لوزارة المعارف الإسرائيلية. ويتلخص القرار بدعوة كل تلامذة المدارس، يهودا وعربا، الى التوقيع على وثيقة استقلال إسرائيل، وذلك ضمن الاحتفالات بمناسبة ستين عاما على قيامها.

 

وقد وضعت «دائرة الشباب والمجتمع» في وزارة المعارف الأهداف التالية لاحتفالات الستين عاما في بيان وزعته على المدارس: «- الاحتفال بستين عاما على قيام دولة إسرائيل في جهاز التعليم اليهودي والعربي. 2- تنمية مشاعر الانتماء والكبرياء والمحبة لدولة إسرائيل إبنة الستين عاما لدى كل من يتردد على جهاز التعليم. 3- مساعدة كل الشباب اليهود والمسلمين والمسيحيين والدروز والآخرين على بلورة رؤيا دولة إسرائيل كدولة يهودية وديموقراطية. 4- تشجيع القيام بدور مجتمعي وتنمية المسؤولية عند الشباب وحثهم أن يكونوا مواطنين ناشطين في شؤون المجتمع.

 

نظرة سريعة على هذا النص تبيِّن أنه لا وجود لعرب فلسطينيين، فمن مصفاته يمر فقط مسلمون ومسيحيون ودروز. حبذا لو يقرأ هذا اخوان لنا في العراق ولبنان وغيرهما. وعلى الطالب العربي بموجب هذا الهدف التربوي أن يحب إسرائيل وأن ينتمي إليها وأن يشعر بالكبرياء، لا أكثر ولا أقل... عبثاً تبحث أليس عن نص أكثر عبثية في بلاد العجائب!

 

لا شك أنه نمط استعماري لجوج. فهو لا يكتفي بسلب الأرض وطرد السكان وإحلال آخرين محلهم، وتدمير المجتمع وتبرير ذلك كله بوعد إلهي، وبصدقية ذاتية تبلغ حد اعتبار ذاته حركة تحرر علمانية في الوقت ذاته، بل هو يلح على الضحية أن تعجب به، وأن تمنحه ليس فقط اعترافا بل أن تعترف أيضا بشرعيته التاريخية. إنه لا يكتفي بالتهجير والاحتلال، بل يريد النفاذ تحت جلد ضحيته لكي توقع هي على وثيقة استقلال إسرائيل، وتحتفل بنكبتها هي.

 

تكمن فرادة الاستعمار الصهيوني بانشغاله الدائم بهويته، وتقمص دور الضحية، وبهذا الالحاح المستمر طلبا للشرعية وبحثا عن إعجاب الضحية به، كأنه أسدى لها معروفا إذ حررها من الوطن والقومية، في حين يتمسك هو بـ «أعباء» مثل الهوية القومية والوطن، وعلى الضحية أن تتضامن معه في صراعه وعصابه الداخلي الناجم عن اضطراره للتسبب بنكبات للآخرين. وهو يؤنب ضحيته بلغة ليبرالية كلما حاولت إعادة بناء ذاتها فيتهمها بالقومجية والشوفينية وبالارتداد إلى تقليعات قومية عفا عليها الزمن في عهد العولمة. فهو صاحب الحق في ان يتمسك بالقومية إلى درجة الشوفينية، وله الامتياز أن يعاني من ذلك، أما الضحية فيحرم عليها هذا وعليها أن تكتفي بإبداء إعجابها به، أو التعايش معه على الأقل.

 

وما من شك أن الهوس بالاستقلال وبالعلم والرموز والأناشيد الوطنية بألحان المارش، والحركات الكشفية نصف العسكرية، وبرفع العلم على سطح كل مدرسة وعلى لوحة السيارة، وسن القوانين الموسمية المتعلقة بكيفية التعامل مع الرموز الصهيونية، كلها دليل قومجية متطرفة قل مثيلها في عالم اليوم. ومجرد الطلب حتى من التلميذ اليهودي توقيع وثيقة الاستقلال هو طقس يرفع القومية إلى درجة الشعائر الدينية يتقمص فيها التلميذ دور آباء الأمة ومؤسسيها، ولو قام به العرب في دولهم لسخرت منهم إسرائيل.

 

هذه دولة تحمل رسميا إيديولوجية قومية متطرفة تعيد الدولة انتاجها باستمرار، لا فرق في ذلك بين أجنحتها الليبرالية واليسارية واليمينية، ولكن إسرائيل بزت حتى ذاتها عندما طلبت وزارتها من التلميذ العربي أن يوقع على وثيقة استقلالها. يتنكر الفكر الاستعماري هنا بلبوس المساواة واللياقة السياسية وعدم التمييز بين طالب وطالب. في حين أن المضمون هو فضيحة في التمييز العنصري، إذ يطلب من اليهودي أن يؤكد ذاته القومية (وبلغة مستنكرة نقول: يطلب منه أن يلغي نفسه وفرديته تماهيا مع مشروعه القومي وفي تقمص دور آباء الأمة)، ويطلب من العربي أن يلغي قوميته وأن يشوه ذاته الفردية إذ يتماهى مع المشروع الاستعماري الذي كان سبب المنفى لأهله وله.

 

وزيرة المعارف والثقافة الاسرائيلية الحالية وصاحبة هذه الأفكار النيرة، هي ممثلة التيار الليبرالي داخل المؤسسة الصهيونية! والحقيقة أن اليسار الصهيوني المتمثل تاريخيا بحركة العمل الصهيونية وما تشعب وتفرع عنها، هو مؤسس المشروع الصهيوني على الأرض، وهو الذي حمل السلاح وحارب العرب وأقام العلاقات مع بريطانيا ثم أميركا، وهدم المشروع الوطني الفلسطيني وشيد دولته. وهو عموما صاحب مثل هذه الأفكار عن تعايش العرب مع إسرائيل من منطلق «التآخي» العربي اليهودي، أو من منطلق الكره المشترك بينه وبين الفقراء العرب ضد الرجعية العربية وطبقة «الأفندية» (كانوا يلفظونها بالعبرية «هأفنديم»)... وهو الذي بحث في النهاية عن سلام وتحالفات مع «الأفندية» المعاصرين ضد الفقراء وضد «التطرف» الوطني والقومي والإسلامي. كان هذا التيار معاديا لليبرالية التي تحالفت مع اليمين الصهيوني. ولكن في الحقب الأخيرة التي انحازت فيها الليبرالية الصهيونية إلى جانب التسوية تحالف هذا التيار مع الليبرالية في المجتمع الإسرائيلي. من صفوف هذا التحالف جاءت هذه الأفكار الغريبة أن يقوم التلميذ العربي بتوقيع وثيقة الاستقلال الصهيونية.

 

ونحن طبعا لن نفعل ما يفعله الجاهلون بطبيعة هذا المشروع الذي ينسبون اليه كل ما يتصورونه عنه من الشرور وحتى الخوارق، ولن نخلط بين تحليلنا وتبرير أصحاب الفكرة لها. فلدى الليبرالي الصهيوني بالطبع تبرير آخر لهذه الفعلة غير تحليلنا. إنه يعتبر وثيقة الاستقلال الداعية في إحدى فقراتها إلى منح المساواة لكل مواطني الدولة بغض النظر عن الدين والعرق والجنس تقدما قياسا بالسائد مما آلت إليه الثقافة السياسية العنصرية بخاصة في المدارس وفي أوساط الشبيبة. بقدرة هذا التبرير يصبح توقيع وثيقة الاستقلال فعلا تنويريا. فهو يحيي «القيم الكونية» التي قامت عليها دولة إسرائيل، من دون ان يتعرض الليبرالي الداعي للتوقيع على الوثيقة لتهمة الرخاوة والخيانة والتراخي، فشفيعه وكفيل وطنيته هو اشتقاقه قيمة المساواة من أهم نص صهيوني، وثيقة الاستقلال.

 

إن صَلُح هذا التبرير فإنه يصلح فقط للمعركة على الثقافة السائدة في الشارع اليهودي الإسرائيلي وليس في أوساط المواطنين العرب. وحتى هناك لم تنشأ سياسة التمييز على إثر انتشار ثقافة عنصرية بين تلامذة المدارس اليهود، بل كانت قائمة في ظل الوثيقة وقبل احتلال عام 1967. ومن مساعي الليبراليين الأكيدة أنهم إذ يدعون إلى انهاء احتلال الأراضي العربية المحتلة عام 67 ينشرون دعوةَ عودةِ إسرائيل إلى سجيتها الاصلية، وكأنها كانت قبل ذلك العام مثالاً يحتذى للديموقراطية وحقوق الإنسان والمساواة. إنهم إذ يناهضون الاحتلال يؤكدون وطنية اسرائيلية سابقة تعيد إسرائيل إلى سوية لم تكنها في يوم من الأيام. فحين أعلنت وثيقة الاستقلال الصهيونية على أرض فلسطين كانت الهاغاناه تعد العدة للاستيلاء على فلسطين كلها وإقامة دولة يهودية عليها بعد طرد السكان العرب. وبعد صدور الوثيقة الداعية لتحقيق المساواة لكل المواطنين خضع المواطنون العرب لحكم عسكري وسنت القوانين لمصادرة أراضيهم، وتعرضوا إلى سياسة تمييز في مناحي الحياة كافة.

ولنصعب الحجة على أنفسنا قليلا فنطرح نقاشا مضادا: ما ناقشته حاليا هو الممارسة الصهيونية، اما الوثيقة ذاتها فحسنة، وإذا خالفت الممارسة الوثيقة فما الداعي الى رمي الوثيقة مع مياه سوء تطبيقها المتسخة؟

 

وعلى هذا نرد أن وثيقة استقلال هي ليست نظرية علمية. وتطبيقها هو الإعلان عنها. وهو وظيفتها التمويهية في الحالة الصهيونية الاستعمارية، وهو عملية بناء الأمة عبر نصوصها المكونة: مثلا أن تعلن الصهيونية فهمها لذاتها كحركة قومية تقيم دولة بناء على حق تاريخي وديني، وأن تعلن الاستمرارية اليهودية «غير المنقطعة» على أرض فلسطين.

حسنا، وماذا بالنسبة للفقرة عن المساواة؟ هذه أيضا أدت وظيفتها بقبول إسرائيل عضوا في الأمم المتحدة، وكان هذا الإعلان عن الالتزام بمبدأ المساواة أحد شروط القبول. ليست وثيقة الاستقلال نظرية جرى تطبيقها بشكل خاطئ، بل هي إعلان ايديولوجي، وهذه هي ممارسته.

 

بالتوقيع على وثيقة الاستقلال يطلب من الطالب اليهودي ان يتقمص القومية ومن الطالب العربي أن يشوه ذاته، وأن يتشوه أخلاقيا وحضاريا. وحتى نصا ترد قيمة المساواة في وثيقة الاستقلال في إطار ناف للمساواة. فالنص نفسه لا يكتفي بإعلانها في إطار مشروع استعماري قام على انقاض المجتمع الفلسطيني، بل يؤكد نظريا أيضا على وحدة الدين والدولة، وعلى وحدة الدين والانتماء القومي.

 

ولإنعاش الذاكرة نورد فقرات من وثيقة الاستقلال التي يفترض ان يوقع عليها الطالب العربي:

«نشأ الشعب اليهودي في أرض إسرائيل، وفيها اكتملت صورته الروحانية والدينية والسياسية، وفيها عاش حياة مستقلة في دولة ذات سيادة، وفيها أنتج ثرواته الثقافية والقومية والانسانية وأورث العالم أجمع كتاب الكتب الخالد. وعندما أُجلِيَ الشعب اليهودي عن بلاده بالقوة، حافظ على عهده لها وهو في بلاد مهاجره ولم ينقطع عن الصلاة والتعلق بأمل العودة إلى بلاده واستئناف حريته السياسية فيها.

 

وبدافع هذه الصلة التاريخية التقليدية أقدم اليهود في كل عصر على العودة إلى وطنهم القديم والاستيطان فيه، وفي العصور الأخيرة أخذوا يعودون إلى بلادهم بآلاف مؤلفة من طلائع ولاجئين ومدافعين، فأحيوا القفار وبعثوا لغتهم العبرية وشيدوا القرى والمدن وأقاموا مجتمعاً آخذاً في النمو شيد اقتصادياته وثقافته ينشد السلام ويدافع عن دياره ويزف بركة التقدم إلى جميع سكان البلاد متطلعاً إلى الاستقلال الدولي.

 

وفي عام ‎5657 حسب التقويم العبري للخليقة الموافق عام ‎1897 ميلادية عقد المؤتمر الصهيوني تلبية لنداء صاحب فكرة الدولة اليهودية المرحوم ثيودور هرتزل وأعلن حق اليهود في النهضة الوطنية في بلادهم. وتم الاعتراف بهذا الحق في تصريح بلفور في اليوم الثاني من شهر تشرين الثاني عام ‎1917».

 

على الطالب العربي أن يوقع على كل هذا النفي لوجوده. وعندما يصل الى الفقرة المحتفى بها حول المساواة يجد أنها مستقاة من رؤيا انبياء إسرائيل وبعد ان تؤكد على حق الهجرة اليهودية:

«تكون دولة إسرائيل مفتوحة الأبواب للهجرة اليهودية ولجمع الشتات، تدأب على تطوير البلاد لصالح سكانها جميعا وتكون مستندة إلى دعائم الحرية والعدل والسلام مهتدية بنبوءات أنبياء إسرائيل. تقيم المساواة التامة في الحقوق اجتماعياً وسياسياً بين جميع رعاياها بغض النظر عن الدين والعنصر والجنس وتؤمِّن حرية الأديان والضمير والكلام والتعليم والثقافة وتحافظ على الأماكن المقدسة لدى كل الديانات وتكون أمينة لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة».