عزمي بشارة
لا شك أن في المجتمعات العربية بعداً طائفياً عصبوياً قبلياً جاهلياً يعطل بناء الأمة والديموقراطية، إذ لا يكتفي بتحويل الفرق المذهبي إلى طائفية، بل يتجاوز ذلك إلى تحويل الخلاف السياسي والاختلاف في تصور مصلحة المجتمع إلى صراع قبلي أو طائفي. ولا شك أن التعصب هو جاهلية حتى من زاوية نظر الديانات الكونية التي اعتمدت الثواب والعقاب وموقف الإنسان كفرد أمام الله. فهي تحوّل الإيمان إلى انتماء لجماعة فيها المؤمن وغير المؤمن، والوطني والعميل، والصالح والطالح.
ولكن وكأنه لا يكفي المجتمعات العربية ما هي فيه من تعثر الانتقال إلى الحداثة وعملية بناء الأمة، وإلى فرد ينتمي إلى مجتمع، ومواطن إلى جماعة سياسية ودولة، عمل الاستعمار منذ «سايكس بيكو» و «سان ريمو» علناً على تفتيت الأساس التاريخي الممكن الوحيد لبناء الأمة، ألا وهو الجامع العربي، وقسمه بالمسطرة بخطوط مستقيمة في المشرق، ثم اعتمد في بنية الكيانات السياسية الناشئة على كيانات عضوية قائمة من نوع القبيلة والعشيرة والطائفة مانحاً إياها مصادر قوة جديدة عبر الجيش والدولة والوظائف وغيرها.
لا ننكر وجود الطوائف، ولكن مهمة بناء الأمة والديموقراطية لا تتم عبر استنساخها وإعادة إنتاجها كوحدات سياسية، فهذا تفتيت للأمة وإجهاض لعملية بنائها. لم توجد الأمة منذ البدء ولن تبقى الى الأبد، ولكن وجود التقسيمات الطائفية والعشائرية لا ينفيها بل يؤكد ضرورتها والحاجة إليها. فلم تقم أمة إلا عبر مواجهة هذا التحدي، والعمل على تحويل الطوائف والعشائر إلى وحدات سياسية عصبوية تأخذ مكان، أو تجهض، الوحدات الطوعية البرنامجية أو الرؤيوية أو المصلحية هو إعاقة قد تتحول إلى تشويه لهذه العملية، وقد يعني تداعي التعددية إلى حروب أهلية وأمم متصارعة.
تقسم إسرائيل، التي قامت ككيان استعماري يرى نفسه كحركة قومية تقوم على إيديولوجيا قومية تعلمن وتؤمم الانتماء الديني لدى مواطنيها العرب، سكان البلاد الأصليين إلى عرب ودروز، أوعرب ودروز وبدو، أو تسميهم «أبناء الأقليات»، وتدرّسهم تاريخهم على هذا النحو. في إسرائيل «منهاج تعليم درزي» يدرس للدروز فقط، وبدون ذلك ما كان ليدوم فصل العرب الدروز عن بقية العرب في الخدمة العسكرية الإلزامية. دخلت إسرائيل بعقليتها الاستعمارية هذه إلى اللعبة الإقليمية كدولة حولت الانتماء الطائفي إلى أمة سياسية تشكل أساسا للكيان السياسي، للدولة. وتبعتها في مفارقة تاريخية باكستان بعد عام واحد، مع الفرق الجوهري والمصيري أن الأولى قامت كاستعمار استيطاني. ولكن مجرد كون إسرائيل طائفة/ أمة لفت نظر حركات أصولية في المنطقة العربية. وقد عزز انتصارها عام 1967حجج بعض القوى الأصولية في المنطقة علنا ضد الأنظمة العربية «العلمانية» التي هُزمت على يد دولة دينية. لقد كتب ونشر الكثير في حينه حول هذا البعد الذي يمنح إسرائيل قوة على حد زعم بعض الحركات الدينية السياسية التي ناهضت الناصرية والبعث وغيرهما في حينه.
إسرائيل بمنطقها دولة قومية، وبالتالي لها حقوق سياسية على الأرض فيما يتجاوز التوراة والعهد التوراتي إلى حقوق الأمم الحديثة. أما العرب فيتم التعامل معهم كطوائف وعشائر ومذاهب تنفي الصفة القومية عنهم، وتنفي بالتالي الصفة السياسية لاجتماعهم وتقصره على العشيرة أو المذهب الذي تحول إلى طائفة سياسية، كما تنفي حقهم كقومية على الأرض. لقد أدى التعامل الأميركي والأوروبي والإسرائيلي تحت هذه المسميات والتدخل في شؤون الدول والشعوب في المنطقة العربية عبر هذه العناوين، ومن خلال ممثلي الطوائف والعشائر أو من يدعون تمثيلها، ليس إلى خلق العشائر ولا الطوائف بل إلى عنادها أمام التحديث وإلى تسهيل إعادة إنتاجها كوحدات سياسية.
وامتدت التحالفات الإسرائيلية المعلنة كعقيدة من بعض الدول والحركات السياسية الى غير العرب في محاولة لإقامة حزام حول المنطقة العربية، مثل الحركات الكردية وإيران الشاه واثيوبيا هيلاسيلاسي ضد العرب الذين يسمون اليوم شيعة وسنة، (قبل ان يحدث الانقلاب في اثيوبيا وقفت إسرائيل معها ضد ارتريا، ثم مع ارتريا ضد إثيوبيا الجديدة). امتدت التحالفات المرغوبة على الأقل إلى ما اعتبرته أقليات عربية داخل المنطقة العربية لإتمام وتوسيع مفهوم الأقلية الدينية السياسية ذات الاتصال بالخارج منذ أيام الفرنسيين والانكليز والعثمانيين ضد العرب، وضد الأكثرية من المسلمين السنة في المنطقة العربية. وبحثت عن قنوات اتصال مع الحركات الطائفية الانعزالية في لبنان منذ ما قبل عام 1948، ثم في الخمسينيات وعشية وبعد الحرب الأهلية. ولم توفق إسرائيل غالباً في «الدخول بين البصلة وقشرتها» إذ لم تنل «غير دمعتها» كما يقال في فلسطين، ولكنها ساهمت في عملية التفتيت وتكريس التقسيمات الطائفية كتقسيمات سياسية. ولم تتعامل مع المنطقة أبدا بشكل آخر.
وبعد الثورة الإيرانية باتت إيران، ومعها الإسلام الشيعي الذي لم يكد يذكر في السابق، هي العدو، وعاد البحث الدائم عن قنوات اتصال عربية وعن قنوات اتصال مع العراق، ولكنها فشلت غالباً حتى عندما «نجح» اتصال النظام العراقي مع أميركا. فقد كان الانتماء القومي الايديولوجي للنظام ومصدر شرعيته رادعا في الغالب، وما تقدمه أميركا كان غير كاف واقل من وراثة دور الشاه.
وعندما لم يحسب السنة طائفة في لبنان بل تعاملوا مع أنفسهم كمسلمين عروبيين، لم تجد إسرائيل أي قناة إليهم ولا عبرت عن أي تعاطف معهم، فكيف يمكن أن تعبر عن تضامن مع القاعدة الاجتماعية الحاضنة للمقاومة الفلسطينية وللتيارات الناصرية في آن؟ وبحثت عن قنوات اتصال مع المارونية السياسية، ولم تمكن قيادة كمال جنبلاط، وفهمها لذاتها ولدورها، إسرائيل من أي حديث عن طائفة درزية سياسية أصلا، فقد اعتبر نفسه خصم الطائفية السياسية، واعتُبر قائدا قوميا على المستوى اللبناني والعربي كما اعتبر شكيب ارسلان يوماً، وكما اعتبر سلطان الأطرش رمزاً.
ولكن المرء يفرك عينيه غير مصدق وهو يقرأ مقال البروفسور في التاريخ الأوروبي ووزير الأمن الداخلي الإسرائيلي في مرحلة باراك شلومو بن عامي (مقال الجدار الواقي الإيراني في «هآرتس» 4 كانون الاول 2006) وهو ينظِّر للتحالف مع ما يسمى فجأة الأنظمة السنية المعتدلة، ضد «الديموقراطية الإسلامية»، تقال على وزن الديموقراطيات الشعبية في أوروبا الشرقية في حينه، والتي سوف تجلب إسلاماً سياسياً معادياً لإسرائيل، وضد المحور الإيراني والحركات الشيعية. وهو يعتبر المواجهة مع إيران قادمة لا محالة، ولهذا الغرض لا ينبغي تأجيل بقية القضايا والتركيز على إيران، بل ينبغي استغلال الوقت لتحييد العالم العربي، والأداة البديهية لذلك هي انتزاع الصراع العربي الإسرائيلي كأداة تعبئة من أيدي إيران، وهدمه كجدار واق من حول إيران، وذلك بالتوصل إلى تسوية مع العرب والتعامل بجدية مع مبادرة السلام العربية، دون أن يدعو لقبولها طبعا. أي أن الدافع للتعاطي بإيجابية مع مبادرة السلام العربية هو عزل الموقف الإيراني!
هل يعرف من يراهنون على الطائفية السياسية في لبنان لتعبئة تضامن ضد المعارضة أن إسرائيل وأميركا مستعدتان للتنازل عنهم لصالح إرضاء قوة إقليمية مثل سورية لو قبلت الأخيرة بلعب دور التخلي عن إيران والمقاومة في لبنان وفلسطين، وإذا وافقت على تسوية غير عادلة تمرر المخطط أعلاه؟ نعم يعرفون، ولذلك أيضا يضعون أيديهم على قلوبهم كلما برزت دعوة لحوار كهذا. المسألة ليست مسألة سنة وشيعة وتضامن مع طوائف إذاً، بل تحالفات تتغير وتمنح أسماء جديدة. (سنة وشيعة ومسيحيون) هي في السياسة أسماء مستعارة توقّع بها المصالح والزعامات العصبوية رسائلها للجمهور، لتعبئته خلف سياسات لا تمثل مصالحه ولا رأيه حتى كما ألفه هو. لقد استبدلت هذه الهوية المزعومة المواقف بقدرة قادر، وصارت قادرة على الالتفاف حول قيادة طائفية بإمكانها أن تغير موقفها 180 درجة من دون انعقاد هيئة واحدة تقدم لها تقريرا لتقر التغيير في الموقف أو لتحاسبها. إنها مسألة هوية طائفية تمثل قيادات لا تشكل تعدديتها أية ديموقراطية.
لا يفترض أن يفاجأ أي مواطن عربي غير عالم بالشأن الإسرائيلي لو أحلناه ليقرأ قرار الحكومة الإسرائيلية يوم الأحد 13 آب (أغسطس) 2006 بتبني القرار 1701، ففي كل الصحف الإسرائيلية في اليوم التالي سيجد ثلاث أفكار كررتها كل من ليفني وأولمرت: 1- أن القضاء على «حزب الله» بالوسائل العسكرية غير ممكن. 2- أن القرار يضعف «حزب الله» الذي لن يبقى دولة داخل دولة 3- أن تقوية الحكومة اللبنانية (حكومة السنيورة كما يسمونها في إسرائيل وأميركا) لهذا الغرض هي مصلحة إسرائيلية.
لا طائفة ولا طائفية ولا يحزنون. ولكنهم يتحدثون الآن بمنطق الشيعة والسنة ونصرة السنة المعتدلين. والعائق الذي يربك هذه الصورة هو وجود ميشال عون والتيار الوطني الحر في تحالف مع المقاومة، فوجوده يفضح الأسماء المستعارة ويكشف المسميات الحقيقية. وتكمن مشكلة أخرى في وجود «حماس» (السنية لمن ينسى، ولكن الاسم المستعار لها هنا هو الإرهاب والتطرف)، ومشكلة ثالثة أكبر تكمن في المقاومة العراقية فانتماءاتها تربك التقسيمات الطائفية إقليمياً.
مع تبني هذا القرار إسرائيلياً بهذا المنطق استمر الصراع ضد المقاومة في لبنان بوسائل أخرى. ولم تساعد الحرب ولا المواقف الإسرائيلية الحكومة اللبنانية، إذ خرج «حزب الله» وتحالفاته من الحرب أقوى سياسيا، كما خرج جمهوره الواسع بمزاج ناقم.
ومن قواعد الصراع الجديد تخلي السلطة اللبنانية عن التحالفات التي شكلت البرلمان الحالي، وهذا يعني ضمناً خلق فجوة بين الأغلبية البرلمانية الحالية، والقاعدة التي صوتت لها، ومحاصرة المقاومة وقاعدتها الشعبية وحلفائها بحيث تمسك الغالبية النيابية بالحكم كله، بما فيه الرئاسة، وقانون الانتخابات وغيرها. ومن هنا الطريق قصيرة إلى نقل البلد كاملاً إلى أحضان تحالف ومحور مسنود بقوات أجنبية والتزامات إقليمية، ولا مكان فيه للمقاومة. ومن هنا الاحتقان والمأزق، ومنه كانت الطريق قصيرة إلى التظاهر المستمر والعصيان الذي يسمى ما هو اقل منه في بلدان أخرى انتفاضة وثورة شعبية. يفضل البعض مصطلح انقلاب. ولم أجد في تاريخ الشعوب تحركاً شعبيا يقاس بالملايين يكنى انقلابا، ويكاد الفرق بين الانقلاب، سلمي أو عسكري، والثورة، سلمية أو عنيفة، من جهة أخرى يدرس في المدارس.
لم تتمكن إسرائيل من إخفاء قلقها من هذا التحرك الشعبي السلمي. واحتارت علنا في شكل تقديم المساعدة للحكومة اللبنانية. فهي فوق كل شيء أضرت بها سابقا، لأن حربها لم تعزز من قوة الحكومة اللبنانية، وذلك بسبب حجم الجرائم المرتكبة، وبسبب مستوى الاداء النضالي والقتالي لـ «حزب الله» إلى حد البطولة. ولذلك تناقش مسألة المساعدة علنا، ويتساءل أولمرت: «نريد أن نساعد الحكومة اللبنانية، ولكن كيف؟» وتنشر عن جلسة الحكومة الإسرائيلية الأسبوعية يوم 3 كانون الاول (ديسمبر) الجاري نقاشات موسعة حول كيفية تقديم الدعم، من الضغط على أميركا وأوروبا للوقوف إلى جانب الحكومة اللبنانية من دون هوادة وحتى اقتراح أوروبي على إسرائيل بتقديم تنازلات سياسية الطابع لتعزيز قوة الحكومة اللبنانية في مزارع شبعا مثلا (لو يعلم المتظاهرون في ساحة رياض الصلح والشهداء أنهم يحررون مزارع شبعا!) ويبدو أنه إذا كانت الحرب ضد المقاومة مستمرة بوسائل أخرى كذلك فإن المقاومة ذاتها مستمرة كما يبدو وتحقق أهدافا بوسائل أخرى. ويقترح قائد المخابرات العسكرية السابق في إذاعة الجيش يوم 3 كانون الاول (ديسمبر) أن تلقى المهمة على عاتق أوروبا لان إسرائيل غير قادرة على المساعدة، فهذا يحرج الحكومة اللبنانية. ولكن من ناحية أخرى لا يلمح، بل يتحدث صراحة عن دعم يصل حد التهديد أن سقوط الحكومة سوف يزيد من احتمالات الحرب في الصيف القادم. وهي الحرب نفسها التي كنا نقرأ ونسمع عنها أسبوعيا قبل الانتفاضة الأخيرة بشهرين.
كما لم يعد لبنان بعد الحرب إلى ما كان قبل 12 تموز (يوليو)، وبحسب مطلب بعض القيادات لا يفترض أن يوقف إطلاق النار قبل ضمان ذلك، فإنه كما يبدو لن يعود إلى ما كان ما قبل التحرك الشعبي الحالي. ولكي يفهم الجميع ذلك يجب أن توضع جانبا الأسماء المستعارة، وأن تسمى الأشياء بأسمائها، فإسرائيل ليست حريصة على السنة كسنة، ولا هي معادية للشيعة خشية التشيع. هذه أسماء مستعارة. والحوار بين اللبنانيين وقواهم السياسية حول شكل الوحدة الوطنية بات ممكنا من دونها ويكاد يصبح غير ممكن في ظلها.
الحياة