أولا، أي دولة أو سلطة ترغب بان تستفتي الشعب يجب أن توفر أساسا قانونيا لذلك. أي، أن يكون لديها قانون للإستفتاء لا يحدد فقط الطريقة، بل المواضيع ونوعها ومن يحدد السؤال. لا تتبع الإستفتاءات في كافة الدول الديمقراطية. وبعض الدول الديمقراطية يعتبر الإستفتاء وسيلة شعبوية لضرب النظام البرلماني والإلتفاف عليه، وإضعافه وتقزيم الإنتخابات. وعموما، الديمقراطية الحديثة هي ديمقراطية تمثيلية ولا تحكم بالإستفتاءات.
ثانيا، مناقشة قانون الإستفتاء تسمح للبرلمان، أي لممثلي الشعب بالإدلاء برأيهم والإجابة على السؤال هل يريدون هذه الطريقة أم لا، أي هل يريدون العودة إلى الشعب بين انتخابات وأخرى؟ الإستفتاء دون قانون ينظمه هو عبارة عن استطلاع رأي واسع وغير ملزم. أشهر الدول التي تستخدم الاستفتاء بين انتخابات وأخرى لاتخاذ قرارات هي سويسرا وكانتوناتها المتفردة أيضا. الإستفتاء في حالتها هو استمرار لنمط حكم ديمقراطية المدينة، ومنصوص عليه في الدستور كنمط حكم. وبسبب الإستفتاءات تأخر منح حق التصويت للمرأة هناك، فقد خضع هذا القرار لاستفتاء الشعب المكون من الرجال في حينه.
ثالثا، في الدول غير الديمقراطية التي لا يوجد فيها انتخابات يلجأ النظام أحيانا إلى الإستفتاء كبديل عن الإنتخابات لتبني ميثاق أو برنامج او تجديد رئاسة، ويفعل النظام ذلك كبديل شعبوي عن الإنتخابات، والنتائج مضمومة غالبا.
رابعا، في الدول الديمقراطية يستفتى الشعب بعد سن قانون لهذا الغرض في قضايا مصيرية اتفق سلفا أنها سوف تحسم بالإستفتاء، مثل الإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي والتخلي عن جزء من السيادة الوطنية وعن العملة...أو في قضية انفصال إقليم عن اتحاد أو عن الدولة الأم. وكان انفصال مونتنيجرو ( الجبل الأسود) عن صربيا آخر مثل على ذلك.
خامسا، غالبية الدول الديمقراطية لا تلجأ إلى الإستفتاء في قضايا مصيرية مثل الحرب والسلم وغيرها. فمن يحكم هو السلطة التنفيذية المنتخبة مباشرة أو التي تخضع لرقابة وثقة السلطة التشريعية المنتخبة.
سادساً، لا يستفتى شعب ويقسم إلى قسمين، مع وضد، أي لا يتم اللجوء إلى هذه الخطوة المصيرية لحسم قضايا نظرية ليست للتنفيذ أصلا. هذه قد تصلح أن تتبناها أحزاب كبرنامج لها تناضل من أجله، وبالكاد يبحثها برلمان، فكم بالحري أن يستفتى الشعب عليها.
سابعاً، لو قبلت إسرائيل وثيقة الأسرى أو جزءاً منها وتعتبر السلطة ذلك كافيا لاتفاق سلام أو تسوية، عند ذلك قد تلجأ السلطة الفلسطينية إلى استفتاء، أو ترهن موافقتها بموافقة الشعب المعبر عنها في استفتاء. وحتى في هذه الحالة يجب أن يسن قانون لهذا الغرض.
ثامناً، إسرائيل تعلن أنها ترفض وثيقة الأسرى. فعلام يستفتى الشعب الفلسطيني، على أفكار؟ سؤال يصح حتى لو كانت الأفكار تشكل برنامجا سياسيا جيدا. ونحن نعتقد أنها جيدة.
تاسعاً، قسم ممن يؤيدون إجراء الاستفتاء، وموقفهم واضح لصالح تأييد وثيقة الأسرى، لا يوافق على جزء كبير منها، أو يوافق عليه نظريا قط، ولكننا نعرف، والشارع الفلسطيني يعرف أنه يؤمن أنها لا تصلح أساسا للتسوية. ولذلك سبق أن تنازل عن بعض بنودها علنا أو ضمنا. امتحانه هو ليس أن يستفتي الشعب عليها بل ان يتبناها هو كبرنامجه السياسي وأن يتمسك بها برنامجا، وسوف يكون هذا تقدما كبيرا.
عاشراً، القيادة الفلسطينية لم تستفتِ الشعب الفلسطيني على اتفاقيات أوسلو التي طرحت للتنفيذ، رغم أنها شكلت تغييرا كبيرا قياسا ببرنامج المنظمة. وإذا صح الإستفتاء، فقد صح هنا. والقيادة الفلسطينية لم تستفت الشعب الفلسطيني على تغيير الميثاق الوطني الذي قبلته، ولا على أفكار كلينتون التي رفضتها في كامب ديفيد، وقد أيدناها في ذلك الرفض دون استفتاء، وكان سيكون لقبولها نتائج عملية.
حادي عشر، إما ان يتوصل الحوار إلى وحدة وطنية على أساس برنامج مشترك يتم الإتفاق عليه، أو تحكم الحكومة التي انتخبت والرئيس الذي انتخب... لا يوجد قانون يفرض الوحدة، ما يفرضها هو العقل والمنطق والضمير في رؤية مصلحة الشعب الفلسطيني. والإستفتاء لن يؤدي إلى وحدة بل إلى زيادة الشرخ، خاصة أنه من غير الواضح هل يستفتى الشعب أنه يريد تدفق الأموال، وهذا أمر عملي أم يستفتى على وثيقة نظرية لا إسقاطات عملية لها على الطرف الآخر؟
هذا على فرض أن السلطة تحكم، وان الحديث هو عن حكم ذي سيادة.
وأخيرا، نعتقد أن التوصل إلى اتفاق في الحوار هو أمر ممكن لو تحدث في هذه المرحلة فقط أولئك الذين يرغبون بالتوصل إلى الإتفاق في الحوار.
قلنا لماذا نعارض الاستفتاء على وثيقة الأسرى رغم اعتقادنا أن الوثيقة جيدة، ويفترض أن يتم تبنيها كبرنامج نضالي. لا يوجد هنا ما يستفتى الشعب الفلسطيني عليه، فإسرائيل ترفض الوثيقة التي صاغت الثوابت الوطنية التي تجمع بين أسرى من قيادات حماس وفتح والجهاد والشعبية والديمقراطية ممن شاركوا في صياغتها في سجن "هداريم". ومطلب الإستفتاء وطرحه بهذا الشكل تكريساً للإنقسام بدل الإتفاق القائم في الوثيقة، حرف النظر عنها وعمن يوافق عليها فعلا، ومن يعترض عليها. فمن بين مؤيدي الإستفتاء لمجرد أنه ضد حماس معارضون متحمسون لمضمون الوثيقة التي كانوا سيسمونها قديمة وغير واقعية في موقع آخر. ومن بين معارضي الاستفتاء مؤيدون للوثيقة، وحتى أسرى شاركوا في صياغتها.
من أجل التقدم نحو حكومة وحدة وطنية لا بد من الموافقة على برنامج مشترك، والقوي والمسؤول هو من يوافق لتفويت الفرصة على من يريد أن يشق الشعب الفلسطيني حتى لو كانت لديه تحفظات. يستطيع الفصيل أن يقول إنه يوافق مع تحفظ واحد، على نقطة واحدة من بين ثماني عشر نقطة. ما المشكلة؟ فقط هكذا يستمر الحوار للإتفاق على أمور اخرى، من نوع حكومة وحدة وطنية، صلاحيات وزير الداخلية، ترتيب الأجهزة الامنية تحت سلطة واحدة، وغير ذلك.
البديل للإتفاق على قاعدة سياسية مشتركة تصلح أساسا للحوار الداخلي وحجة لمواجهة الحصار عالميا هو كارثة بدأ الإعداد لها وبدأت إسرائيل تقطف نتائجها. فالعالم، بما فيه العرب، يطالب الفلسطينيين بحل قضاياهم قبل الإلتفات إليهم، وفي هذه الأثناء إسرائيل تسرع تنفيذ مخططاتها في كل زاوية.
وبرأيي المتواضع فإن حماس يفترض أن تقبل الوثيقة مع من يقبلها فعلا من الفصائل الأخرى. وبالعكس، عليها أن تستغل الوثيقة لجعل الثوابت التي تصيغها ملزمة لمن يعارض الوثيقة فعلا من بين مؤيدي الإستفتاء حاليا، ويحاول أن يتهم حماس بمعارضتها وكأنه هو يوافق عليها. فالوثيقة لا تحدد فقط حدود البرنامج السياسي الفلسطيني، بل تحدد أيضا حدود التنازل الفلسطيني، وهذا برأيي تقدم كبير.
من مصلحة الشعب الفلسطيني ومصلحة الحكومة الفلسطينية أن تنشا فرصة لحوار مع العالم ضد الحصار، وحكومة وحدة وطنية برئاسة حماس تحرج من يتنكر لنتائج الإنتخابات، وتحرج من يحاصرها. ويتوفر لديها في الوقت ذاته أساس سياسي لا يتضمن تنازلات، بل توقف مسلسل التنازلات. فالوثيقة تتحدث عن قرارات الشرعية الدولية، محددة منها تلك التي تنصف الشعب الفلسطيني، ومن بينها قرار يؤكد حق العودة مثلا. لا تخسر حماس شيئا، بل تربح الجولة بقبولها بصدر واسع ومناقشة من يعارضها فعلا. إنها مبادرة وقع عليها أسراها ومناضلوها. ويجب أن تقبل الوثيقة بشكل طبيعي وواضح دون تردد يفتح مجالا لنقاش وتأويلات، وبروح مسؤولة وحفاظا على الوحدة الوطنية وحمايتها من كل من يبحث عن ذريعة للمس بها.