تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

أن نعرف كيف نختلف

2014-10-07

د. عزمي بشارة

قد يحسب القارئ الفطن، الذي يعرف شيئاً عن مصطلحات العلوم السياسية والاجتماعية المعاصرة، أني سوف أتناول إدارة الاختلاف، بمعنى الاختلاف الثقافي والإثني والديني وغيره. لكن، هذا موضوع آخر متعلّق بالتعددية الثقافية وحقوق الفرد وحقوق الجماعة، والتوفيق بينهما في النظام الديمقراطي. لا، ليس هذا موضوع هذه العجالة.

الموضوع، هنا، متعلق بإدارة الخلاف، وليس الاختلاف. ولكي أتابع، يلزمني تمييزٌ آخر بين إدارة الخلاف وإدارة العداوة. فالثانية تعني إدارة الحرب (الباردة أو الساخنة) بالبحث عن أفضل السبل (حتى لو كانت أفضلُها أَسوأَها) للتغلّب على الخصم. ولهذه أدواتها التي لن أتطرق إلى أنواعها. وهي تتطلّب، أيضاً، تمييزاً بين الحرب ضد عدو وجودي، والتنافس مع خصم انتخابي، مثلاً، إذ يتفق خصوم انتخابيون على ثوابت وطنية وأسسٍ دستورية. فليس الصراع بينهم وجودياً، ولا هو معادلة صفرية. ومن دون ثوابت وطنية وأسس دستورية، لا يقوم للتنافس الديمقراطي قائمة، بل تسود حروب أهلية.

ما أتحدث عنه هو إدارة الخلاف على قضية، أو أكثر، بين المتفقين على قضايا عديدة أخرى. امتحان هذا الخلاف هو تحويله إلى محاججة عقلانية، تساهم في بناء الفضاء العمومي، كفضاء تواصل بين أفراد ومؤسسات ومصالح مختلفة، قادرة على أن تبني مجتمعاً متميّزًا عن الدولة التي تتميّز بأدوات القسر والإملاء من قوانين ورقابة وضبط وغيرها، حتى لو كانت دولة ديمقراطية.

في هذه الحالة، يتحول الخلاف إلى أداة بنّاءة، حتى لو لم يتوصل أطرافه إلى اتفاقٍ بتخلّي أحدهم عن موقفه، وتبنّي موقفٍ آخر، أو إلى تسويةٍ بينهم.  فالمهم، هنا، هو إدارة الخلاف بشكل عقلاني، تفيد متابعته المشاركين وغير المشاركين. ولهذا الاستعداد لإدارته بعقلانية أساس غير عقلاني، يتلخص بالشعور بالانتماء المشترك إلى مجتمعٍ، أو شعبٍ، أو قضيةٍ، أو دولةٍ، أو قيمةٍ أخلاقيةٍ، أوغير ذلك.

تشهد مجتمعاتنا ظواهر إدارة الخلاف بالقذع والسباب وكيل الاتهامات بلا دليل، والخلط بين الواقعة والرأي لتصبح الوقائع وإنكارها واختلاقها متاحة، مثل اختلاف الآراء، أو بالتشكيك بدوافع صاحب الموقف الآخر، واختلاق خفاياها وخباياها (من الأم اليهودية الخفية، وحتى الماسونية والشيوعية والتعاون مع الإرهاب حسب الموقف)، أو بالتشهير بصاحب الرأي المختلف، أو بنشر الشائعات عنه. ولا أتحدث، هنا، عن دعاية الأنظمة العربية السيئة الصيت والغنية عن البيان ضد خصومها، منذ الاستقلال، وذلك بتلطيخ سمعتهم والتشهير بهم، واتهامهم بالخيانة، وغالباً ما لا تتورّع أنظمة عن اتهام معارضيها بالعمالة لأميركا وإسرائيل، حتى حين تحتفظ هذه الدول بعلاقات سياسيةٍ وأمنيةٍ مع أميركا وإسرائيل. وحتى وسائل التواصل الاجتماعي لم تسلم من "جيوش إلكترونية"، تابعة لمخابرات الدول ووزارات داخليتها تعيث فيها فساداً وافتراءات؛ لا أتحدث عن هذه كلها، فهذه لا تحتاج إلى تعليق، فهي من أسباب ثورة جيلٍ على هذه الأنظمة، ولكني أتحدث، هنا، عن أفراد الشعب وقواه السياسية، عن الجمهور الذي تشرب هذا النمط من التحريض الدموي، وبات يستخدمه في إدارة الخلاف.

لا تكمن المشكلة، هنا، في فقدان عقلانية التواصل، وحججه التي تنشئُ فضاءً عمومياً فعلاً، قادراً على إدارة الخلاف بين الأفراد والجماعات والمؤسسات والمصالح، وإيجاد صيغ لتعايشها وحسب، بل تمتد إلى نسف أساسها اللاعقلاني المشترك الذي يتلخص بالانتماء الوجداني إلى شعبٍ ومجتمع وطني، أو مشترَكٍ إنسانيٍ، أو غير ذلك. وبهذا الفقدان، يتحول الخلاف إلى عداوة، وتتحول "نحن" إلى "نحن" و"هم". وعندها، لا تبقى معايير أخلاقية واحدة للحكم على الأقوال والأفعال، ولا تبقى حقائق ووقائع متفق عليها، ويصبح كل تزوير مباحاً، ما دام لصالح فلان، أو موجهاً ضد فلان. ففي مطرح الحوار، حلّت جدلية العدو والصديق.

صحيفة العربي الجديد