مثّلت حرب حزيران هزيمة ساحقة للدول العربية التي شاركت في الحرب. وأخذت الهزيمة المدوية جيلاً كاملاً رهينة لها، ولم تتوقف التفسيرات للهزيمة من نقد الفكر الديني وحتى نقد الفكر القومي، الى الصدمة الحضارية إلى الانتاج الأدبي.
لم نتوقف منذ تلك الفترة عن طرح الأسئلة غير الصحيحة. لكن أمراً واحداً لم يخطر بالبال، وهو أن هذه الهزيمة هي الاستثناء وليست القاعدة، وأن النظام العربي نفسه حارب افضل عندما أتيحت له فرص أخرى، وأن فدائيين فلسطينيين وكتيبة مدفعية أردنية أبلوا بلاء حسناً في معركة الكرامة بعد أشهر من الهزيمة.
ثم تلت حرب الاستنزاف وحرب اكتوبر 73، ومرحلة المقاومة اللبنانية. وكل هذه لم تدحض الانطباع المتجذر عن تلك الهزيمة النكراء. أولاً لأن الواقع الذي نشأ مع احتلال عام 67 لم يتغير، وثانياً لأن الخيبة والإحباط واليأس كانت على قدر الأحلام العربية الكبرى. لم يعد في الإمكان التحرر من تداعيات الهزيمة الثقافية والفكرية والسياسية، ولن نقوم بمراجعتها هنا.
وما يهمنا في هذه العجالة، أنه منذ تلك المرحلة والشارع العربي السياسي أسير اعتبار حرب استثنائية وهزيمة استثنائية هي القاعدة في الصراع مع إسرائيل. أما إسرائيل فقد عدّت النصر السريع على نمط تلك الحرب هو القاعدة. وما لبث أن تحول هذا الوهم الإسرائيلي الى نقطة ضعف إسرائيلية أمام أية حركة مقاومة جدية تتطور... مثلما أثبتت الحالة اللبنانية مرتين على الأقل.
ومثلما أعادت الهزيمة تشكيل العالم العربي وتذويت ما أراد الإسرائيليون أن يذوَّت، كذلك أعادت تشكيل إسرائيل. وقد كانت تلك الحرب حدث التأسيس الحقيقي لإسرائيل من حيث كونها حاسمة في إقناع رأس المال والشتات اليهودي أن هذه الكيان ليس مجرد مغامرة، وارتفاع قيمة إسرائيل من زاوية النظر الأميركية الى درجة التحالف الشامل، ثم تضامن العالم مع «الضحية المنتصرة» ضد «الفاعل الفاشل»، وهي الوصفة الدولية السحرية التي لم تفهمها السياسة العربية حتى الآن بتأكيدها إما على عنصر الضحية وحدها، أو البراغماتية الهادفة لتأكيد صورة الناجح وحدها. لا يكفي أن تكون ضحية من أجل تفعيل التضامن وإلهاب الخيال الإعلامي، بل يجب أن تكون ضحية تقاوم بأفق انتصار.
لم يصمد احتلال في القرن العشرين اربعين سنة. وامتداد الاحتلال الإسرائيلي لأكثر من اربعين عاماً يطرح سؤالاً هاماً عن معنى التعامل مع إسرائيل كأنها دولة طبيعية في حدود 67 ومحتلة خارج هذه الحدود. عمر إسرائيل ستون عاماً، منها 20 عاماً فقط داخل حدود عام 67، فما الاستثناء وما القاعدة في مثل هذه الحالة؟ من غير المنطقي ولا الطبيعي اعتبار إسرائيل «الطبيعية» هي إسرائيل العشرين عاماً لا إسرائيل الستين عاماً. نقول ذلك سجالاً ونحن ندرك أن إسرائيل العشرين عاماً لم تكن أصلاً دولة رأسمالية طبيعية قامت باحتلال اراض تبلغ ثلاثة أضعاف مساحتها، فإن احتلالاً ما وقع قبل عام 67. نحن إذاً أمام حالة استعمارية ممتدة.
ربما صدم هذا الكيان من انتصاره السريع والساحق والمذهل عام 67، لكن الأمر الطبيعي كان استغلال هذا الانتصار لفرض شروط سياسية من جانب كيان يعرف جيداً حجم الجريمة التي تطلبها قيامه. ومنذ البداية كانت حكومة ليفي أشكول على استعداد لإعادة جميع المناطق المحتلة عام 67 إلى الدول العربية مقابل سلام كامل وتطبيع كامل، أي مقابل قبول إسرائيل دولةً عادية في المنطقة العربية، ودون حل القضية الفلسطينية التي اعتبرت في الفكر الإسرائيلي الرسمي حينذاك مسألة جانبية قياساً بالصراع العربي الإسرائيلي، أو اعتبرت ظاهرة مرافقة له بإمكان العرب أن ينحّيها جانباً بتوطين اللاجئين. وقد جاءت لاءات قمة الخرطوم تأكيداً على رفض هذه الصفقة الإسرائيلية.
لكن منذ لحظة الانتصار، ورغم رسالة حكومة إسرائيل الى جونسون التي تعبّر فيها عن استعداد لصفقة من هذا النوع، أبقت إسرائيل عنصرين أساسيين خارج الصفقة: أولاً، عودة اللاجئين كانت وبقيت مرفوضة، وثانياً، رفض الانسحاب من القدس الشرقية التي «وحدت» مع الغربية وأعلنت عاصمة إسرائيل الأبدية عام 68، بما في ذلك من تحويل «الأبد» إلى مجرد موظف بوظيفة جزئية عند إسرائيل. والمناطق التي يستعد بعض اليسار لإعادتها من القدس لم تكن في حينه جزءاً من المدينة بل قرى تحيط بها وتحولت في هذه الأثناء إلى أحياء فيها.
أما بالنسبة لبقية المناطق المحتلة عام 1967، فقد انقسم قادة حزب العمل بين من يؤيدون الاستيطان فيها وضم أجزاء منها لإيجاد حدود آمنة غير حدود 4 حزيران، والتي أطلقوا عليها تسمية حدود أوشفتس. كذلك اختلفوا على مواقع الاستيطان وقانونيته بين تيارات غولدا مائير ويسرائيل غاليلي من جهة وتيار يغئال ألون من جهة أخرى. هؤلاء لم يعترفوا بوجود قضية فلسطينية، أما موشي ديان فقد انفرد منذ تلك الأيام في محاولة إيجاد حل يحوّل المناطق المحتلة عام 67 الى حل محلي للقضية الفلسطينية، ولذلك حافظ على سياسة الجسور المفتوحة التي تركت متنفساً غير إسرائيلي للناس، ثم باشر بالاتصال بقيادات محلية من رؤساء بلديات وغيره لتشكيل قيادة تتولى نوعاً من الحكم الذاتي... وذلك قبل كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية بعشر سنين، وقبل طرح الحكم الذاتي هناك. وقد لا تكون صدفة أن ينتقل ديان من حزبه الى حكومة بيغن حين لاحت فرصة لتطبيق هذه الافكار مع دولة عربية... وتحول ما خطط له موشي ديان الى إرث سياسي عربي يختزل قضية فلسطين الى الأراضي المحتلة عام 67.
وعلى كل حال، تحولت المناطق المحتلة والحدود المقترحة فيها الى عنوان للتعبير عن الصراعات الداخلية في حزب العمل. فمثلاً، جسدت النقاشات الصراع بين بيرس ورابين بعد نهاية الجيل الذي تنتمي اليه الاسماء المذكورة اعلاه. وقد كان بيرس في الصراع على الزعامة، يعارض ما يفعله رابين بغض النظر عن قناعاته، فإذا كان رابين، رئيس الحكومة الأسبق معارضاً، بين 74 و77 للاستيطان في المناطق المأهولة المرشحة للانسحاب في صفقة مع العرب بموجب خطة ألون التي أيدها، كان وزير الدفاع بيرس يزعجه ويناكفه بدعم الاستيطان «غير القانوني» في منطقتي نابلس والخليل.
هكذا تحولت «المناطق» الى موضوعات للصراع السياسي الداخلي، وباتت السياسة بهذا المعنى تتطلب خبرة لا معنى لها بالشأن الإسرائيلي لمعرفة «مشاريع الحل». لقد بنى حزب العمل الكتل الاستيطانية الكبرى ومستوطنات غزة أيضاً.
من جهة أخرى فإن بعض المجتمع الإسرائيلي أصيب بجنون العظمة، وباشر بتأسيس حركات مثل «أرض إسرائيل الكاملة» والتي غيرت الخطاب السياسي برمّته، ثم تبعتها حركة جوش إيمونيم، ثم سُحر المجتمع الإسرائيلي وخطابه بالانتصار وبلقاء وتطابق «ارض إسرائيل التوراتية» مع دول إسرائيل، لقاء ولّد هذه التطابق بين البعدين الدنيوي والديني للمشروع الصهيوني الذي بات واقعاً بعد الحرب تديينا للسياسة والخطاب السياسي العلماني وتسييساً للدين، بشكل طابق بين التطرفين القومي والديني. وهو أمر غير مفهوم للعرب، لأن التطرفين متنافران في الحالة العربية.
منذ أن تذوت العرب الهزيمة وحولوا الهيمنة الى خيار السلام الاستراتيجي، وهو ليس خياراً ولا استراتيجيا ولا سلاماً، تحولوا الى أسرى هذه اللعبة الإسرائيلية بين يسار إسرائيلي منقسم على ذاته بشأن تصور للحدود، ويمين لا يرى السلام واقعياً، ولا يجمع بينهما الا الرغبة بالتخلص من اكبر عدد من العرب على أصغر رقعة من الأرض. وبات الامتحان الاسرائيلي الاميركي لما يسمّى مبادرة السلام العربية يتلخص بمدى توافقها مع هذا الإجماع الإسرائيلي.