تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

«الجنون» الأميركي لتبرير الحرب على إيران

2007-10-31

عزمي بشارة

 

لو قدّر لموظف في «البنتاغون» تقاعد قبل عشرين عاما أن يعود اليه فسوف يشتد عليه وقع المفاجأة.

 

لقد خرج هذا الموظف من «البنتاغون» متأكدا من تحقيق انتصار على النظام الشيوعي العالمي بعد صراع سياسي وثقافي واقتصادي واستخباراتي مديد تفجر على شكل حروب إقليمية وثورات وانقلابات في مناطق عدة في العالم وسخرت في خدمته كل الطاقات.

 

تقاعد وهو راسخ الاعتقاد أن اميركا أصبحت أكثر أمنا وأمانا إذ حققت انتصارا على «امبراطورية الشر» في حينه. وهو يذكر أن الجولة الأخيرة تطلبت موازنة تسلح مضخمة قدمها رونالد ريغان بلغت نصف ترليون دولار (بقيمة الدولار الحالية). وهدفت هذه الموازنة لدفع الاقتصاد السوفياتي البالي والرث إلى سباق تسلح.

 

وسوف يستغرب الموظف عندما يكتشف أنه بعد عشرين عاما على التخلص من العدو الوجودي لنمط الحياة الأميركي وللحرية، يطالب رئيسه في العام 2008 بموازنة العام 1987 نفسها لزمن السلم من حيث القمية الفعلية، أي ما يقارب 505 بلايين دولار.

 

تبلغ موازنة الولايات المتحدة العسكرية مجموع الموازنات العسكرية لبقية دول العالم مجتمعة، وخمسة أضعاف مجموع موازنات أعدائها المحتملين. (حسب مقال رتشارد بيتس مدير معهد زالتسمان لدراسات الحرب والسلم في جامعة كولومبيا، «شيكاغو سن تايمز» 28 تشرين الأول / اكتوبر).

 

وإذا شكك متريب بالمقارنة أعلاه مدعيا أن موازنة عام 2008 تشمل تكاليف استثنائية لحرب دائرةٍ في العراق وأفغانستان نقول: أولا، حالة العراق وأفغانستان ليست حالة استثنائية. وكل من بلغ الثمانين في الولايات المتحدة لا يذكر بلده من دون حالة حرب أو استعداد لحرب.

 

فخلافاً للمئة وخمسين عاماً الأولى على قيام الولايات المتحدة تتميز الثمانون عاماً الأخيرة بالانتقال من صراع وتدخل عسكري إلى آخر، في عملية يمكن وصفها كنشوء الامبراطورية الأميركية التي نعرفها اليوم. وثانيا، أن موازنة الحرب في العراق وأفغانستان تبلغ 142 بليون دولار، وهي تحسب بالإضافة لموازنة الدفاع لزمن السلم. وهذا يعني أن الانفاق على الأمن سوف يبلغ في الواقع 650 بليون دولار. وهو رقم يتجاوز بـ25 في المئة في قيمته موازنة هذا البلد العسكرية للعام 1968 في زمن وجود الاتحاد السوفياتي وسباق التسلح، يضاف إليه أعنف حرب خاضتها الولايات المتحدة في تاريخها، اي حرب فيتنام.

 

ولا شك أنه إضافة الى حاجات الجيش والحروب الجارية تفعل في الموازنة حوافز ودوافع أخرى مثل التطور العلمي التقني عبر الاستثمار في البحث العلمي المنتقل من التكنولوجيا العسكرية إلى الصناعات المدنية، وحاجات الشركات الكبرى لعطاءات دولة لا تنجو من دونها في صراع البقاء.

 

وبغض النظر عن التهديدات ونوعها، فالمجمع الاقتصادي العسكري والمجمع الانتاجي والبحثي التكنولوجي هو قطاع رئيسي في اقتصاد الامبراطورية. وهو يصب في النهاية في عملية توفير أماكن عمل واستيعاب قوى عاملة وباحثين وغيره، وفي تطوير الصناعات المدنية، وفي مد مجمع اقتصادي كامل بأسباب الحياة.

 

وهذه في النهاية مساهمة الدولة في التطور الصناعي والبحث العلمي والتكنولوجي الذي يدّعي أرباب السوق الحرة أنه يتطور من دون تدخل الدولة. تقف الدولة بقوة وراء البنى التحتية للبحث والاكتشاف العلمي. وهي من عوامل منح أفضلية للولايات المتحدة في مجالات عديدة.

 

ولا تشمل الموازنة العسكرية تمويل ابحاث لإيجاد وسائل للتصدي لسلاح الصورايخ، ولا أبحاث سيكولوجية للطب والصدمات النفسية فقط، ناهيك عن الدعاية والإعلام والإسلام، بل أيضا أبحاث «سبرنيتكس» متطورة جدا، فمع قيام سلاح الحاسوب بقيادة مركزية (cyber command) تتلقى علوم الحاسوب أهم تعزيز واكبر استثمار فيها في العقود الأخيرة.

 

وتتبارى مدن الولايات المتحدة على استقبال مراكز أبحاثه ومقراته التي سوف تتخصص بحماية شبكات المعلومات والحواسيب الخاصة بمرافق قومية أميركية من الوزارات ومؤسسات الطاقة والبنوك وحتى «البنتاغون» نفسه من اختراقات، وغارات فيروسية يتم الترويج أنها السلاح المقبل لـ «الإرهاب العالمي ضد الغرب».

 

وسوف يجري بالطبع تطوير أسلحة «سبرنيتيكية» مضادة هجومية. ولا شك ان الأجيال القادمة سوف تستفيد وتتضرر من هذا الاستثمار كشأن كل قفزة تكنولوجية كبرى.

 

ما يهمنا هنا هو أنه قد يكون لهذه الآلية الاقتصادية دورها إن لم يكن في توريط الولايات المتحدة في صراعات عبر لوبيات هذا المجمع الاقتصادي الكبير، فعلى الأقل في تضخيمها وتضخيم التهديدات والاستفادة منها.

 

وكما يفعل المجمع السياسي والإعلامي الصهيوني وأتباعه يقوم المجمع الاقتصادي العسكري بالمهمة عبر نوابه وكتابه وصحافييه ومؤسساته وموظفيه في واشنطن.

 

ونحن نفضل الجزم بأنه يستفيد من تضخيم قوة العدو أو إخراجها عن أي نسبة وتناسب على المجازفة بالتقدير أن هذا المجمع يقف وراء تأجيج صراعات كبرى من هذا النوع كأنها نتاج مؤامرة.

 

ولا شك أنه استفاد في سعيه لإقرار الموازنة من تصريحات بوش المتعلقة بقدرة إيران الصاروخية على إصابة أهداف في الولايات المتحدة بعد حين، ومن إمكانية تفجر حرب عالمية ثالثة في حال امتلاك إيران للسلاح النووي، ومن أقوال رايس أن إيران تشكل حاليا الخطر الرئيسي على الأمن القومي الأميركي.

 

هنا ننتقل الى عالم آخر، هو الوجه الآخر للتقدم كما يبدو:

يتم التصعيد لأسباب دعونا نفترض أنها «عقلانية» بالمفهوم الذرائعي للعقلانية، مثل الاستفادة من الموازنة العسكرية، وربما من اجل السيطرة على مصادر النفط، وربما من أجل خدمة أهداف إسرائيل. ولكنها تسخر في خدمتها دوافع وأفكاراً نمطية غير عقلانية. وهي لا تخلق هذه الأفكار النمطية القائمة عن الآخر العدو، بل تروجها وتضخمها وتحولها الى ثقافة سائدة عبر الصحافة والسياسة التنافسية الشعبوية وهوليوود وغيرها. وهذا ما نرجحه. الشعبوية التعبوية اللاعقلانية هي الوجه الآخر لهذا الدافع للتقدم التكنولوجي.

 

ولكن اللافت هو وجود هذا الكم الهائل من مرددي الأكاذيب المقصودة أو الخرافات المعتنقة غير المقصودة في البلدان المستهدفة بمثل هذه الحملات. تروج الخرافات والأكاذيب التي تروى لتبرير استخدام القوة، او الاعتقادات الخرافية التي تدفع باتجاه الصراع، بخاصة عندما يتعلق الأمر ببلدان متمردة على الهيمنة الامبراطورية وتتصرف كدول إقليمية على تخومها.

 

وبغض النظر عن رأينا بهذه البلدان، فإن عملية تكرار الادعاءات الأميركية هنا هو مسخ لما تجتره آلة الدعاية وإنتاج الصور الأميركية. فكيف يمكن لشخص في العالم الثالث ان يقبل ان ينطلق اصلا من أن الولايات المتحدة هي الطرف الذي يحدد من يسمح له بحيازة الطاقة النووية ومن يحتمل ان يشكل امتلاكه لها خطراً؟ والولايات المتحدة هي اولاً الدولة الوحيدة في التاريخ التي استخدمت السلاح النووي منذ اكتشافه، وثانياً كان ذلك ضد مدن مأهولة.

 

وثالثاً حصل هذا عندما كانت تحتكرها ولا يملكها غيرها. هول الحقيقة الواقعة المثلث الرؤوس هذا ليس تفصيلا. لقد كانت هذه هي المرة الوحيدة في التاريخ التي استخدم فيها السلاح النووي. لم تقم بذلك دولة اشتراكية، ولا حتى عشية انهيار نظامها، ولا دولة إسلامية، ولا الهند، ولا السند، بل قامت بذلك الولايات المتحدة.

 

وبدل استهوال تجرُّئها على الاستفراد بالقرار الدولي بشأن نشر الأسلحة النووية، وبدل استفظاع احتكار إسرائيل لامتلاك، ليس الطاقة النووية فحسب، بل السلاح النووي ايضا، تنشر السخرية من محاولة البرادعي «الساذج» إبقاء القرار بأيدي وكالة دولية تشمل اميركا كطرف أساسي.

 

البرادعي الذي تلقى للتو جائزة نوبل للسلام وكاد يعتبر بطلا في الغرب، يصر أن لوكالة الطاقة النووية أن تقرر كيفية إدارة مراقبة التكنولوجيا النووية في حالة الاتفاق مع إيران ولإدارة الصراع والعقوبات في حالة الاختلاف. ولكن انقياد المعلقين السياسيين وانسياق لغة الإعلام الفوري وراء الاعتباطية والعشوائية الأميركية الناجمة عن غطرسة القوة، باتا أمرا صاعقا للغاية، بخاصة وأنه يتم تبني اللغة السياسية الأميركية من دون نقد. وهي لغة سياسية، وهذا يعني أنها لغة غير محايدة وتقود الى استنتاجات مرغوبة أميركيا.

 

فمن يقبل سابقة تعريف مؤسسة رسمية في دولة كتنظيم إرهابي من دون مؤسسة أية دولة أخرى بما فيها دولة ذات مؤسسات بتاريخ وممارسة إرهابية مثل إسرائيل، إنما يقبل تقسيما أميركيا لا يقوم على أحكام عقلانية بل على أحكام معيارية ومواقف تبريرية للسلوك السياسي الأميركي المراد القيام به. والمحاججات هنا لا تقنع أحدا.

 

فلدى أميركا السطوة والهيمنة كي تعرِّف وتفرض التعريف. وهي التي كادت تتورط عسكريا في دارفور بعد ان عرف هذا الاقليم صراعاً دموياً بين قبائل الرعاة والمزارعين واستغلته حكومات السودان المتعاقبة مغيرة تحالفاتها بشكل عدمي، عرَّفته كـ «ابادة عرقية عربية ضد أفارقة» متبنية لغة اللوبي الصهيوني.

 

ولا تكمن قدرة الخصم في إقناع الولايات المتحدة بخطأ تعريفاتها، بل بأنها لن تكون قادرة على فرضه من دون التضحية بمصالح أخرى... هذا صراع وليس مؤتمرا أكاديميا حول الإرهاب وتعريفاته. والحجج التي تساق من هنا ومن هناك هي جزء من الحرب النفسية والتعبئة والمواجهة. وهنالك فرق بين موقف ضد الحرب والعدوان على إيران ينتقد ويعارض السياسة الإيرانية من دون التنازل عن موقف مبدئي ضد العدوان، وبين موقف يدعي انه ضد الحرب ولكنه يتّهم احمدي نجاد بأنه يمنح اميركا المبررات لشن الحرب. هذا الأخير هو موقف مؤيد للحرب بأناقة. وهو في الواقع موقف يتماهى مع الموقف الأميركي، الذي لا يدفع لحرب من دون شروط بل يطالب بقبول شروط معينة كي يتجنب البلد المعني الحرب، وإلا فإن البلد يتحمل مسؤولية شن الحرب عليه. هذا هو الموقف الأميركي، فقلما شنت دولة، بما فيها إسرائيل، عدواناً من دون مبررات تسوقها. الفرق ان البعض بات يكرر هذه المبررات، اي يبرر الحرب.

 

والحجة سريعة الاستدارة في تبرير الحرب، إذ تنقلب بسرعة الى ادعاء أن اميركا بلد مجنون وأن رئيسها مصاب بلوثة، ومن الأفضل لأي بلد ان يستجيب لطلباته وإلا فسوف تتحمل قيادة البلد المعرض للعدوان وزر المسؤولية عن الحرب. فجأة تصبح كل دول العالم المتهمة باللاعقلانية مطالبة بأن تكون أكثر عقلانية من الدولة العظمى الوحيدة ومن يقف على رأسها.

 

إذا كانت أميركا تدير سياساتها بهذه الدرجة من اللاعقلانية، فليس ذلك سببا لدعم الموقف الأميركي بل للوقوف ضد السياسة الاميركية الخارجية داخل الولايات المتحدة وخارجها... وما هذه الحجة في الواقع إلا ترويج للابتزاز في العلاقات الدولية.

 

ليست المرحلة مرحلة محاججات بل مرحلة بناء جبهة او حركة سلام ضد الحرب. وهي قائمة عالمياً ولكنها غير قائمة إقليمياً في المرحلة الراهنة.