الجزائر نيوز
يؤكد المفكر الفلسطيني البارز، عزمي بشارة، العضو العربي السابق في ''الكنيست الإسرائيلي''، أن التطبيع الثقافي مع إسرائيل بدأ بالفعل في الصحافة العربية• وعلى عكس الصورة السائدة عن الروائي عموس عوز، الذي يوصف باليساري داعية السلام مع العرب، فهو يقول عنه أنه ''صهيوني متطرف''.
حاوره: الخير شوار
بعد خروجك من ''الداخل'' سنة ,2007 أصبحت تُقدم بـ ''مفكر عربي''، فهل الأمر يتعلق بازدحام في الهوية، أم هو الشعور بفقدان هويتك الفلسطينية؟
أولا، أنا لم اختر هذه التسمية ولا أحد يمكن أن يسمي نفسه ''مفكر''، وربما إنك تركز على كلمة ''عربي''، فسمة عربي للفكر والأدب أعتقد أنها سمة مطلوبة ومحببة، فلا يمكن الحديث عن أدب فلسطيني خارج الهوية العربية، وفي النهاية من يصفك بذلك يقصد أنه يمدحك، وهو يقول إنك تنتج وتبدع على المستوى العربي، لا على مستوى فلسطيني ضيّق، وهذا أمر لا أعارضه ولا يتناقض مع الهوية الفلسطينية، فالهوية الفلسطينية هي فلسطينية وهي عربية، ولا توجد لغة فلسطينية، فالأدب هو أدب عربي والفكر هو فكر عربي، لذلك لا توجد لديّ أي مشكلة من هذه الناحية، فعندما أسمي نفسي أقول أنا ''كاتب عربي''، وكل مقالاتي أوقعها بعبارة ''كاتب عربي''.
ولماذا ليس كاتبا فلسطينيا؟
كاتب عربي من فلسطين، فالمشكلة لم تكن في الهوية الفلسطينية، بل تكمن في أن هناك تشكيكا في الهوية العربية، الهوية الفلسطينية لا يوجد تشكيك فيها، هناك محاولات لضرب الهوية العربية، فلذلك تأكيدي هنا هو تحدي لمخططات استعمارية وليس تهربا، فأنت تعرف وربما الإخوة في الجزائر يعرفون أني لا أرى في العروبة قومية عنصرية أو هوية إثنية، فأنا أعتبرها ثقافة وثقافة تضم أقواما وإثنيات عديدة، ولا أتعامل مع العروبة بالمعنى القومي الضيّق.
بدأت حياتك الفكرية مناضلا يساريا شيوعيا، وبعد ذلك تحوّلت إلى القومية، فهل الأمر متعلق بالسياق التاريخي للقضية الفلسطينية داخل الخط الأخضر، أم هو مرتبط فقط بتطور في فكرك الشخصي؟
أولا، من حيث القيم الاجتماعية، فأنا مازلت يساريا، فهذا ما يمكن إنقاذه من اليسار، فالتناقض نشأ مع الشيوعية كنظام حكم وكمبدأ وإيديولوجية، ولكن القيم اليسارية المتعلقة بالعدالة الاجتماعية والحرية مازالت أؤمن بها، على عكس التناقض العنيف مع النظام الشمولي الشيوعي، الذي أعتقد أنه يشبه كثيرا الأنظمة الفاشية• ثانيا، أنا لم أتحوّل إلى القومية كفكر، فأنا لا أؤمن بالإيديولوجية القومية، فالإيديولوجية القومية إذا أخذناها هكذا فقد تتحوّل إلى فاشية، أنا أؤمن أن القومية هي انتماء ثقافي يصبو أساسا إلى تشكل أمة ذات سيادة بعيدا عن الانتماء الطائفي والعشائري والإثني، لا أفهمها فكرا يوجه حياتي في موقف من المرأة أو من العمال.
لكنك في الواقع تمارس القومية العربية؟
بالضبط، أنا أمارسها كانتماء، في التناقض مع الاستعمار، أمارسها في الرغبة في تجاوز الطائفية، وفي السعي لبناء أمة حديثة، فأنا أعتقد أن الإمكانية الوحيدة التي تنقذنا من الانهيارات داخلنا وتحوّلنا إلى أقوام وإثنيات وطوائف وعشائر هي هذه القومية بالمعنى الحديث للكلمة، وليست القومية العنصرية، القومية بمعنى أساس هي بناء أمة حديثة بالمعنى الثقافي، فهذا ما أفهمه منها وليست إيديولوجية شمولية، أنا أتعامل مع القومية كانتماء وهوية وليست كإيديولوجية، فإيديولوجيتي هي إنسانية ديمقراطية تؤمن بالعدالة الاجتماعية، أما انتمائي فهو عربي ثقافيا، وأعتقد أن هذا هو أساس بناء الأمة.
أنت تقول، إذن، إن القومية العربية بمفهومها الكلاسيكي عنصرية؟
مؤسسو القومية العربية الحديثة في مواقفهم الأولى، كانوا جيدين جدا، إذا أخذت كتابات ساطع الحصري وقسطنطين زريق وحتى جزء من كتابات ميشال عفلق تجد بُعدا إنسانيا كبيرا وبُعدا ديمقراطيا أيضا، المشكلة بدأت مع التفسيرات اللاحقة للقومية العربية التي أخذت مناحي ضيقة في التفسير.
أنت تواجه، إذن، القومية اليهودية الضيقة في ''الداخل'' بقومية عربية؟
أنا أواجه العنصرية ليست فقط الصهيونية، وإنما العنصرية الغربية والاستعمارية عموما ضد العرب وضد الفلسطينيين والتي تحاول إنكار وجود أمة وحق تقرير المصير، وتهدف إلى تفكيكنا إلى طوائف وعشائر، هذا في مواجهة العنصرية الصهيونية الاستعمارية ومواجهة للعنصرية الغربية معا.
أنت من فلسطينيي ''الداخل'' أو ''عرب ,''48 ونحن في العالم العربي الكبير، لم يصل إلينا أي اسم أدبي كبير من هناك إلا إميل حبيبي وسميح القاسم، هل المشكلة في انعدام التواصل أم أن مجتمع ''عرب ''48 عجز عن إنجاب أيقونات جديدة في هذا الصدد؟
بالإضافة إلى الاسمين اللذين ذكرتهما، هناك الشاعر محمود درويش الذي نشأ في الداخل.
لكن محمود درويش رغم ذلك ليس محسوبا على الداخل؟
خرج مبكرا، خرج عام .1970 أنا أعتقد أنه بالمقارنة مع حجم السكان بالداخل فإن كمّ الإنتاج الأدبي قياسا بالإنتاج العربي المحيط يعد كبيرا إذا ما أخذنا عدد السكان، كما قلت، هناك قسم اشتهر في فترة الارتباط العاطفي مع ما سمي بالمقاومة، والكثير من الحالات، فالتقليل من أهميتها كان لأسباب سياسية، فأعتقد أن علاقة الجمهور العربي وفي العالم ككل علاقتهم بالأدب علاقة إيديولوجية، ليس بالضرورة متعلقة بحجم الإبداع، فالكثير من الأدب المرتبط بقضايا يروج أكبر من مستواه النوعي، والعكس صحيح، فيمكن أن تجد إنتاجا أدبيا رائعا وغير مرتبط بقضية تحظى بشعبية في مرحلة معينة، فينتقص من قيمته، لذلك لا أحبذ الحكم على الأمور بهذا الشكل، وعموما من حيث الأدب الروائي الإنتاج الفلسطيني دوما ضعيف ليس فقط في الداخل، وفي الخارج أيضا وهذا له أسباب لا أريد الخوض فيها الآن، أما الإنتاج الشعري، فأنا أقول إن ما يستحق الذكر هو محمود درويش من ناحية الإبداع المرتبط بالقضية، ولكن في ظروف عرب الداخل مع محاولات إفقاد الهوية نشأ الإنتاج الأدبي كنوع من التحدي، ثم انتشر عربيا في مرحلة الإعجاب بأدب المقاومة، وليس دائما بسبب المستوى الجمالي ولكن في بعض الحالات نتج أدب بمستوى جمالي ممتاز.
ربما الشيء الذي لا يعرفه مشاهدو الفضائيات العربية، أن الدكتور عزمي بشارة روائي، هل مازالت تكتب الرواية وتهتم بها؟
أنا لا أسمي نفسي روائيا، أنا أنتج أدبا.
وماذا بعد روايتي ''الحاجز'' و''حب في منطقة الظل''؟
أنا لست روائيا محترفا، فاختصاصي الرئيسي هو في الفكر الإنساني، لكن هناك جوانب أعبّر عنها بأسلوب أدبي ولا أعرف كيف أصنّف نفسي من ناحية الأجناس، فعندما كتبت ''الحاجز'' و''حب في منطقة الظل''، كتب نقّاد أن عزمي بشارة كتب رواية دون أن يدري، فأنا لم أهدف إلى كتابة رواية، ولم أسمها رواية، فقد سميتها ''شظايا رواية''، وأكتب نصوصا أدبية مثل ''نشيد الأنشاد الذي لنا'' صدر قبل عامين، وصدر كتاب أهم هو ''فصول'' عن ''المركز الثقافي العربي''، وهذا أعتز به لأنه كتابة أدبية وجدانية، فإذا توفرت الموهبة الكتابية الجمالية من ناحية الصياغة لديك جوانب إنسانية لا تعبّر عنها بفكر فلسفي أو كتابة سياسية، مثلا حالات شعورية مركبة أو حالات حزن أو فرح لا تُفهم بشكل جيد بالكتابة التحليلية، فالتحليل تكتيك في حين أن الرواية والأدب والنص الأدبي عموما شمولي فيه العاطفة بكليتها، ولا يمكن أن نفكك العنصر ونحللها، لذلك فإن الكتابة الأدبية بالنسبة لي هامة جدا على المستوى الشخصي، أولا هناك حاجة شخصية عندي ألبيها عندما أفعل ذلك بعيدا عما أسميها ''المسايرة'' التي تتم في العمل السياسي، ثم إنني أعبّر فيها بحرية أكبر، والأهم من كل هذا أن تتوفر الموهبة ولا تصح العملية دون وجود موهبة، فعندما كتبت كتابي ''المسألة العربية'' أو ''أن تكون عربيا في أيامنا''، بالموازاة مع ذلك كتبت ''نشيد الأنشاد الذي لنا'' و''فصول''، والآن أنا بصدد كتابة كتاب عن ''فلسفة الدين'' في مجلدين، وربما سيكون جاهزا في العام القادم• وفي الوقت نفسه، وعلى شاشة الكومبيوتر، لديّ نص آخر ألجأ إليه في كل مرة للتنفيس، وهذا النص الأخير قد يصدر قريبا، وقد لا يصدر، والكثير من الأعمال الأدبية لا أصدرها، بل أنجزها لحاجة ذاتية.
هل تقرأ الأدب الإسرائيلي باللغة العبرية؟
كنت أقرأه، والآن لديّ صعوبة نفسية نحوه (يضحك)، لقد كنت أقرأ الكثير من الأدب العبري المعاصر للاطلاع والمعرفة، فثقافتي عربية وإذا شئت فلسطينية وإنسانية عامة، وأقرأ أدب اللغة الألمانية والإنجليزية، والأدب العبري هو جزء من الثقافة السائدة في إسرائيل ومعرفتي باللغة العبرية معرفة جيدة أملت عليّ قراءته من أجل الاطلاع على ما يجري حولي.
في صفحتك ضمن موقع الكنيست الإسرائيلي مكتوب أنك تجيد العربية والإنجليزية والألمانية دون ذكر للغة العبرية؟
لأنهم يعتبرون معرفتي للعبرية أمرا مسلّما به، فأن تكون نائبا في الكنيست فأنت تعرف العبرية دون أي نقاش.
وأنت العارف بالأدب العبري، كيف تتعامل معه، وهل تعتبر أن تجربته نوعا من ''التطبيع الثقافي''؟
سؤال خطير (يضحك)، هو جاري الآن تطبيع ثقافي بواسطتكم أنتم الإعلاميون، لا أقصدك أنت ولكني أقصد بعض الصحف العربية.
تقصد الذين يترجمون مقالات من الصحف العبرية، مثل جريدة ''القدس العربي'' وموقع ''عرب ''48؟
لا•• موقع ''عرب ''48 يأخذ مقتطفات ويحللها وينتقدها، فهو مثال معاكس، وهو من أفضل الأمثلة، فهو لا يترجم وإنما يأخذ المقال الإسرائيلي في فقرات منه ويحللها، بينما الصحافة العربية الأخرى بشكل عام انتشرت فيها ترجمة مقالات عبرية حرفيا، وهو أمر لا تجده في الصحافة الإسرائيلية، فهي لا تترجم مقالات عربية كاملة، وفي اعتقادي أن هذا تطبيع غير مقصود، ولا يشكك أحد في الإخوة الوطنيين الذين يفعلون ذلك، هم يقصدون فهم المجتمع الإسرائيلي ولكن ليس هكذا يفهم المجتمع الإسرائيلي.
وكيف نفهمه؟
بفكر نقدي، فإذا أردت أن تترجم رواية، فأعتقد أن هذا جيد ولكن يجب أن يكون هناك تعليق في البداية وتعليق في النهاية، فليس هدف المثقفين العرب إسقاط القارئ العربي في أحابيل الدعاية الصهيونية.
هذا عن الصحافة، وماذا عن الأدب العبري؟
عن الأدب، فعندما تترجم روايات عربية إلى اللغة العبرية، أولا فهي ترجمات قليلة جدا جدا، ثم إن المجتمع الإسرائيلي لا يقبل على شراء الروايات العربية المترجمة إلى العبرية.
كيف ونحن نقرأ في الصحف العربية أن رواية ''باب الشمس'' لإلياس خوري طبع منها 200 ألف نسخة في ترجمها العبرية؟
دار الأندلس التي قامت بجهد كبير في ترجمة الأدب العربي إلى اللغة العبرية، لم تتمكن من الاستمرار وأغلقت، لأن صاحبة دار النشر صرفت ما ورثته من جدتها على الدار ولم تستطع الاستمرار، لأن الجمهور الإسرائيلي، نتيجة لعنصريته، لا يقبل على شراء ترجمات الأدب العربي إلى العبرية، إلا المختصين منهم• فعن رواية ''باب الشمس''، فقد يكون نشر منها 2000 أو 3000 نسخة، فإما أن يكون فيه ''صفر'' غلط في الرقم أو صفرين، فألفين نسخة هو رقم كبير، بينما الأدب العبري يبيع 60 ألف إلى 70 ألف من كل رواية• فحتى جمهور المثقفين لا يقبل على الأدب العربي المترجم، فهو موجه للمختصين أساسا، فلا أرى مانعا من ترجمة الأدب العبري إذا كانت الترجمة مبررة، فتشرح من هو هذا الكاتب، فمثلا عن عموس عوز فقد ترجم على أساس أنه يساري إسرائيلي، فبالعكس هو صهيوني متطرف.
إنه يقدم على أنه عكس ذلك؟
يقول إنه مع قيام دولة فلسطينية، فحتى شارون مع دولة فلسطينية، وجورج بوش مع الدولة الفلسطينية، والسؤال هو كيف تكون هذه الدولة الفلسطينية وبأي شروط• عموس عوز من رموز حركة العمل الصهيونية، فالمشكلة تمكن عندما يقدمه الناس على أنه رجل سلام، ونعرض الناس لعدم إنسانية وديمقراطية المجتمع الإسرائيلي، بالمقابل لا بأس من التعرف على المجتمع الإسرائيلي، فليس هدف الترجمة إثارة الإعجاب بالآخرين، فعليك أن تترجم في أجواء نقدية• للأسف فإن الكثير يفعلون ذلك من أجل إثارة الإعجاب، فالذين يرفضون مبدأ الترجمة من الأساس، والذين يردون الترجمة من أجل إثارة الإعجاب، أعتقد أن موقف الإثنين على خطأ، وأنا مع الترجمة، لكن يجب أن توضع الأمور بشكل نقدي وبشكل جيد مفيد للقارئ العربي بحيث لا يقع في هذه الأحابيل.
العرب خسروا معركة ''الحرب'' مع الناصرية، والآن هم بصدد خسارة معركة السلام، فمع صعود اليمين المتطرف بهذا الشكل، هل خسر العرب الحرب والسلام معا؟
في الحرب لم تكن هناك قوى اجتماعية وسياسية معنية بالحرب، فلم يثبت إطلاقا أن الحرب غير قادرة على الثبوت، هذا هو الأمر الأول• أما الأمر الثاني الذي أريد التأكيد عليه هو أن مبادرة السلام ناجمة عن ضعف وهي موجهة لا إلى تحقيق سلام عادل وإنما لأسباب داخلية متعلقة بطبيعة النخبة الحاكمة، مبادرات السلام ليست موجهة للإعلام وإنما هي مسؤولية تاريخية، لا تطلقها إلا إذا أدركت أن الطرف الآخر يقبلها وإلا تحوّلت إلى تراجعات، مبادرات السلام يطلقها القوي ولا يمكن أن يطلقها الضعيف، يطلقها المنتصر لا المهزوم، المهزوم يطلق مبادرات استسلام.