أجرى الحوار: عبد الحكيم أحمين
اللقاء مع المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة كان تحيينا للفرصة وللزمان والمكان المناسبين، لكن الرجل كان أسهل من البحث عن فرصة خاصة عندما علم أن هذا الحوار لجريدة مغربية.
تواضع واستماع واستنصاح وسؤال وإجابة بأريحية ونظرة انصهرت فيها عدة تجارب وخبرات ومعارف.. هكذا بدا الرجل وحتى وغن اتفقت أو اختلفت معه..
أحب في المغاربة "صدقهم والتفافهم حول قضاياهم القومية والمصيرية وأخلاقهم وكرمهم رغم مظاهر الفقر البادية على الشعب المغربي"، كهذا يقول بعد الحوار ويتابع "المغاربة أصدق في مشاعرهم ومواقفهم من غيرهم، غير أنهم لم يحسنوا تصدير خبراتهم التاريخية القوية إلى الشام وغيرها، نحن نعرف عن مقاومة الجزائر الكثير لكن لا نعرف عن عبد الكريم الخطابي مثلا وعن مقاومة المغاربة شيئا كبيرا".
هذا القول ليس بداية أو نهاية ولا يغني عن الوقوف على بعض أفكار هذا الرجل في هذا الحوار التالي:
- دخلت الحرب على غزة أسبوعها الثالث ولم تحقق إسرائيل أيا من أهدافها المعلنة، هل سيكتشف الإسرائيليون النموذج اللبناني المقاوم في قطاع غزة؟
نأمل ذلك، أما النموذج اللبناني فهو خاص بلبنان ويجب ألا نحمله للمقاومين في غزة، لأن لبنان دولة مستقلة وكانت هناك ست سنوات من الهدوء الكامل وحتى الرخاء النسبي تمكنت فيها المقاومة من بناء نفسها وبنيتها التحتية في الجنوب اللبناني إضافة إلى وجود حدود مفتوحة مع سوريا ودعم مالي من إيران وجغرافية المكان تختلف، عدا أنه في أثناء الحرب سمح للبنانيين بالانتقال من أماكن الحرب إلى مناطق آمنة، فحارب حزب الله وهو مطمئن على مدنييه.
في حالة غزة فيما عدا إرداة القتال والعزيمة لدى الشباب في مواجهة العدوان، الوضع مختلف، الجغرافية ليست كما هي في لبنان، المدنيون لا يستطيعون التنقل، لا توجد حدود مفتوحة مع دولة عربية، بالعكس الدول العربية تغلق الحدود ولا يوجد إمداد مثلما كان تنال المقاومة اللبنانية التي كانت تزودها سوريا بالسلاح، النموذج المصري الغزي عكس النموذج السوري اللبناني تماما، لذلك من الصعب حساب الأمور كما هي في لبنان، ولكن بالتأكيد الإسرائيليون يواجهون صعوبة في التقدم ويواجهون صعوبة في اتخاذ قرارات بشأن الحملة البرية وهم الآن ينتظرون أن تقوم الحملة السياسية بالمهمة من خلال التحرك المصري السياسي، لذلك فنحن أمام وضع من هذا النوع، لكن إرادة القتال والقرار الحاسم بعدم الخضوع للمحتل واعتبار الاحتلال هو المشكلة وليس المقاومة والانقسام العربي وعدم رغبة إسرائيل تقديم أي ضحايا هذه أمور تجمع بين غزة ولبنان.
- لكن ماذا عن الوسائل والأنفاق مثلا؟
أنا لا أعلم في علم الحرب ولا أتمنى أن أصبح خبيرا في هذا الموضوع ولكن بالتأكيد هنالك إغناء متبادل من التجربة اللبنانية من ناحية الوسائل القتالية. مثلا الأسلحة المضادة للدروع من الصعب توفيرها في غزة لذلك قسم كبير مما يقاوم به الشباب يصنعونه هم. أما الأنفاق فلا تسمح بدخول أمور كثيرة ولكن الأنكى والأصعب هو توفير حتى الإسمنت لبناء تحصينات، فالمواد معدومة خاصة مع الحصار الذي دام ثلاث سنوات على قطاع غزة ولذلك ما تقوم به المقاومة الفلسطينية يفوق كل توقع أو تصور، إسرائيل كانت تعتقد أنها ستدخل إلى ناس معدمين ليس لديهم شيء وأنه بعد الحملة البرية سيرفعون أيديهم لطلب وقف إطلاق النار.
- الحصار على غزة حصار إسرائيلي ودولي وعربي أيضا، هل تتوقع أن تنتهي أحداث غزة برفع الحصار أم أنه سيستمر بأشكال ووسائل أخرى؟
لا يمكن القبول بأن تنتهي هذه الأحداث دون رفع الحصار بشكل كامل، وليست المسألة مسألة دواء أو عذاء، هذا هو الأمر الأساسي لذلك يفترض أنه حتى في معسكر المعتدلين العرب ألا يقبلوا بأنه بعد العدوان الحديثُ عن حصار. أصلا الحصار فشل قبل شن العدوان في عدم تمكنه من إنجاز نتيجة مع حماس والجهاد الإسلامي وغيرهما من فصائل المقاومة ما أدى إلى هذا العدوان.
- هل تتوقع أن تقود المقاومة الفلسطينية الموحدة في ساحة القتال إلى وحدة سياسية وطنية في قطاع غزة ثم مع الضفة الغربية؟
هذه مسألة قرار سياسي، الفصائل الآن موحدة في قطاع غزة لكن مع أسمعه من السطلة كأنهم يرددون الحرب النفسية السياسية الإسرائيلية، عندما تقاوم المقاومة والشعب كله معها والأمة كلها معها وتردد أن المقاومة عبء وأن هنالك مدنيين وأن الثمن مرتفع وأنكم محاصرون والعالم ليس معكم هذه الأقوال مثل المناشير التي تسقطها الطائرات الإسرائيلية على الناس، كيف يجوز للقيادة الفلسطينية ترديد الحرب النفسية الإسرائيلية وفي زمن الحرب، أنا لا أفهم ذلك، لذلك أنا لا أرى أن هذا التيار عازم على الوحدة لذلك يبقى الأمر متروكا لشباب فتح أن يلملموا صفوف فتح وأن يحاولوا الدخول في المقاومة، أما ما عدا ذلك فهناك مشكلة حقيقية.
- الحصار قام على أساس جلب أشخاص معتدلين، هل تتوقع أن تأتي أزمة غزة بعكس هذه النتيجة رغم أن الأخطبوط العالمي يتحكم في مسار بعض الحكومات العربية فكيف بقطاع غزة؟
نعم هو يتحكم في الحكومات العربية من ناحية لكنه يفقد حلفاء كبارا عالميا، فبعد حرب العراق ولبنان وأفغانستان والتدخلات العسكرية الأمريكية ثم فشل سياسة المحافظين الجدد وعودة روسيا والصين إلى لعب دور مهم، أصبح الكثير من حلفاء أمريكا ينتهجون نهجا مستقلا عنها ونرى ذلك في إقليمنا في تركيا، لذلك من الصعب الاعتقاد الآن إطلاقا بأن بالإمكان أن تأتي قيادة فلسطينية تتمتع بأي قدر من الشرعية على دبابات إسرائيلية وعلى سياسة الأرض المحروقة التي تتبعها إسرائيل، لذلك لا أتوقع ذلك إطلاقا، بالعكس إذا كانت أي قيادة تريد أن تنقذ نفسها الآن يجب أن تصطف إلى جانب المقاومة، وأنا في اعتقادي أن هناك سوء تقدير لدى الأنظمة التي لا تفعل ذلك من حجم الغضب الجماهيري القائم الآن الذي لم أر مثله منذ الخمسينيات أيام التضامن مع حرب السويس وغيرها.
- هذا الغضب أو هذه الانتفاضة الشعبية تتحرك بإيعاز من بعض الأنظمة العربية الآن، هل تتوقع أن تؤدي هذه الانتفاضة إلى شيء ملوس أو تغيير ما؟
طالما لم تحركها حركات سياسية لها نفس طويل تبقى حالة احتجاج مهمة ولكنها لا تؤدي إلى تغييرات، التغيير يتم إذا كان هناك من يبني على هذه الانتفاضة الشعبية ويستمر في العمل السياسي، وسوف نرى كيف ستتطور الأمور، من المبكر الحكم على ذلك، ولكن برأيي المنطقة مقبلة على تغيرات.
- لكن هذه التحركات الشعبية ليست لها أهداف واضحة وليس لها قيادات تقودها؟
من الصعب الحكم في ذلك، فقط تخيل لو أن إسرائيل تقوم بعدوانها ولا يخرج أي رجل إلى الشارع، ماذا ستستنتج إسرائيل من ذلك هو أنها أعطيت الضوء الأخضر من الشارع، الحركة الحالية وعضب الجماهير وعفويتها ودور وسائل الإعلام والصورة المباشرة من العناصر الأساسية. أما القيادات السياسية فنحن نعلم ما وضع المعارضة العربية فهي لا تطرح بديلا ما عدا الحركات الإسلامية، التي استنتج الحكماء فيها أنهم لا يستطيعون لا السطيرة وحدهم ولا الحكم وحدهم ولا الوصول إلى الحكم وحدهم، فتجربة مصر والجزائر والسودان وأفغانستان ما عدا إيران الفريدة التي تتمتع بتعدديتها الداخلية وهرميتها ووجود نظام ديني هرمي ومنظم.
في العالم العربي واضح أن الحركات الإسلامية لها زخم شعبي كبير ولكن الواضح أنها غير قادرة على إحداث التغيير السياسي لوحدها في الأنظمة، كلما أدركت ذلك بسرعة أكبر وكلما أدركت القوى العلمانية والديمقراطية ضرورة التحالف مع الحركات الإسلامية بشروط متعلقة باحترام حقوق المواطن وغيرها كلما كان التغيير أسهل، ولكما تأخر ذلك ستبقى الأنظمة قادرة على اللعب بالمتناقضات بالتخويف من الحركات الإسلامية والخائفين من وصولها إلى الحكم في أوساط النخبة التي بواسطتها نحكم، هذا الموضوع مؤجل الآن لكن لا بد أن نفكر فيه.
على الحركة الشعبية أن تضع أهدافا مثل الإصرار على قطع العلاقات مع إسرائيل وإغلاق السفارات وغيرها من الأمور المرحلية التي أعتقد أن تنظيم الجماهير بشكل منظم بدون مزايدات بإمكانها تحقيق أهدافها، فلا أحد يمكن أن يقنعني أن موريتنيا لا يمكنها سحب السفير الإسرائيلي أو الأردن أو مصر، هذا أمر واقعي وممكن، وبإمكان الضغط على الأنظمة العربية بشأن علاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية بشكل جدي أكثر من الحاصل، بطبيعة الحال هذا مرتبط بالصمود على الأرض.
- بالنسبة لدول شمال أفريقيا ما أهم أولويات التحرك الشعبي في هذه المرحلة في تصورك؟
برأيي دول شمال أفريقيا وكل الهيئات المتوسطية قادرة أن تضغط بشكل أكبر، لديها أدوات بعضها نعرفه وأخرى لا نعرفها بحيث تفعلها بدون أن تضر مصالحها باستطاعتها أن تضايق الأوروربيين كثيرا لأن سياستهم من أسوء ما يكون فيما يتعلق بالانتخابات الفلسطينية ونتائجها والحرب الأخيرة، ولكن لا يوجد تحرك بدءا من عدم قبول الجزائر وليبيا والمغرب وتونس ومرويتانيا أن تكون حرسا لحدود الدول الأوروبية البحرية للهجرة السرية التي هي جزء من إرث الاستعمار، ارفع فقط الحراسة عن حدود هذه الدول وسيصرخون بأعلى صوت، توقف عن القبض عن المهاجرين غير الشرعيين وسترى ماذا سيحصل. وهذا نوع من من الأدوات السلبية وهناك أدوات أكثر إيجابية تعرفها الأنظمة أكثر مني ومنك.
- هل ستتقوض الحرب الأميركية على ما يسمى الإرهاب، التي استغلتها الأنظمة العربية والغربية، بعد أحداث غزة؟
هذه آخر جولة من جولاتها لأن التقويض حصل في العراق ولبنان وكيف انتهت حرب تموز 2006 وحرب أيار العام الماضي، والشعب الأمريكي بدا يدرك أن هذه الحرب تقوده إلى التهلكة، حرب في الهواء ليس على شخص محدد ولا في زمان محدد ولا مكان محدد، حرب على كل شيء، لأن الإرهاب ليس جيشا ولا دولة وإنما ظاهرة، والحرب على الإرهاب حرب على ظاهرة اجتماعية لا معنى لها أدت إلى توريط أمريكا وحتى المؤسسة الأمريكية بدأت تدرك ذلك، بإمكان القول بأن ما يجري عندنا هو آخر جولات الحرب على الإرهاب، ولكن إسرائيل هي صاحبة نحث لفظ الإرهاب وهي تقوم عليه رغم أن النظام العربي لم يعد يحارب إسرائيل.
- أنت تقول بأن الأنظمة العربية ليس لديها إستراتيجية
أقول لديها إستراتيجية في أمن النظام وأنا مصرّ على ذلك.
- لكنها تقول بأنها تحارب التطرف والإرهاب.
لا، لا، هذا في إطار الحفاظ على أمن النظام، هذا لقاء بين حلفاء وليس إستراتيجية مفكر فيها إلا من الناحية الأداتية أي تنسيق أمني إعلامي، كره نفس الناس، هذه ليس إستراتيجية ولا هي مقاومة، هذه الأنظمة تصارع من أجل الحفاظ على أمنها وفي إطار ذلك تلتقي مع حلفائها، هل لديها إسراتيجية قاطعة لا يتنازع عنها في حل القضية الفلسطينية؟ لا يوجد أي شيء، هل لديهم إسراتيجية قاطعة بشأن العلاقات فيما بينهم كعرب؟ هل تطور المشترك بين الدول العربية إلى درجة تحول إلى إستراتيجية ورفع التأشيرات والاستثمارات المتبادلة وغيرها؟ هل توجد بين دول الاعتدال ألية للتعاون إلى هذه الدرجة؟ لا، توجد أنظمة منفصلة متفاوتة تدافع عن أمنها وتجتمع سوية في الدفاع عن كل نظام، الدفاع عن الأنظمة لا يؤدي إلى إسراتيجية بل إلى تحالفات تكتيكات، وأعتقد أنه لا يتأخر أي منهم في بيع آخر لأمريكا لأنه يعتبر علاقته مع أمريكا أكثر إستراتيجية من أي دولة أخرى عربية حتى ولو كانا جيرانا، لذلك لا ترقى العلاقات بينها إلى تعاون إستراتيجي ولذلك يبدو شكلها الرث أمام الجماهير.
- لتركيا علاقات قوية مع إسرائيل وفي نفس الوقت تطلق تصريحات قوية ضد إسرائيل، كيف نفكك هذه الصورة المتناقضة؟
هي متناقضة في أذهاننا فقط لأن لدينا تصورا خاطئا عن الدول، لأن دولنا ليست دولا، ونحن نعتقد بأن تحالفنا مع أمريكا يكون بتلقي الأوامر والإملاءات منها، عندما نرى تحالفا آخر مثل التحالف الهندي والبرازيلي اللتين لا توفقان على كل شيء يصدر من أمريكا، نحن لسنا حلفاء نحن عبيد لأمريكا، الحليف هو مثل تركيا الذي يقول بأنني حليف لكم على المدى الطويل ولكن لدي كذا وكذا ولن أسمح بقيام دولة كردية حتى ولو كان هناك موقف مساند من الكونغرس الأمريكي لقيام دولة كريدية ولدي مصالح أمن قومي مختلفة وأنا سأقف عندها.
الحركة الإسلامية غير مقبولة عندك لكن أمني القومي وهويتي القومية تتطلب أن أتصالح معها، أنا الجيش التركي لا أستطيع أن أدخل حربا أهلية لأرضيكم سأبقى خليفا لكم ولكني سأترك متنفسا للهوية الإسلامية، وإذا دخلت في حرب أهلية سيجتمع الإسلاميون الأكراد والأتراك ضد الجيش لهذا لا أستيطع محاربتهم.
واقتصاديا الهوية الإسلامية مربحة لي (الجيش التركي) في العالم العربي والإسلامي خاصة أنني لا أستطيع المنافسة في الغرب وأعرف أن الاستثمارات الأساسية التي يمكن أن تستثمر في تركيا هي المال العربي، فكيف أقف إلى جانب إسرائيل لذا برزت تصريحات تركيا، وهكذا تتصرف الدول باستقراء مصالحها المتناقضة في الواقع أحيانا، هكذا الدول. ففي حالة الاتحاد السوفياتي انهارت عدة دول مثل هونغاريا وبلغاريا لأنها كانت متحالفة على أساس تلقي أوامر ولم تكن مستقلة بحالها. تركيا تقدم نموذجا جذابا للشعب العربي الذي يرى كيف تتلقى أنظمته الإملاءات، الحزب الحاكم في تركيا لا يشبه حماس، فمصالح تركيا يمثلها الحزب الحاكم.
المصدر: التجديد المغربية