أعد المقابلة: رامي منصور وهاشم حمد
قبل أيام قليلة فقط تواصلنا مع الدكتور عزمي بشارة لإجراء مقابلة معه نوجز فيها قراءة لأبرز الأحداث العربية والفلسطينية والمحلية في العام ٢٠١٥، رغم معرفتنا المسبقة بأنه منشغل هذه الأيام بوضع اللمسات الأخيرة على مؤلف جديد له وبمشاريع أخرى. لكن رده جاء سريعا وبأنه سيخصص لقراء عرب ٤٨ مقابلة عن شؤون الساعة ونحن على عتبة العام الجديد، ويبدو أننا فاجأنا د. بشارة بعدد الأسئلة الكبير وشموليتها، لكنه أصر أن يخصص لنا الوقت للرد عليها رغم ذلك.
وكانت هذه فرصة للحديث عن مواضيع شتى تهم العربي في أيامنا، بدءا من الثورة المضادة وما يسمى الحرب على الإرهاب وتنظيم داعش والحرب السورية والتدخل الروسي والفاشية في مصر مرورا بالهبة الفلسطينية والقدس وصولا إلى الساحة المحلية وبعض الأسئلة الشخصية.
ولا يمكن محاورة د. بشارة دون الاهتمام والاستفسار عن أحواله الشخصية وعن مشاريعه الفكرية القريبة لأنه ليس محللا أو أكاديميا في برج عاجي منعزل، بل هو ابن بار للشعب الفلسطيني تلاحقه إسرائيل لموقفه من المقاومة، ويمكن القول دون تردد إنه خرج أجيالا في السياسة والعمل الوطني تماما مثل الأكاديميا، خصوصا في أوساط الشباب ممن تأثروا بأفكاره أو انتسبوا لحزبه، وهو مثقف منشغل بهموم العرب السياسية ويؤلف عنها أعمالا مرجعية.
وكان سؤالنا الأول أنه “يتساءل العديد من مريديك والقراء عن كم مقالاتك الأخيرة والوتيرة المكثفة في النشر؟ هل سبب ذلك الضبابية في المفاهيم وتشوهها في العالم العربي الراهن؟”، فكان جوابه مباشرا وصريحا بأن “انطباعهم صحيح”، وقال في رد على سؤال عن آخر أعماله بأنه أرسل مؤخرا مخطوطة، عمل عليها ثلاثة أعوام، وهي كتاب تأريخي وتحليلي نظري عن الثورة المصرية.
الوضع العربي في العام ٢٠١٥
وصفت المرحلة الحالية ونحن في الأيام الأخيرة للعام ٢٠١٥ وعلى مشارف العام ٢٠١٦ بأنها مرحلة تصارع القوى المضادة للثورة؟
نعم، فللأسف قامت الثورة المضادة المؤلفة من قوى الأنظمة القديمة بالتحالف مع القوى الرجعية باستخدام عنف شديد وغير مسبوق في مسعى الحفاظ على السلطة، أو من أجل استعادة السلطة التي خسرتها. وتميزت بذلك عن سلوك نخب حاكمة في دول أخرى مثل أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية والجنوبية في مرحلة الانتقال الديمقراطي. وبعد أن قمعت القوى السياسية المدنية التي خرجت إلى الميادين ضد الاستبداد والفساد في العام ٢٠١١، بقيت في مواجهة عنف الأنظمة قوى تستخدم عنفا مضادا هي في الجوهر معادية للتحول الديمقراطي ولمطالب الثورات. وهي أيضا قوى ثورة مضادة، فهي ضد الثورة الديمقراطية.
خلال العام الحالي استخدم مصطلح الإرهاب بسياق جديد وتحديدا السياق السوري، وأصبحت الحرب على الإرهاب هي العنوان، وأصبح كل مناضل ضد الاستبداد إرهابيا أصوليا حتى لو كان علمانيا، وإذا كان علمانيا يوصف بأنه مؤيد للغرب الداعم للإرهاب؟
لو كان استهداف المدنيين والمنشآت العامة بهدف الترويع لأغراض سياسية هو الدلالة المتفق عليها لمصطلح الإرهاب لسُهل أيضا الاتفاق على مكافحة الإرهاب. ولكن المشكلة أن أي سلطة سواء أكانت سلطة احتلال أم استبداد أم غيره، تعتبر العنف الذي يستخدم ضد عنفها إرهابا حتى لو كان دفاعا عن النفس، وذلك على الرغم من أنها تسد الطرق أمام التغيير بالوسائل السلمية. وقد تدفع الناس دفعا لاستخدام العنف، ولكان من السهل رؤية أن قصف السلطات الحاكمة للمدنيين بالطائرات أو بسلاح المدفعية وكذلك التعذيب بالسجون هي من أسوأ أنواع الإرهاب.
حاليا، تتفق أميركا وروسيا وإسرائيل على ما يسمى مكافحة الإرهاب القائم على الخلط بين حركات لا يجمعها جامع، وتجاهل مسببات العنف وخلفياته، وتجاهل تام لعنف الاحتلال والاستبداد الفاشي وغيره. وفي رأيي تخفي مصطلحات الإرهاب والحرب على الإرهاب أكثر مما تفسر، وتشوش الرؤية أكثر مما توضحها. ولكي نفهم ما يدور من حولنا لا يكفي مصطلحات الإرهاب والحرب على الإرهاب، ونحتاج إلى تحليل الخلفيات الاجتماعية والسياسية وأيضا الفكرية لنشوء الحركات السياسية العنيفة، وفي مقدمتها القمع والتهميش الاقتصادي الاجتماعي واليأس نتيجة لسد طرق التغيير السلمي، من دون هذا تؤدي الحرب على الإرهاب إلى نشره.
هل يمكن الحديث عن ثورة في سورية بعد كل هذا القتل المنظم من قبل النظام؟
تاريخيا يصح أن نعمم أن أي ثورة لا تقود إلى انشقاق النظام، أو على الاقل تحييد الجيش، لا يمكنها أن تنجح. لقد قوبلت الثورة السورية بأشكال مهولة من العنف وبوحشيةٍ غير مسبوقة أدت إلى دحر الثورة المدنية التي قامت في سورية. لقد قُتل النشطاء في المظاهرات أو سجنوا وقضى قسم كبير منهم تحت التعذيب، أو خرج إلى المنافي. ودخلت ساحة المواجهة قوى جديدة مسلحة تدافع عن نفسها في القرى والمدن السورية وتستنفر الجماعة والمحلة والطائفة ضد النظام، وما لبثت أن اقتحمت الثورة قوى دينية متطرفة لا تعترف أصلا بالثورة ومبادئها... هنا تحولت الثورة بالتدريج إلى ما يشبه الحرب الأهلية. ومن دفع إلى تحويلها إلى حرب أهلية هو خيارات نظام الاستبداد.
مفاوضة النظام السوري والحرب على 'داعش'
تقديراتك بالنسبة للحرب المعلنة على داعش، أين تنتهي وإلى أين تقود، وتداعيات ذلك على تطورات الأوضاع في سورية والعراق؟
في النهاية سوف تهزم داعش عسكريا على يد قوى التحالف والقوى المتحالفة معها على الأرض. ولكن في رأيي لا يمكن الانتصار على داعش وأمثالها نهائيا إلا إذا تجندت المجتمعات المحلية ضدها. وهذه لن تفعل ذلك لتنتصر للاستبداد، أو لتنتصر لنظام ميليشيات طائفية أو غيره. وتثبت تجربة العراق وأفغانستان أن القضاء عليها بالعنف وحده يمهد الطريق لقيام حركات أعنف في المستقبل. وأثبتت التجربة أن القصف من الجو لا يحسم معركة، وينشر الدمار واليأس ويولد باستمرار أجيالا تريد أن تنتقم.
لا بد من مواجهة حركات مثل داعش، ولكن يجب أن يكون ذلك في إطار أوسع وهو البحث عن حلول لقضايا الشعوب، هذه القضايا الملحة التي يولّدُ اليأسُ من حلها قوى تدفع لاستخدام العنف، أو حركات خلاصية تنفي الآخر نفيا تاما وغير مستعدة لأي مساومات أو تسويات أو حلول وسط.
انسحاب إيران من سورية، والحرب على داعش، وزيادة التدخل الروسي، مقابل انسحاب متوقع لحزب لله من سورية... والسؤال هو: كيف ستبدو سورية الغد؟
أصبح من الصعب حساب ذلك. لا ندري. كل ما نتمناه أن تبقى سورية موحدة، وأن يعود اللاجئون إلى ديارهم، ويقوم نظام سياسي ينصف الشعب السوري، ويستحق تضحيات هذا الشعب العظيم الذي دفع ثمن حريته أكثر مما دفع أي شعب آخر.
ما أبعاد التدخل الروسي خلال العام المقبل؟ هل سيكون على حساب إيران؟ هل بمقدوره أن يغير مسار الأحداث في المنطقة أو التحالفات أم إنه تدخل محدود في سورية؟
حتى الآن ثمة تكامل بين الدورين، الروسي والإيراني، أحدهما من الجو والآخر على الأرض. وهذا احتلال عسكري سافر لبلد عربي، فالتدخل هو ضد شعب هذا البلد. ولكن بدأت تبرز خلافات فإيران لم تعد وحدها المقرر، بل أصبحت روسيا أكثر تأثيرا على الأحداث والقرارات السياسية، ولا سيما من خلال التنسيق الروسي مع الولايات المتحدة وإسرائيل بخصوص سورية. ولوحظ مؤخرا تشديد إيراني على أن دورها في سورية أنقد الأسد، كما أنها تنشر عن ضحاياها بشكل غير مسبوق لتبيين الثمن الذي تدفعه، وربما لإثبات أحقيتها على روسيا. ولكن الحقيقة هي أن إيران لن تتمكن وحدها من إنقاذ النظام من السقوط، وجاء التدخل الروسي ليقوم بذلك. ويبقى العائق الرئيسي مستقبلا هو تنسيق روسيا الكامل مع إسرائيل، وهذا ما لا يمكن لإيران أن تجاريها فيه، وكذلك قدرة روسيا على التوصل إلى تسويات مع أميركا.
وتحتاج معالجة دوافع التدخل ومستقبله إلى مقالة مطولة للإجابة عليه. وقد كتبت دراسة كاملة في محاولة للرد على هذا السؤال وغيره نشرت في مجلة سياسات عربية.
هل من أفق للمفاوضات مع النظام السوري، شبهت هذه المفاوضات بمفاوضات أوسلو بحيث قد تطول ١٨ سنة بدلا من ١٨ شهرا؟
لا أفق لها برأيي لأنها تدور بلا أساس متفق عليه، ولأن التدخل الروسي أدى إلى وضع لا يعكس توازن القوى الحقيقي بين القوى السورية على الأرض. فالمفاوضات تدور في ظل القصف الروسي للمعارضة السورية، وتدعيم روسيا النظام بقوة سلاح دولة عظمى في مقابل معارضة مسلحة تتعرض لحظر على تزويدها بأي سلاح ثقيل. لا يوجد أساس تفاوضي متفق عليه، وهناك تدخل دولي خارجي لصالح نظام لا يمكن أن يقبل به الشعب السوري، فكيف يمكن أن تنجح المفاوضات؟
النفاق الأوروبي
ما الدافع برأيك أن العديد من الدول الأوروبية أبدت ترحيبا باللاجئين، ما سر هذا الترحاب لدى بعض الدول؟
الحالة الإنسانية كانت ضاغطة، وقد عجز المجتمع الدولي عن فعل أي شيء لحماية الشعب السوري من القصف وجرائم الإبادة الجماعية والتهجير. ولا يمكن للدول الأوروبية إلا أن تدفع شيئا مقابل عجزها عن فعل شيء لحماية الشعب السوري، لأنها الملاذ الآمن الأقرب، ولا سيما أن قدرة الدول المحيطة بسورية على الاستيعاب استنزفت تماما. ومن ناحية أخرى، بعض الدول الأوروبية لديه حسابات متعلقة بشيخوخة السكان نتيجة لارتفاع معدل الأعمار وانخفاض نسب الولادة والحاجة لأيد عاملة شابة. وقد وصلتهم فئات ذات كفاءة من الطبقة الوسطى السورية التي لم تستطع الاحتمال أكثر، وبعضها يئس أيضا من انتظار الحل السياسي كلاجئ في دول الجوار.
ألا تعتقد أن الحكومات الغربية تتصرف بانتهازية تجاه ما يجري في سورية ومصر من قمع وقتل ومجازر؟ لا أعني بذلك دعوة لتدخلها بالوطن العربي، وإنما استعدادها على مفاوضة القاتل واستيعابه دوليا لدرجة التحالف معه في مواجهة الإرهاب؟
صحيح جدا. إنها تكيف مواقفها بحسب موازين القوى على الأرض. ولديها ثوابت تسعى لتأمينها. ولكن قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ليست منها. يكفي أن تنظر كيف يتعدل الموقف الأميركي حسب الظروف، في مصر وسورية واليمن.
تحدثت عن ازدواج معايير غربي بما يخص ضحايا الإرهاب؟
هذا موجود. فالغرب يعتبر مقتل عدد من المدنيين الأوروبيين هو الإرهاب الحقيقي الذي من أجله تعنون الحملات العسكرية بعنوان مكافحة الإرهاب، أما قتل آلاف المدنيين العرب أو الفلسطينيين أو المسلمين عموما، فلا يعتبر إرهابا إذا نفذه نظام بالطائرات وغيرها، وحتى إذا نفذته داعش، ففي هذه الحالة يعتبر إرهابا على سبيل التعاطف فقط، ولكنه لا يستنفر أحدا لفعل شيء لحماية المدنيين، ولا يستحق الجهد وإقامة الائتلافات الدولية. فهذه تقام بعد مقتل صحفي أميركي. وهو قتل مدان طبعا، أو بعد تفجير في باريس. والتفجير في باريس جريمة مدانة على كل حال.
مصر
بعد أسابيع قليلة تحل ذكرى ثورة يناير بعد عام يمكن وصفه بعام النكسات للسيسي، فشل المشاريع الاقتصادية، تدهور أمني غير مسبوق في سيناء، مشاركة شعبية متدنية في الانتخابات البرلمانية، كيف ترى الأوضاع في مصر عشية ذكرى الثورة؟
ترزح مصر تحت نظام طغمة عسكرية تدير نظاما فاشيا مغلقا يستخدم الديماغوغيا والشوفينية ونظريات المؤامرة. ويراهن هذا النظام على قدرة الشعب على الاحتمال نتيجة لخوفه من عدم الاستقرار، ولا سيما بعد مرحلة انتقالية مضطربة. أما تدني نسبة الاقتراع فهي دليل على أن الشعب يشعر أن هذه ليست انتخابات فعلية.
الانقلابات العسكرية تأخذ مداها، وقلما يصطدم الشعب غير المسلح مع الجيش، ولكن من الواضح أنه ليس بوسع هذا النظام تقديم حلول لمشكلات مصر الاقتصادية والسياسية، كما أن وتيرة القمع الأمني البوليسي فاقت ما كان سائدا في عهد مبارك. ولهذا فإن حدة التناقض مع النظام سوف تتفاقم مع الوقت، ولكن ليس بوسعي تقديم توقعات في هذا الشأن. ولكن من المؤكد أن التهريج الإعلامي والرهان على الجهل، وتعميقه بالتجهيل الذي تقوم به وسائل الإعلام، لن يحلا مشكلة النظام.
المؤشر العربي: كمثقف عربي وباحث أشرف على استطلاع رأي بمشاركة ٢٠ ألف مواطن، وكتب أهم المؤلفات عن الديمقراطية في العالم العربي، هل ترى بعد كل هذا الدمار أن الديمقراطية ممكنة عربيا؟ هل يؤمن المواطن العربي بذلك؟
نحن نقوم باستطلاع المؤشر العربي منذ أربع سنوات، في مقابلات وجاهية يستمر كل منها أربعين دقيقة مع مستجيبين من عينة ممثلة في الدول العربية التي يتاح فيها إجراء الاستطلاع. وقد تجمع لدينا رصيد معلومات كبير جدا، هو كنز للباحثين للدراسة والمقارنة. لم يقم أحد بمثل هذا الجهد الأكاديمي البحثي في السابق. ويشرف على مشروع المؤشر في المركز العربي للأبحاث الدكتور محمد المصري.
أنت ترى حولك الدمار في كل مكان بسبب طبيعة الأنظمة العربية وعدم قدرتها على الإصلاح ورد فعلها العنيف جدا على مطالب التغيير، وكذلك بسبب استخدام الأنظمة العربية للبنى الاجتماعية ما قبل الوطنية، مثل الجهوية والطائفية والقبلية، في تأسيس الولاءات للنظام. ومن هنا نجد أن الرغبة في الاستقرار هي الدافع السياسي الرئيس لدى المواطن كما تتجلي في هذا الاستطلاع أيضا.
الديمقراطية ممكنة عربيا طبعا، وقد عشنا بدايات التحول، كما عشنا الانقلاب عليه. وهذه مرحلة سوف تتلوها مراحل أخرى. ما أنا متيقن منه بعد استطلاع رأي متكرر 4 سنوات أن نسبة تتراوح بين 70-75% من المواطنين العرب يعتبرون النظام الديمقراطي هو الأفضل رغم نواقصه. والنخب السياسية العربية في الحكم وفي المعارضة لا تمثل هذه النسبة. والأمر الثاني الواضح بالنسبة لي أن أنظمة الاستبداد فشلت فشلا ذريعا ومدويا في كل شيء في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والقانون. وما هذا اللجوء للعنف الفائق إلا تعبيرا عن فشلها في اكتساب أي نوع من الشرعية.
أن تكون عربيا في أيامنا
في ظل الوضع العربي الراهن وتعثر الثورات أو الانتفاضات العربية، وتحالف يساريين وقوميين مع الاستبداد ضد حركات سياسية شرعية مثل الإخوان في مصر أو النهضة في تونس. ماذا تبقى من هذا التيار اليساري القومي، الذي كان التعويل عليه كبيرا؟ يبدو أنه سقط في الامتحان ساعة الجد؟ هل بالإمكان الحديث عن يسار وتيار قومي هذه الأيام بدون ديمقراطي؟
البعض سقط في الامتحان وليس الكل. وهذا لا ينطبق على جزء من القوميين واليساريين فحسب، بل أيضا على جزء من الإسلاميين الذين يقبلون بالديمقراطية تكتيكيا فقط. والسقوط هو في امتحان الديمقراطية. فقد حسبنا أن بعض الأخوة قد تغيروا خلال جلوسهم في المعارضة في العقود الأخيرة، ولكن تبين لنا أنهم تحدثوا في الديمقراطية كشعار فقط، وحين ثارت الشعوب وفرضتها، خانوها عند أول امتحان بالاستعانة بالعسكر ضد خصومهم، أو بالاستعانة بالاستبداد. وقد تبلورت لدي قناعة أنه لا يمكن اختصار الطريق والمهمات، وأننا بحاجة لجهد كبير على مستوى نشر القيم الديمقراطية. وقد أوضحت في عدة كتابات بدءا من بيان قومي ديمقراطي مرورا بالمسألة العربية وكتاب أن تكون عربيا في أيامنا، وجميعها كتبت قبل عام 2009 أنه لا يمكن أن تكون يساريا أو قوميا بدون أن تكون ديمقراطيا. فهذا شرط أساس لذلك. والمهمة صعبة فيجب أن تتقبل القوى السياسية الرئيسية كلها العيش مع الاختلافات وحسمها بتداول السلطة بشكل سلمي، والتوافق على ما لا يمكن حسمه، وكذلك قبول مبادئ أساسية منها الحريات المدنية والحقوق السياسية، بحيث لا يمس بها مهما تغيرت الأكثرية.
هذا التيار ومن حوله ما زال يتحدث عن أنظمة عربية تقدمية وأنظمة رجعية؟ هل من نظام عربي تقدمي؟ هل هذا التقسيم على صلة بالواقع؟
في البداية كان يمكن الحديث عن نظام غير ديمقراطي يقوم بمهام تحديثية، واعتبر البعض ذلك تقدميا، ولكن منذ نشوء ما يسمى التناقض بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي أصبحت الدول الحليفة للاتحاد السوفييتي تعتبر تقدمية حتى إذا كانت متخلفة ورجعية في كل شيء، واعتبرت الدول الحليفة للغرب رجعية حتى لو كانت دولا ديمقراطية. وقد زال هذا التمييز أيضا مع انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية. وأصبحت روسيا دولة رأسمالية احتكارية يحكمها حاليا تيار قومي يميني متطرف.
أما العودة لتصنيفات رجعي وتقدمي واعتبار النظام الفاشي تقدميا لمجرد أنه يقمع حركات إسلامية إضافة لقمعه الحريات المدنية والحقوق السياسية، فهي من عبث هذا الزمن ومن سخرية التاريخ. إن إطلاق وصف تقدمي على نظام فاشي هو تعمية عن طبيعة هذا النظام، وتغييب للعقل والأخلاق في الوقت ذاته. ثمة مشكلة أخلاقية هنا، وليس مجرد ارتباك في التسميات والتعريفات. ويزعجك أكثر حين تكتشف أن الدافع خلف الموقف هذا الذي يتستر بمثل تلك الألفاظ الفارغة من أي مضمون هو بحد ذاته دافع طائفي متخلف ورجعي.
تحدثت في مقابلة على قناة الجزيرة عن النخب العربية وأنانيتها وعدم وطنيتها؟
النخب العربية السياسية والاقتصادية بتياراتها المختلفة وقفت ضد تطلعات الشعوب وآمالها حين خانت قضية الديمقراطية والحقوق السياسية والحريات المدنية، وفضلت تقسيم الأوطان وخوض حروب أهلية وتدمير البلاد، على المساومة والتوصل إلى تسويات وحلول وسط فيما بينها. وهذه خيانة وطنية حقيقية.
نظرية المؤامرة في إسرائيل
تعرضت في الفترة الأخيرة لحملة في وسائل الإعلام الإسرائيلية التي اتهمتك بأنك تقف خلف التصعيد في القدس وفضح التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، ما دافع هذا التحريض؟ ما مصدره؟
يبدو لي أحيانا أني أظهر لهم في نومهم. إنهم يتهمون الآخرين بنظرية المؤامرة، مع أنها هي السائدة في الثقافة السياسية للمؤسسة الإسرائيلية وإعلامها. الوقوف خلف فضح التقسيم الزماني في الأقصى شرف لا أدعيه، وإن كنت قد بينت بعض الحقائق في الإعلام العربي. وهم يخشون المثقف العروبي الديمقراطي المؤثر في الرأي العام طبعا. وهذا يتجاوز حتى خشيتهم من الدور والمسؤوليات التي كنت أقوم بها في الداخل بنفس الخطاب، والذي كان وما زال خطابا عربيا ديمقراطيا لمثقف عربي يحمل قضايا وهموم شعبه وأمته.
لا أعرف كيف أعلق على حقيقة أن التحريض ضدي في إسرائيل ما زال مستمرا، وأصبحت أعتقد أن فيه جانبا نفسيا استحواذيا. يبدو أن بعض المرضى بالعنصرية لن يتخلصوا من كابوس عزمي بشارة.
هذا ربما طبيعي بالنسبة لكيان سياسي يراني كعدو. ولكن بالنسبة لبعض الأشخاص الذين يُروى من حين لآخر شذرات عما يكتبون، فيؤسفني أن أقول أني لا أقرأ مثل هذا الكلام، وأسمع به من حين لآخر، وأن هؤلاء لا يحظون بمثل هذا الاهتمام عندي. الذي يفكر بشخص آخر ليلا ونهارا هو شخص مسكين يحتاج إلى رعاية أو علاج، وقد يصدمه أن يعرف أن الشخص الآخر لا يفكر به، وربما نسي أسمه.
برأيك هل الوضع العربي الراهن مريح بالنسبة إليها، خصوصا في سورية ومصر، بمعنى أنها معنية بأن تنهك الأطراف كلها في سورية بقتال بعضها البعض، وفي مصر هي تقول إنها من أفضل الفترات بالنسبة لها؟
إسرائيل متحالفة مع الإدارة المصرية الحالية. هذا هو الوصف الصحيح لها. فإسرائيل هي اللوبي المؤثر في الدفاع عن السيسي في أميركا والغرب عموما. كما أنهما متفقان عل قضايا المنطقة الأمنية والسياسية، وثمة تنسيق كامل في القضايا كافة، ولا سيما في الناحية الأمنية.
أما بالنسبة لسورية فلا شك أن إسرائيل معنية ببقاء النظام الحالي ضعيفا، أو على الأقل استمرار الاقتتال في سورية.
الهبة الفلسطينية
كان العام ٢٠١٥ فلسطينيا عام كسر الوضع القائم ميدانيا من خلال العمليات الفردية في القدس والخليل تحديدا، وفي حالات معدودة داخل المدن الإسرائيلية وأيضا من خلال إرهاب المستوطنين وحرق عائلة الدوابشة. برأيك إلى أين يتجه العام المقبل سياسيا وميدانيا؟ هل من أفق سياسي أم أن الأوضاع الميدانية ستشهد مزيدا من التصعيد؟
أعتقد أن المواجهة في الضفة الغربية سوف تستمر على هذا المنوال لأن الاستكانة غير ممكنة من دون أفق سياسي، ومن دون وقف عنف المستوطنين، أما تطويرها إلى انتفاضة شاملة فأمر صعب بدون ان تنضم إليها السلطة الفلسطينية، وهي لن تنضم إليها بالطبع. ولذلك فإنها تقتصر على تعميم الوسائل التي رأيناها، ولا سيما في مناطق الاحتكاك مع إسرائيل والمستوطنين. وسبق أن طرحت هذا التقييم للوضع في بداية الأحداث الحالية وقد ثبتت صحته.
واضح للجميع أن الهبة الحالية تنقصها القيادة؟ وهل ستستمر بدون أفق سياسي؟
صحيح. هذه هبة شعبية بدون قيادة، على الرغم من تفاوت مواقف القيادات بشأنها. فمنها ما هو أكثر دعما وأكثر تحمسا، ومنها من هو أكثر تحفظا. ولو كان لها قيادة سياسية ومطالب سياسية مصاغة لاتخذت أشكالا أخرى أصلا. ومن الممكن أن تستمر الهبة لفترة من دون أفق سياسي لأنها أصلا تعبير عن الضيق بغياب الأفق السياسي، وبعدم وجود برنامج بديل بعد انسداد الافق أمام التفاوض وأمام المقاومة المسلحة.
ويبدو أن هذا العام كان أكثر ترسيخا لفصل الضفة عن القطاع سياسيا، خصوصا أن السلطة في رام الله ليس لديها ما تقدمه لغزة بسبب ضعفها سياسيا واقتصاديا؟
صحيح. خلال الحرب والحصار على غزة بدت الأخيرة وكأنها في قارة أخرى، وهذا لا يجوز يجب أن يبذل جهد فلسطيني حقيقي لرفع الحصار وإعادة البناء، وليس التأكيد على تفهم مواقف مصر. ليس المطلوب لوم الضحية لتسجيل نقاط في الخصومة السياسية القائمة. القيادة في رام الله وفي غزة تحتاجان بعضهما اكثر من أي وقت مضى، وفي الظرف العربي الراهن لن يجد الفلسطينيون سوى أن يشد بعضهم أزر بعض، ولن ينفعهم سوى وحدتهم، وإذا توحدوا سوف يضطر العرب أن يقبلوا بالصيغة التي يراها الفلسطينيون مناسبة، وسيجدون عالما أكثر تفهما من الماضي.
ماذا بالنسبة لغزة، اشتد الحصار المصري على القطاع، ويبدو أن حركة حماس التي تسيطر على القطاع إمكانيتها جدا محصورة وكذلك السلطة والعالم العربي منشغل بحروبه الداخلية؟
الحصار المصري على غزة جار لأسباب سياسية محض، إنه متعلق بتصفية الحساب مع التيار الإسلامي، ومع المقاومة عموما. ولهذا السبب يحاصر قطاع غزة كله في عقوبات جماعية قاسية لملايين البشر. المقاومة قادرة على الدفاع عن نفسها في مواجهة إسرائيل، أما في مقابل الحصار المصري فلا ينفع سوى الوحدة الفلسطينية والضغط العالمي، والمناورة السياسية ضرورية هنا. حتى إسرائيل باتت تخشى انفجارا موسميا في القطاع إذا استمر هذا الحصار الخانق عليه. وقيادة الجامعة العربية للأسف عاجزة وتتصرف كجزء من الخارجية المصرية، والدول العربية الحليفة لمصر لا يهمها تجويع القطاع.
فلسطينيو الداخل
ثلاثة أحداث هامة شهدتها الساحة السياسية لدى فلسطينيي الداخل، تشكيل القائمة المشتركة، حظر نشاط الحركة الإسلامية، وتصعيد في حملات الاعتقالات لنشطاء في ظل الهبة الشعبية، حتى بسبب تدوينات على شبكات التواصل.
أولا كيف تقيم تجربة القائمة المشتركة؟ وهل من تعويل عليها، بناء على ممارستها حتى اليوم، في تنظيم العرب في الداخل قوميا؟ أم هي مجرد جسم برلماني تنسيقي؟
كانت المشتركة مطلبا مبدئيا للحركة الوطنية، وقد تميز التجمع في طرح هذا المطلب منذ سنوات طويلة. وقد انطلق في ذلك من ضرورة تنظيم القوى السياسية العربية على أساس وطني. ولكن حين قامت المشتركة إنما قامت بناء على ضرورات متعلقة برفع نسبة الحسم. هكذا قام في الواقع جسم برلماني تنسيقي فقط. وكما هو متوقع فإن القوى التي كانت تعارض هذا الشكل لتنظيم العرب على أساس قومي ومواطني في آن استخدمت معارضتها هذه كأفضلية وذلك بوضع الشروط بخصوص نسبة تمثيلها لكي تقبل بالمشاركة في القائمة ملوحة بإمكانية خوض الانتخابات بقائمتين، في حين أن الذي يطالب مبدئيا بتشكيل قائمة كهذه والمندفع باتجاهها يصعب عليه وضع الشروط. هذا تناقض يفترض أن يسعى العمل السياسي للتغلب عليه.
على كل حال يجب العمل على المحافظة على هذا الإنجاز ومحاولة تطويره. ولكن القائمة المشتركة تُلزِم الحركة الوطنية، والتجمع تحديدا، بالتشديد على تميز طرحها السياسي الديمقراطي وشخصيتها الخاصة، ولا سيما أن دورها يزداد أهمية في مثل هذه الظروف التي يتزايد فيها التنافس الشخصي على حساب النقاش السياسي والفكري والاختلاف في النهج، والذي تظهر منه بوضوح نزعة الأسرلة، في مرحلة أصبح يتحكّم الإعلام الإسرائيلي في مواقف العرب وأذواقهم.
من المهم أيضا ان تعمل الحركة الوطنية في بناء المؤسسات والنشاط السياسي والاجتماعي على الأرض بحيث تتغلب باتساع قواعدها الاجتماعية، ولا سيما بين الشباب، على محاولات تهميشها خلال محاولات فرض أجواء الأسرلة والتأسرل.
هل تحولت “المشتركة” إلى مصيدة لتهميش الفوارق الحقيقية في الطروحات السياسية للأحزاب من جهة، ومن جهة ثانية مساحة لمعادلة متطرفين ومعتدلين، وعودة ما يسمى خطاب “العربي الإسرائيلي” الذي يتحدث عن التعايش السلمي والمساواة في دولة اليهود؟
هذا الخطر ملحوظ. ونحن نشهد محاولات لاستعادة نموذج 'العربي الإسرائيلي' الذي يقلد نموذج الأميركيين الأفارقة. وهذه مصلحة قوى صهيونية 'لبرالية' و'يسارية' (بين قوسين). فهذا يعني أن يتصرف العرب مثل الأفارقة الأميركيين، فيطالبون بالاندماج ويزيلون الحواجز النفسية مع الخدمة العسكرية والوطنية الإسرائيلية، ويحولون النكبة إلى مجرد سردية من ضمن سرديات أخرى، ويقبلون ايضا بالسردية الصهيونية بأن الاحتلال بدأ عام 1967، وهذا نفسه مسألة خاضعة للتسويات... إلخ. ولكن إسرائيل لم تصبح مثل أميركا ولا تتجه نحو ذلك، فنحن لا نريد أن نكون مثل الأميركيين الأفارقة، ولكن إسرائيل تصبح أكثر فاكثر مثل جنوب أفريقيا، نحن نخسر الشخصية الوطنية وننقسم طائفيا وغيره، وإسرائيل تصبح أكثر يهودية وأقل مواطنية... من المهم الجمع بين الخطاب الديمقراطي المواطني ذي المصداقية في إسرائيل وخارجها، والهوية الوطنية العربية الفلسطينية، وإلا فسوف نخسر الأمرين. هذا الخطاب يجب أن يكون بوصلة الحركة الوطنية داخل المشتركة وخارجها.
بخصوص حظر الحركة الإسلامية، كيف ترى هذا التصعيد من قبل الحكومة الإسرائيلية؟ وهل برأيك ستكتفي عند هذا الحد أم أن التجمع الوطني الديمقراطي الذي قدته لسنوات طويلة في خطر مشابه؟
الخطوة التي تخذت ضد الحركة الإسلامية خطيرة وذات شأن، وقد عبرت عن تضامني مع الحركة الإسلامية. خطورة هذه الخطوة في أمرين: أولهما تبيّن هشاشة الديمقراطية الاسرائيلية التي لا يجوز أن نعتمد كثيرا على هوامشها التي تتيحها. وقد أثبتت تجربتي الشخصية الطويلة، ذلك. وارجو أن ينتبه الجميع لهذا؛ والثاني هو محدودية قدرات المجتمع العربي في الداخل على المواجهة في ظروف الاعتماد الكامل على الاقتصاد والمؤسسات الاسرائيلية السياسية والإعلامية وغيرها. لقد تلخص دور الحركة الوطنية في محاولة تحدي تأثير هذه التبعية على شخصية المواطن العربي وثقافته ومواقفه. وهذا جهد يفترض أن يكون مستمرا ومتواصلا.
كيف، برأيك، على الحركة الإسلامية التصرف لمواجهة الحملة عليها؟ بانفتاح على التيارات الأخرى خصوصا وأن أحد قادتها يتحدث عن دولة خلافة ويقدم خطابا اجتماعيا إقصائيا لا يقبل الآخر على الإطلاق؟ أم عليها تغيير قواعد اللعبة إن كان لها خيارات كهذه؟
المفترض برأيي تبني خطاب تحالفي أكثر انفتاحا على القوى الأخرى، وأن يكون ديمقراطيا فعلا، بحيث يقرن المطالب الديمقراطية بخطاب كهذا. ولكن هذه قضيتهم وخياراتهم، ولن أتدخل فيها، فهم أصحاب القرار بشأنها، وهو يستنتجون النتائج من تجربتهم. التضامن يجب أن لا يكون مشروطا. وعندما أتحدث عن تطوير الخطاب اجتماعيا وسياسيا إنما أتكلم عن ضرورات العصر ومتطلباته، وكذلك ظروف المرحلة التي نعيشها، وليس عن شروط.
مستقبل التجمع وأولوياته
بخصوص التجمع، من المفترض أن يعقد مؤتمره السابع خلال العام المقبل، ويبدو اليوم أن “عوده اصلب” بعد عشرين عاما من تأسيسه، لكن فيه نقاشات جدية، خصوصا حول الموقف مما يحصل حولنا بالدول العربية، وتحديدا في سورية، وكأن من المفترض أن يكون ضمن محور من محاور متخيلة -شر وخير-. برأيك ما هو الموقف السليم؟ وما يجب أن تكون أولوياته في المرحلة المقبلة؟
تعقد المؤتمرات لتوحيد الصفوف ووضع الإستراتيجيات والانطلاق بالاتجاه الذي يضع المؤتمر خطوطه العامة. من المهم أن يخطط التجمع لانتقال سلس وتدريجي للقيادة إلى جيل شاب. وفيه جيل شاب موهوب جدا وروحه نضالية. ولكن يجب أن يكون الانتقال تدريجيا وبوجود أولئك من القيادات المؤسسة الذين يمكنهم العطاء والعمل تنظيميا في الظروف الجديدة، ويمكنهم فهم متطلبات الظروف الجديدة.
لم أطلب من التجمع موقفا موحدا حول ما يجري في سورية في ظروف الداخل. ولكن لا يمكنني أن أتخيل تجمعيا ديمقراطيا يدافع عن الاستبداد وقتل المدنيين ويتجاهل معاناة الناس، مثلما لا يمكنني أن أتخيل تجمعيا عروبيا ديمقراطيا يمكنه أن يدافع عن داعش.
أولويات التجمع برأيي تتلخص ببلورة خطاب ديمقراطي متماسك ذي مصداقية في الصراع مع السياسة الصهيونية (أتحدث عن الخطاب الديمقراطي كفكر مميز للتجمع وليس كتكتيك يصح في إسرائيل فقط) والحفاظ في الوقت ذاته على الهوية الوطنية العربية الفلسطينية، وتطوير مؤسسات ثقافية واقتصادية واجتماعية حديثة تشكل ركيزة لهذه الهوية. وأعتقد أن المجتمع العربي في الداخل بحاجة إلى التجمع ودوره وخطابه كما كان بحاجة إليه عند التأسيس، ولا سيما في حالة الضياع بعد توقيع أوسلو. وأعتقد أننا على أبواب مرحلة جديدة من هذا النوع، وثمة حاجة ماسة أن يدرك التجمع دوره فيها.
مشاريع مستقبلية
هل من إصدارات جديدة لك هذه الفترة؟ وما مشاريع الفكرية للعام المقبل؟
أرسلت مؤخرا مخطوطة أعمل عليها منذ ثلاث أعوام بالتوازي مع أمور أخرى. وهي عبارة عن كتاب تأريخي وتحليلي نظري من جزئين بعنوان 'ثورة مصر'. يغطي الجزء الأول الفترة حتى ثورة يناير مع خلفية تاريخية تشمل ثورة 1952 وما بعدها. والجزء الثاني يتناول الفترة الواقعة منذ تنحي مبارك 11 فبراير 2011 وحتى 3 يوليو 2013 يوم وقوع الانقلاب العسكري. وأعمل حاليا على كتاب نظري حول الطائفية كمفهوم وكظاهرة اجتماعية سياسية، وبعد أن أنجزه سوف أعود لمتابعة الأجزاء الأخرى من كتابي 'الدين والعلمانية في سياق تاريخي'، والذي توقف عملي عليه مؤقتا، لمدة عام كامل، وذلك لإنجاز أعمال أخرى. وسوف أتناول فيها نهايات الدولة العثمانية ونشوء الدولة العربية، والدين والدولة في الوطن العربي. وبالتوازي لدي مشاريع أخرى لا أرغب بالتطرق إليها الآن. سبق أن بدأت بتطوير لكتيب أصدرته عن الدين والعنف انطلاقا من مناقشة محاضرة للبابا. وتوقفت عن العمل عليه بسبب انشغالي في كتبي الأخرى. كما بدأت بكتابة كتاب تاريخ فلسطين للشباب سوف أعود إليه لاحقا. بالمجمل يمكنك القول إني مشغول جدا. لا تنسى أننا في العام الماضي افتتحنا معهدا للدراسات العليا، كما بدأ المعجم التاريخي للغة العربية بالعمل والإنتاج، وهذه مشاريع استهلكت الكثير من الوقت والجهد مني في الأعوام الأربعة الماضية.
هل لديك مشاريع أدبية أم أنك منهمك بالتأليف الفكري؟
لا مشاريع أدبية راهنا، ولا أدري متى يمكنني العودة للكتابة الأدبية (هذا إذا عدت) في لجة الانهماك في الإنتاج الفكري من دون التخلي عن التفاعل المثقَّف (من موقعي) مع الراهن العربي والفلسطيني. إضافة إلى ذلك فإن العمل في بناء المؤسسات لا يساعد بشكل خاص على الإنتاج الأدبي.
من يقابلك شخصيا يلمس لديك “التفاؤل الصلب” رغم متابعتك الدائمة لما يحدث بالعالم العربي من دمار وقتل وثورة مضادة؟ ما مصدر هذا التفاؤل؟
إنه تفاؤل الإرادة. أنا أكتب بالعربية مدركا أن كتابتي تؤثر على بشر لديهم إرادة. أكتب بمنهج علمي، أو عقلاني على الأقل في التعامل مع حقائق ووقائع. فالتفاؤل هنا ليس تخريفا وتمنيا. التحليل العلمي يفتح المجال لإمكانيات، والموقف المعياري القيمي يشير إلى أن المستقبل الأفضل هو أحد هذه الإمكانيات، إذا توفرت الإرادة. الحديث هو عن إمكانيات قائمة فعلا بموجب التحليل العقلاني، وليس محض تمنيات. هذا هو الفرق. فأنا لا أؤمن بحتمية انتصار الخير، أو انتصار المظلومين، ولا أؤمن أن الحرية والمساواة حتميان. إمكانية الفشل واردة، ولكن احتمال تحقيق إنجازات وارد أيضا، الأمر متعلق بقدرتنا على التعامل مع هذا الاحتمال القائم كإمكانية فقط، والذي يمكن تحويله إلى واقع.
موقع عرب 48