صقر أبو فخر
لا يكتب عزمي بشارة في صومعة راهب أو في محبس صوفي؛ فجميع كتاباته مشتبكة بالواقع وبالوقائع الجارية. وليس عزمي بشارة مجرد باحث محايد وبارد، فهو مجبول بالتطلّع إلى غايات إنسانية سامية، وأوّلها الحرية التي هي غايته الأساس وهي الطريدة الدائمة للنظم السياسية في بلادنا العربية. والحرية لديه هي حرية شعبه في فلسطين وحرية المواطن العربي في الوقت نفسه.
وكتابه الجديد ‘سورية: درب الآلام نحو الحرية’ (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة بيروت 2013) يأتي في أوانه تمامًا. فسورية باتت في المخاض الأخير: إما أن تسير نحو الحرية، أو تصبح دولة فاشلة حيث يغمر الاحتراب الأهلي حياتها اليومية. وقد كتب عزمي بشارة هذا الكتاب بحب لافت للشعب السوري وإعجاب عام ببطولاته وتضحياته، وقد أراده ليس تأريخًا لسنتين كاملتين من عمر الاحتجاجات السورية فحسب (من 15/3/2011 حتى 15/3/2013)، بل تحليلًا للثورة وتحوّلاتها أيضًا؛ هذه الثورة التي ستكون لها آثار عميقة جدًا، لا في تاريخ سورية الحديث وحده، بل في تاريخ المشرق العربي كله أيضًا. وفي هاتين السنتين ظهرت بوضوح الأسباب العميقة لانفجار حركة الاحتجاجات في سورية، وتفاعلت في أثنائها جميع العناصر الأساسية المحرّكة للاحتجاجات، اجتماعية أكانت أم سياسية أم طائفية أم قبلية، ثم انفرجت عن المشهد الدامي لسورية اليوم، وعن درب الآلام الطويل نحو الحرية. وهذا الكتاب هو أشمل وأعمق كتاب ظهر حتى الآن عن الثورة السورية، فهو يجمع التوثيق الدقيق إلى التحليل الثاقب، ويدمج في إطار ذلك كلّه السوسيولوجيا والاقتصاد والسياسة والاستراتيجيات والعلاقات الدولية والمصالح الكبرى في سياق تاريخي مترابط، مستخدمًا منهج التحليل الاجتماعي التاريخي. وبهذا المعنى فإن الكاتب لا ينشر أي معلومة ما لم يكن متأكدًا من دقّتها، ولا يُفسّر أي واقعة ما لم يكن محيطًا بجذورها وأصولها وأبعادها. لذلك جاء هذا الكتاب ليسدّ فراغًا معرفيًا وتأريخيًا من حيث تميّزه من غيره مما كُتب عن الثورة السورية، ومن حيث فرادته في التعليل والتحليل والتفسير والاستنباط والاستنتاج، وهي أدوات منهجية قلّما تتوافر دائمًا حتى للباحثين المرموقين، لكنّها اجتمعت كلّها معًا في هذا الكتاب ليأتي على هذا النحو من البحث المعمّق والجاد والحيوي.
يؤرّخ عزمي بشارة لهذه الثورة في مرحلتيها المدنية السلمية والمسلّحة، ثم يرصد مظاهر السياسة التي اتّبعها النظام السوري كالقمع والعنف الدامي والمتمادي، الأمر الذي أدّى إلى توليد أنماط من العنف لم تكن مألوفة في سورية قط، ثم يدحض بالتفصيل المقولة الشائعة عن أن الثورة السورية هي ثورة أرياف مهمّشة، ويبرهن أن هذه الثورة بدأت أوّلًا في المراكز المدينية للأطراف، ثم امتدّت لاحقًا إلى الأرياف. ولعل قراءته اللافتة للقاعدة الاجتماعية التي استند إليها حزب البعث في طور صعوده ثم في طور هبوطه هي من أعمق القراءات في هذا الحقل المعرفي؛ فقد تناول عملية الترييف وآثارها وما نتج عنها من لبرلة اقتصادية، ما أدى إلى تهميش فئات واسعة من السّوريين، وإلى صعود فئة ‘الذئاب الشابّة’ التي منحت نظام ‘التشبيح والتشليح’ الصورة التي استقر عليها، إلى أن انقلبت القاعدة الاجتماعية للبعث على البعث نفسه جراء ذلك.
يقول عزمي بشارة في هذا الكتاب: ‘كان على النظام السوري أن يتغيّر أو أن يغيّره الشعب. واختار النظام ألا يتغيّر، لذلك قرر الشعب تغييره’. وأكثر ما يخشاه الكاتب هو أن تنتهي الأمور إلى تسوية طائفية تحفظ لجميع الطوائف حصصها السياسية من دون أن يتغيّر النظام. لذلك يدعو إلى تأسيس سورية جديدة على أساس المواطنة المتساوية للجميع، والديمقراطية كنظام سياسي للدولة. إنّها تسوية تتضمّن رحيل النظام وبقاء الدولة، لأن من دون هذه التسوية ستتحول الثورة إلى قتال طائفي وإثني (وهو ما يحصل بالفعل في سورية اليوم)، وتتحول سورية إلى دولة فاشلة حتى مع هزيمة النظام.
أسباب الاحتجاجات
يرصد عزمي بشارة خمسة أسباب لاندلاع حركة الاحتجاجات في سورية هي:
السياسات الاقتصادية ونتائجها الكارثية منذ أن جرى التحوّل من الاقتصاد المخطّط إلى اقتصاد السوق، الأمر الذي أدى إلى رفع نسبة البطالة إلى 34 ‘ من قوة العمل، وإلى رفع الدعم عن مشتقات النفط بذريعة خفض عجز الموازنة، وهو ما ساهم في إفقار قطاعات واسعة من الشعب.
الاتّفاقات الاقتصادية مع تركيا التي أدّت إلى إفلاس كثير من المعامل والورش والحرف، علاوة على تدفّق السلع الصينية الرخيصة التي فاقمت من الأضرار التي لحقت بالبضائع السورية.
استملاك الأراضي في المعضمية وبساتين كفرسوسة والمزة وداريا وحمص بذرائع أمنية، ثم إعادة بيعها لمصلحة أرباب النظام.
الجفاف الذي ضرب سورية طوال ثلاث سنوات (2006-2009) وأدّى إلى هجرة الفلاحين إلى المدن السورية، ولا سيما حلب ودمشق، وإلى تراجع إنتاج القمح والقطن والشعير، علاوة على تناقص الثورة الحيوانية.
هذه هي الأسباب المباشرة للاحتجاجات التي اندلعت في 18/3/2011. لكن، ثمة أسباب أخرى تعود إلى أبعد من ذلك، وهي تضخّم المدن وفشل خطط التنمية؛ فقد كان سكّان الأرياف في سورية في بداية عهد الاستقلال (1946) نحو 70 ‘ من المجموع العام، بينما عدد سكان المدن 30 ‘. وفي مطلع الألفية الثالثة صار سكان المدن 70 ‘ من العدد الكلي لسكان سورية، بينما بلغ عدد سكان الأرياف 30 ‘ فقط. وهذا دليل على خلل كبير في التوزع الديمغرافي أدّى إلى خلل اجتماعي خطير واختلالات اقتصادية ذات شأن. وعلى سبيل المثال، فقد كانت دمشق تعُدُّ نحو 400 ألف نسمة في خمسينيات القرن العشرين، وصارت نحو خمسة ملايين في نهايات القرن نفسه. أي أنّها تضاعفت أكثر من 12 مرّة خلال نصف قرن فقط. وجاءت هذه الزيادة لا من المعدّل الطبيعي للولادات، بل من أبناء الأرياف المهاجرين إليها طلبًا للعلم في جامعتها أو للعمل في مصانعها ومؤسّساتها، أو للانخراط في الجيش والأجهزة الأمنية. ومع أن مدينة دمشق تمكّنت، جزئيًا، من تحويل الوافدين إليها إلى شبه مدينيين من خلال العمل والسكن والتعليم والتزاوج، إلا أنّها لم تتمكن من دمج الجميع في سياق مديني واحد، فظلّت الانتماءات المناطقية، واستطرادًا الطائفية والعشائرية، موجودة حتى في أماكن سكن الوافدين. ومع أن هذه الحال ليست مقصورة على سورية وحدها، فهي ظاهرة موجودة في عواصم العالم الثالث كلّه، إلا أن سورية تميّزت، على نحو ما، بنظام قائم على الفساد (ص 12)، أي تحالف أجهزة الأمن ورجال الأعمال والمستثمرين الجدد. والمستثمرون الجدد هؤلاء ليسوا أبناء البرجوازية السورية التقليدية ذات الأعراف التجارية العريقة والتي غادرت سورية إلى لبنان ثم إلى أوروبا منذ سنة 1957 فصاعدًا، بل هم أبناء الضباط وبقايا تجار المدن المتربحين من الصفقات المريبة مع السّلطة وأجهزتها الفاسدة. وهذه الأجهزة كانت تقوم بجباية مالية غير قانونية، وظهرت في هذا الميدان شبكات التهريب التي عملت تحت سلطة أجهزة الأمن، ومارست الرشوة والتهرّب الضريبي واغتصاب الأملاك العامة. وهذه الشبكات جلبت معها سلوك العنف من خارج نطاق الدولة تحت ستار الحماية الشخصية، وهي التي مهّدت لظهور شبكات ‘الشبّيحة’ التي تعتاش على استغلال السلطة بالحصول على الرشى والمنافع. فسورية ليست دولة ريعية لتنفق على شعبها وتجبي منهم الولاء كالسعودية والعراق والكويت، بل دولة قطاع عام تعيش على الجباية من الشعب. وتأمين الوظائف في القطاع العام هو إحدى وسائل النظام للسيطرة واستجلاب الولاء من الفئات المحدودة الدخل، أما منح رخص الاستيراد والتسهيلات الاستثمارية والائتمانية فهي الوسيلة لجلب الولاء من أبناء التجار والمتمولين، ويتكفّل العنف بجلب الطاعة من بقية الفئات. وقد كان العنف موجودًا دائمًا في سورية مثلها في هذا الشأن مثل جميع المجتمعات، لكنّه لم يكن يشكّل ظاهرة على الإطلاق، ومعظم الانقلابات العسكرية التي وقعت في سورية كانت غير عنيفة. أمّا العنف الذي تخلل بعض الانقلابات فقد كان موجّهًا إلى أشخاص محدّدين، وبدوافع الانتقام السياسي أو الثأر مثل إعدام حسني الزعيم المسؤول عن تسليم أنطون سعادة إلى السلطات اللبنانية في سنة 1949 التي أعدمته على الفور. وكانت القاعدة في الانقلابات العسكرية السورية أن المهزوم يذهب إلى بيته ويتقاعد، أو يعيّن سفيرًا في الخارج، أما المنتصر فيتولّى السلطة. وهذه القاعدة انقلبت تمامًا بعد انقلاب 8 آذار/مارس 1963 حين قام العقيد جاسم علوان (ناصري) بانقلاب فاشل في 17 تموز/يوليو 1963 وقتل مجموعة من الضبّاط البعثيين، فاقتص البعثيون من الناصريين وفتكوا بهم. ومع ذلك ظل العنف في سورية قليلًا جدًا قياسًا على العنف الإرهابي اللاحق الذي مارسه الإخوان المسلمون ضد النظام، فرد النظام بعنف أقسى.
الاستقطاب الطائفي
اندلعت الثورة السورية إذًا، وصار ما قبلها تاريخًا وما بعدها تاريخًا آخر. واتّخذت الثورة لنفسها، بمحركاتها الذاتية، مسارًا خاصًا. يقول عزمي بشارة في هذا المجال: إن الشعب السوري كان ينفر من النموذجين العراقي واللبناني لأنّهما يمثّلان صراعًا أهليًا مقيتًا. ولم يتأثر بثورات أوروبا الشرقية على الرغم من تشابه بنية النظام في سورية وبنى الأنظمة في أوروبا الشرقية، لكنّه تأثر فورًا بالثورتين المصرية والتونسية، لأن هناك ما هو مشترك بينهما، فهم عرب. والثورة السورية، بهذا الوصف، هي امتداد للحال الثورية العربية، وللثورة التي انطلقت من تونس وفتحت عهدًا جديدًا خرجت فيه الشعوب العربية إلى المجال العام بصفة كون هذه الشعوب مواطنين لديهم مطالب ضد الفساد والاستبداد، ويجاهرون بتطلّعهم إلى التغيير والتحول الديمقراطي (ص 24). لكن النظام السوري استفاد من النموذج الجزائري الذي حوّل الصراع الأهلي إلى حرب ضد الإسلاميين وخرج سالمًا بعد استخدام القوة من دون رادع (ص 234). وأنا أعتقد أن النظام السوري استفاد من النموذجين الإيراني والروسي أيضًا حين قُمعت المعارضة بالقوة النارية وأُجهض تحرّكها السياسي وبقي النظام على رأس السلطة. ويلاحظ عزمي بشارة أن الفارق بين النموذج السوري والنموذج الجزائري هو أن الجزائر لم تشهد ثورة بل احترابًا أهليًا، بينما شهدت سورية ثورة مدنية انضمّ إليها لاحقًا تكفيريون من مشارب شتى. ومهما يكن الأمر، فإن الثورة السورية تحوّلت، بالتدريج، إلى نوع من الاحتراب الأهلي، وهو ما كان عزمي بشارة حذر منه مبكّرًا حين قال: ‘إن مطالب الناس في سورية عادلة ومشروعة، لكن، ربّما يجري تسييس الهويّات الأمر الذي يشكّل خطرًا كبيرًا على سورية ولا يقود إلى الديمقراطية، وإنّما إلى الاحتراب الأهلي. فالغاية هي أن تحكم أكثرية ديمقراطية مدنية بموجب القواعد الدستورية، وليس مسموحًا أن تحكم أكثرية طائفية أو أقلية طائفية في البلاد’.
يرفض عزمي بشارة الكلام الجاري على أن الثورة السورية هي ثورة السُنّة ضد العلويين (ص 317)، ويرفض أيضًا اتّهام العلويين كلّهم بأنّهم جنود النظام. ويفصح بجلاء تام عن أن ‘الشبّيحة’ هم من جميع الطوائف والإثنيات. ففي حلب مثلًا تولّت العشائر قمع التظاهرات، وكذلك فعلت عشائر دير الزور والرقة. وفي مناطق الأكراد مثل عفرين وعين العرب والحسكة والقامشلي تولّى محازبو حزب الاتّحاد الديمقراطي قمع التظاهرات الكردية. ولم يقتصر الشبيحة على السوريين وحدهم، بل شارك فلسطينيون فيها (ص 267)، ذلك لأن معايير تجنيد الشبيجة لا تنحصر في الخلفية الطائفية، وإنّما في درجة الولاء للنظام. لكن اللافت أن كثيرًا من الذين أطلقهم النظام من السجون كي يتمكّن من تجنيدهم في ‘اللجان الشعبية’، وهي الاسم الرسمي للشبيجة، تحوّلوا ضد النظام، وحملوا السلاح ضد الجيش السوري وارتكبوا أعمالًا إجرامية باسم الثورة (ص 268). ولاحظ الكاتب أن حافظ الأسد قام بصهر الطائفة العلوية في جهاز الدولة إلى درجة أن هذه الطائفة تذرّرت كجماعة، وتحوّل أفرادها إلى الاعتماد الكلي على هذا الجهاز (ص 39). وفي هذا النطاق دحض المؤلّف الخطاب الطائفي الذي يبدأ بالتحريض على الطوائف الأخرى انطلاقًا من مظلومية أهل السُنّة، ويُقسّم المجتمع على أساس طائفي، ثم يحدّد مَن هي الأكثرية الطائفية التي هي الطائفة الديمقراطية (ص 320)، ورأى أن الاستقطاب الطائفي هو ‘وعي شعبوي’ في المناطق المهمّشة والمختلطة، وأنّ التديّن الاحتجاجي إنّما هو وعي مقلوب. وانتقد تصريحات يوسف القرضاوي في ‘قناة الجزيرة’، ومواقف عدنان العرعور في قناتي ‘صفا’ و ‘وصال’ اللتين تبثّان من المملكة السعودية، وآراء مأمون الحمصي الذي راح يهدّد العلويين بالقتل والإبادة (ص 319).
التسلّح والعسكرة: ‘شبّيحة وذبّيحة’
خلافًا لما هو شائع، فإن الكتاب يكشف أن بوادر التسلح لدى المعارضة السورية بدأت تظهر منذ الأسابيع الأولى للثورة وليس بعد شهور حيث دار الكلام على أن التسلّح لم يظهر إلّا بعد ستّة أشهر من اندلاع الاحتجاجات (ص 9). وقد ظهر التسلّح، أول مرّة، غداة اقتحام الجامع العمري في درعا في 23/3/2011 حين ضهر بعض الشبّان وهو يحملون السلاح. وفي نيسان/أبريل 2011 بدأت عمليات تهريب السلاح من لبنان إلى حمص (ص 192)، وقام محمد علي بياسي، وهو من أنصار عبد الحليم خدام، بتأمين شحنة سلاح إلى بانياس بلغت 20 كلاشينكوفًا ورشّاشين و6 بنادق بومباكشن وقاذفي آر بي جي. ويمكن التأريخ لبداية الظاهرة المسلّحة في الهجوم على المراكز الأمنية في جسر الشغور في مطلع حزيران/يونيو 2011 الذي قتلت المعارضة في أثنائه 120 جنديًا سوريًا. وأعقب ذلك في 9/6/2011 إعلان المقدّم حسين هرموش تشكيل لواء الضباط الأحرار. وفي 29/7/2011 أعلن العقيد رياض الأسعد تأسيس الجيش السوري الحر. ومع ذلك ظل التسلّح بسيطًا ودفاعيًا. لكن الانتقال الفعلي إلى العمل المسلح لم يبدأ إلّا مع مطلع سنة 2012، وبالتحديد في منتصف كانون الثاني/يناير 2012 عندما تمكّن أهالي الزبداني من التصدّي للجيش النظامي، ومنعوه من اقتحام المدينة، وأرغموه على توقيع اتّفاق يتضمّن إلزام هذا الجيش عدم دخول المدينة (ص 199).
يرفض عزمي بشارة في هذا الكتاب الذريعة القائلة إن التسلّح كان يهدف إلى حماية المتظاهرين السلميين، لأن السلاح، بحسب رأيه، لا يحمي التظاهرة السلمية من إطلاق النار عليها، بل يزيد الحدّة والقسوة، ويحوّل التظاهرة السّلمية إلى تظاهرة مسلّحة (ص 198). وقد كان للتسلّح آثار سلبية جدًا؛ فالمعارضة السورية حين نضجت للعمل الجماعي، كان قد جرى تهميشها بأسلحة العمل العسكري في الداخل، وأصبحت أوساط واسعة منها أسيرة التشاور مع الدول الداعمة لها (ص 404). وفي هذا السياق يدين الكاتب قيام مجموعات من المعارضة بعمليات ‘سلبطة وتشليح وخطف’ للحصول على الأموال بحجة شراء السلاح أو دعم الجماعات المسلّحة، وإرغام التجار على التبرّع بالمال كما حصل في حلب ودمشق حيث تقيم شريحة كبيرة من البرجوازية السورية، أو كما وقع في مدينة مسكنة في ريف حلب (ص 371). ويضيف: أصبح للثورة ‘شبّيحة’ يعتدون على الناس وعلى من يخالفهم الرأي، ولهم أيضًا شبيحة إعلاميون يستخدمون الخطاب الطائفي والشعبوي لتخوين بعض شخصيات المعارضة. وظهر هؤلاء الشبيحة في البرامج الإعلامية، وقاموا بضرب خصومهم وشتمهم بطريقة رثّة ورديئة لا تختلف عن طريقة شبيحة النظام الإعلاميين (ص 270). وقد اشتهر في أعمال السرقة في حلب ‘حركة غرباء الشام’ وقائدها حسن جزرة، وكذلك الجيش السوري الحر نفسه (ص 210). لذلك كان إقدام المسلّحين على إرغام الصناعيين والتجّار على دفع الأموال لحماية مصانعهم، وعلى الخطف للحصول على الفدية، وسرقة السيارات واغتيال الأثرياء وأبنائهم، ظواهر دفعت الجميع إلى التمسّك بالاستقرار (ص 206)، ما جعل هؤلاء يظهرون كأنّهم أقرب في مواقفهم السياسية إلى النظام.
نقد التضليل
يدين الكاتب العمليات التفجيرية والإعدامات التي قامت بها الجماعات التكفيرية، ولا سيّما ‘جبهة النصرة’، ويقول إنّ العنف الجهادي الذي مارسته جبهة النصرة كان من أبرز المخاطر التي هدّدت الثورة كحراك سلمي مدني (ص 350). فمع إطالة أمد الثورة ظهرت المجموعات الجنائية المسلّحة والعناصر الجهادية السلفية، ووقعت، في هذا السياق، مذابح وجرائم الكراهية على خلفية طائفية، الأمر الذي زاد حدّة الاستقطاب في المجتمع السوري، وجعل الثورة تسير على حافة التحول إلى حرب أهلية. ويقول عزمي بشارة إن العناصر الجهادية لا تشارك الثورة أهدافها التي انطلقت من أجلها، فهي لها رؤيتها الخاصّة، أي إقامة دولة الإسلام بحسب الشريعة. لكنّه يلاحظ ‘أن أي منطقة تحرّرت (من النظام) تحرّرت من سكّانها أيضًا’ (ص 205)، و ‘أدّى تمركز مجموعات الجيش الحر في المدن (…) إلى حالات نزوح خوفًا من الآتي’.
في هذا المقام بادر عزمي بشارة إلى كشف الحقائق ودحض الأباطيل فسخر من ‘شهود العيان’ الذين كانوا يتكلّمون من باريس على حوادث كانت تجري في دمشق مثلًا (ص 14)، ومن بعض الضباط الذين كانوا يتحدّثون إلى وسائل الإعلام من اسطنبول عن أمور سمعوا بها من وسائل الإعلام نفسها (ص 197). وانتقد إعلام المعارضة لأنّه ضلل الجمهور في شأن معارك حاسمة، وهزئ من بعض المعارضين والقادة العسكريين في اسطنبول الذين كانوا يصدرون بيانات من دون أن يكون لهم أي اتّصال بالواقع على الأرض (ص 176). وفي الميدان نفسه فنّد الكتاب اتّهام المعارضة للنظام بقتل 120 من جنود الجيش النظامي في جسر الشغور (ص 195)، وقال إن مثل هذه الاتّهامات التي تكرّرت أوقع الإعلام المعارض في خطيئتين: التضليل وفقدان الصدقية. وكانت المعارضة اتّهمت النظام السوري بإعدام 120 جنديًا في جسر الشغور لأنّهم كانوا على وشك الانشقاق، وتبيّن أن المعارضة هي التي أعدمتهم في هجومها على المراكز الأمنية في تلك المنطقة (ص 440). ولمزيد من كشف الحقائق ذكر الكاتب أن المعارضة اتّهمت النظام السوري بقتل الصحافي الفرنسي جيل جاكيه في 11/1/2012، وحقيقة الأمر أن مسلّحي المعارضة أطلقوا قذائف آر بي جي على مسيرة مؤيّدة للنظام فقُتل جاكيه الذي كان يتابع هذه المسيرة (ص 441). واتّهمت المعارضة النظام السوري بقتل رئيس قسم جراحة الصدر في المستشفى الوطني في حمص الدكتور حسن عيد في 24/8/2011، واغتيال العميد الركن نائل الدخيل نائب مدير كلّية الكيمياء العسكرية في حمص، واغتيال محمد علي عقيل نائب عميد كلية هندسة العمارة في جامعة حمص، واغتيال المهندس النووي أوس عبدالكريم خليل في حمص أيضًا، وتبيّن أن المعارضة هي من قتلتهم جميعًا (ص 440).
فصل المقال: لا بد من تسوية
حلّل عزمي بشارة في كتابه هذا مواقف الأطراف الفاعلين في المشهد السوري كالولايات المتحدة الأميركية وروسيا وتركيا وإيران والسعودية وقطر وإسرائيل. ولاحظ أن الثورة السورية اندلعت حين كانت العزلة الدولية قد فُكّت عن النظام بعد اغتيال رفيق الحريري في لبنان في سنة 2005، بينما لم تندلع في فترة كان النظام فيها ضعيفًا ومعزولًا (ص 23). وكشف الكتاب أن تركيا وقطر كان لهما شأن مهم في معركة الرقة من حيث المساهمة في التنسيق بين مقاتلي المعارضة وإمدادهم بالأسلحة، الأمر الذي أدى إلى إنهاء معركة الرقة بسرعة، أي في غضون ثلاثة أيام (ص 222). ولفت الكاتب إلى أن السعودية وقفت إلى جانب الثورة السورية لا بسبب موقفها من الاستبداد، بل جراء صراعات سياسية داخلية واستراتيجية تتعلق بالعراق وإيران اللتين تحكّمهما جماعات ذات طابع طائفي شيعي (ص 353).
يقول عزمي بشارة: كان من المفضّل أن يجري التغيير في سورية وفي بلدان المشرق العربي بالإصلاح التدريجي السلمي (ص 274)، كي لا يتحوّل الصراع الجاري في سورية، من نضال ضد الاستبداد إلى صراع طائفي (ص 273)، ‘ففي الحروب الطائفية والإثنية ليس هناك حق يجب أن ينتصر، وباطل يجب أن يُدحر، وهي في العالم المعاصر لا تنتهي إلا بالانفصال أو بالتسويات. والتسويات الطائفية هي انفصال أيضًا، لكنه انفصال منظّم دستوريًا في داخل الدولة الواحدة’ (ص 275). وفي هذه الحال لا بد من تسوية سياسية في نهاية المطاف. والتسوية ليست بالضرورة سلمية، إلا أنّها يجب أن تتضمن رحيل النظام وبقاء الدولة والتحول التدريجي نحو الديمقراطية. ومن دون هذه التسوية، سيتحول الصراع إلى قتال طائفي وإثني، وتتحول سورية إلى دولة فاشلة حتى لو هُزم النظام. وينهي الكاتب كلامه في هذا المجال بالقول: لا يكفي إسقاط النظام في ما لو سقطت الدولة معه، ولا بد من برنامج سياسي شامل للجميع لبناء سورية المستقبل.
***
بعد نحو ثلاثين شهرًا على اندلاع حركة الاحتجاجات في سورية تغيّرت الأحوال جذريًا في هذا البلد العربي المهم، واختلفت الوقائع الجارية اليوم عن بداياتها في الأمس اختلافًا جليًا. وها هي سورية اليوم متسربلة بحروب طائفية واثنية متمادية جعلت فكرة الثورة على الاستبداد في مهب الريح. وقصارى الكلام في هذا الشأن هو أن النظر إلى الثورة السورية على أنّها مجرّد ثورة شبّان عفويين خرجوا على الاستبداد مدفوعين بقيم الكرامة والحرية، وتطلعوا إلى إسقاط هذا النظام الفاسد والمستبد إنما هي نظرة مبنية على معرفة حسية مباشرة. وهذه المعرفة، على أهمّيتها أحيانًا، إلا أنها تحاكم الأمور بثنائية على طريقة ‘هذا رأس فلا بد أن يكون فيه دماغ’، أي: ما دام هناك استبداد، إذًا يجب أن تكون هناك ثورة. وهذه المحاكمة ربما تكون صحيحة أحيانًا، لكنّها بلغة أهل المنطق غير صادقة في معظم الأحايين. فالثورة السورية الشعبية والعفوية والسلمية ما عادت على صورتها التي انطلقت بها في البدايات، لأن الشعب السوري، بكل بساطة، صار لاجئًا في المنافي أو في مناطق أكثر أمانًا في وطنه. وفاعليات الثورة التي اتّخذت دائمًا شكل التظاهرات الشعبية الاحتجاجية، انقرضت من المشهد السوري، وحل في محلّها قتال ضار يدور اليوم بين النظام وأجهزته وأعوانه، وبين المجموعات المقاتلة المختلفة التي تتلقى العون من الخارج، وكل مجموعة لها جدول أعمالها الخاص الذي يناقض جدول الأعمال الخاص بأي مجموعة أخرى، ويناقض على طول الخط الفكرة الأصلية للثورة السورية أي القضاء على الاستبداد وتأسيس دولة عادلة وديمقراطية معًا.
أُجهضت الثورة السورية ولو موقتًا، وخسر الشعب السوري فرصة القضاء على الاستبداد والسير نحو دولة المواطنين العصرية؛ فالثورة تقوم بها جموع الشعب الذي هبّ للخلاص من نظام جائر أناخ بكلكله على صدورهم طوال خمسين سنة. لكن الشعب صار مشتّتًا في المنافي القريبة والبعيدة، وهذه الجموع المقاتلة ليست جموعًا مسيّسة بالمعنى السوسيولوجي لهذه الكلمة، إنما هي جموع غير عقلانية متسربلة أحيانًا بالفكر الغيبي ومفعمة بغريزة تدميرية، وبالرغبة في الموت في سبيل فكرة مقدسة متعالية على الحياة اليومية. وهذا المقدّس هو الذي يحرّك هذه الجموع المنتشية بالدم والعنف والخراب.
إن المجتمع السوري، المقيم والمشتت، بدأ يرفض ‘الثورة’ للأسف، كما رفض نظام الاستبداد، وها هو اليوم عالق بين ‘ثورة’ يخافها وصار لا يريدها، وبين استبداد تجرع علقمه وعلم عذاباته ويخشى من بقائه واستمراره. وهذه من المفارقات المؤلمة للثورة السورية.
القدس العربي