تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

نشيد الأنشاد الذي لنا

2008-09-06

عرضعلاء حليحل

Image removed.«نشيد الأنشاد الذي لنا» (المركز الثقافي العربي) هو الكتاب الثالث لعزمي بشارة الذي يبتعد فيه عن التنظير والتحليل في السياسة والمجتمع والفلسفة. إذ سبقه «الحاجز» و«حبّ في منطقة الظلّ». ولَمّا بدا الكتابان الأوّلان تأسيساً حثيثاً نحو سردٍ روائيّ مكثف يستحضر السياسة بمعناها الوجوديّ والمَعيش، لكنّه لا يستسلم لها، فإنّ كتاب بشارة الثالث «نشيد الأنشاد الذي لنا»، يستحضر اللغة، لغة المكان ولغة الشخص ولغة البيان، بهدف التعمّق أكثر في الحالة، في المكان والشّخوص.
يُخيفني هذا النصّ قليلاً، كفلسطينيّ، لأنه مليء بالتعب والحمى (وردت كلمة «تعب» 12 مرة في النصّ)، بالبحث عن مُتّكأ في زمن لا مُتّكأ فيه. ويخيفني كقارئ لأنه يفرض نصاً غير معهود، لا بتقنياته ولا بأهدافه ولا بمضامينه. إنه من نوع النصوص التي يمكن أن تحبها كثيراً أو أن تبتعد عنها كثيراً.

أناشيد سليمان كتبها هو على الأغلب، مع أنّ بعض التفسيرات تنزع اتجاه أنّ أبيات الحب هذه كُتبت عنه أو له، وجُمعت عبر الزمن، وهذا يجعل تاريخ وضعها قبل السّبي البابليّ بقليل. تفسيرات كثيرة تحوم حول أنّ أناشيد سليمان هي قصة حب فاشلة من طرف سليمان لامرأة كان حبيبها راعياً، فاختطفها سليمان لنفسه وفرّ الحبيب، إلا أنّ الحبيبة المختطفة أبت أن تتنازل عن حبها. وفي النهاية يرضخ سليمان لهذا الحب الكبير ويتركها لحبيبها.

كُتبت أناشيد سليمان كأناشيد حبّ «حسّية»، بمصطلحاتنا العربية الغزلية (توصيف شبقيّ من النصّ يستعمل صراحة التعبير خصوصاً بتعداد أعضاء الجسد الأنثوي والتغزل بها). إنه نصّ اشتياق ولوعة، وفي هذه النقطة يشابه النصّ القديم نصّ بشارة الجديد؛ فبشارة يشتاق إلى «فلسطين»، إلى حالة فلسطينية بالأحرى، إلى حبيب هو الوطن وإلى وطن هو الحبيب. إنه ليس غزلاً «حِسّياًَ» كما يمكن أن يتوقّع المرء، إنه غزل مَحموم لما كان يجب أن يكون، لجميع اللحظات التي لم تأتِ بسببٍ منّا أو بسبب من «الآخر»، ولتلك التي غابت أو على وشك أن تغيب: «تُغمِضُ القبلةُ فمي وعينيَّ/ تَفتحُ خاتمتُها جفنيَّ/ فيبهرُني الضوءُ/ تفتحُ نهايتُها شفتيَّ/ على لهفةِ التنهّدِ/ على تنفُّسِ الصّعداء/ على روحِ الهواءِ/ على تورّد الخدودِ/ على هربِ العيونِ من العيونِ/ ثمالةُ الخجلِ العنيدِ/ تأبى مغادرةَ المسافةِ بيننا/ بعد تبدّد الحدودِ...» (الإصحاح الأول).

ويحاول بعضهم الذهاب أبعد من ذلك والتعامل مع أناشيد سليمان على أنها نصّ صوفيّ شبيه بالنصوص الإسلامية، أي أنّ المعشوق المتغزَّل به هنا هو الله أو الذات الإلهية التي يسعى العاشق(ة) إلى الالتحام بها، على غرار أشعار ابن عربي ورابعة العدوية وغيرهما. وفي هذا السّياق، يمكن صبغ أناشيد بشارة بهذه الصفة أيضاً، فالحبيب المشتهى، موضوع التوق والشوق، هو رمز لما هو أكبر وأبعد؛ رمز للرغبة في الالتحام والمزاوجة مع ذات أكبر، مع كينونة أرحب وأكثر دلالة.
«نشيد الأنشاد الذي لنا» هو نصّ فلسطينيّ ضارب الجذور، ترد فيه كلمة فلسطين 4 مرات، وأسماء المدن والأماكن في فلسطين التاريخية. بمعنى أنّ الكاتب لا يخشى «مَحلية» النص، بل يُسخّرها في خدمة الفكرة والحالة والصورة.

لا يعتبر الكاتب نصّه شعراً، علماً بأنّه كذلك إلى حدّ بعيد، بل يعتبره نصاً إيقاعيّاً. لكنّ الالتزام بتعريف الكاتب لنصّه هو أجدى وأحكم، لأنّ حشر الكتاب في خانة شعرية تقنية، سيُحيله إلى مقارنات لنصل إلى السّؤال الاستسهالي ــــ العِراكيّ: هل هذا شعر؟ النصّ مكتوب برومانسية مكظومة، أو مكبوتة انتصرت في النهاية رغم خشية الكاتب. مكظومة لأنّها لا تسترسل في حضورها الذي قد يتحوّل إلى ثقيل وبائس سريعاً، فالكاتب أكثر حِنكة من هذا. إنه يُطلّ على الرومانسية، رومانسية الفراق، الأرض، الحبيبة، الروائح فيُحييها، إلا أنّه لا يبقى ليشرب القهوة معها، رغم إلحاحها الشديد. هي مُضيفة، هذه الرومانسية، صاحبة بيت، إلا أنّ ابنها، مُستحضرها، يعرف جيداً متى يصطحبها إلى الفراش لتخلد إلى النوم، وليستيقظ وعيه ونقديته من جديد.

يقارب الأسلوب النصّي هنا بعض كتابات أنسي الحاج، وبالأساس مجموعة «خواتم»، في بعض نصوصها وليس في جميعها طبعاً. لكن الخط الرفيع الجميل الواصل بين نصوص «خواتم» (المجموعة المنشورة في 1991) وبين النصّ هنا يشير إلى جمالية نصية متقاطعة، ولكنها خصوصية في الوقت ذاته.

هذه كتابة جديدة (خصوصاً للكاتب والكتابة العربية عموماً) وكونها كذلك، فإنها تظلم صاحبها؛ فهي تحتاج إلى الاختمار والتخمّر. النص ليس سردياً خالصاً ولا «حالاتياً». إنه في الوسط، وهذا الوسط لا يتلاءم مع الوضوح والنصاعة التي يطرحها من حيث التجربة والمضامين. هذا نص كالحسام، إلا أنّ المُقرئ يلقيه ببعض الإطالة وأحياناً ببعض الترهّل (النابع من حتمية التأمل). هذه المواقع ليست متعددة في النص، لكنها تبرز بشدة على خلفية المزايا الأخرى.

الفجيعة سيدة الموقف؛ في حضورها الوجوديّ العميق، في اختيار الكلمات وبناء الجمل الإخبارية تارةً والتحليلية طوراً والترنيمية تارة أخرى. إنّها الفجيعة الشخصية التي يُراد لها أن تتحول إلى فجيعة عمومية، وهي الفجيعة العمومية (غياب فلسطين، غياب الوطن، غياب المعنى).

بشارة كتب النشيد «الذي لنا». أي: هو وهي وأنا. هؤلاء هم جميعنا، وتبدّل الراوي وهويته وجنسه (في بعض الإصحاحات) لا يُفسد السّرد، بل يُغنيه. التنقل من راوٍ إلى راوٍ هو عمل ديموقراطيّ في الدرجة الأولى. كيف؟ الكاتب يقول لكم ببساطة: لن أسيطر على السّرد، لن أطعمكم جسدي روايةً واحدةً ووجهة نظر واحدة، بل سأروي لكم أكثر من قصة، على أكثر من لسان. هو يروي، هي تروي وأنا أروي. هذه روايتنا، اقرأوها كما شئتم، لكن لا تنسوا أنّها الرواية «التي لنا»، تبحث عن الأشياء الصغيرة الحميمة لتقول كل ما يمكن أن يُقال عن الأشياء الكبيرة:
«لم يبحثْ عن ثورةٍ عندي/ بل عن خفقانٍ رتيبٍ للقلبِ/ عن انسجامِ الروحِ مع الأشياءِِ/ ولو كان/ اتساقَ مكروبٍ بكرِبِ/ عن انسيابٍ في الدنيا/ إذا لقَّنْتُها لغةَ الحبّ» (الإصحاح الخامس).